قضايا راهنة

تكافؤ اليورو – دولار يثير الذعر في الأوساط الأوروبية.. الأسباب والتداعيات

يُعتبر اليورو أحد العملات الرئيسية الهامة في الاقتصاد العالمي، وشكّل – إلى جانب الدولار والجنيه الإسترليني، منذ إطلاقه عام 1999- ملاذاً احتياطياً لمعظم البنوك المركزية حول العالم. إلا أن اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، أثّر بشكل كبير على قيمة اليورو، ومن المتوقع أن تتفاقم خسائره، إذا ما صعّدت موسكو من إجراءاتها الانتقامية من الدول الأوروبية، وخاصة في سياق حجب المزيد من إمدادات الغاز عنها. فقد تراجع اليورو منذ بداية شهر حزيران الجاري أمام الدولار، ليبلغ مستوىً قياسياً لم يبلغه منذ عشرين عاماً، فوصل إلى حدود 0.99 دولار لليورو الواحد، بتاريخ 13 حزيران يوليو الجاري، وهو مستوى لم يبلغه اليورو منذ عام 2002.

الشكل التالي، يوضح سعر اليورو مقابل الدولار منذ عام 2003، وحتى اليوم:

سعر اليورو مقابل الدولار منذ عام 2003، وحتى اليوم (المصدر: موقع DW)

اليورو بانخفاض نتيجة التشابكات المالية العالمية

ليس من الحكمة – اقتصادياً- التشدّد في سياسة سعر الصرف، ضمن إطار السياسة النقدية لدى مختلف الدول. ولكن يُعتبر سعر الصرف مؤشراً اقتصادياً، يعكس جودة الأداء الاقتصادي من جهة، ويظهر استقراره استقراراً في الأسواق المكونة للاقتصاد الوطني (سوق عناصر الإنتاج – سوق السلع والخدمات – سوق النقود)، كما أن استقراره يكون محفّزاً أيضاً على تحسين مستويات الأداء الاقتصادي، ضمن مختلف الأنشطة الاقتصادية، من الاستثمار إلى الإنتاج إلى الاستيراد، وتدفقات رؤوس الأموال، والقدرة الشرائية للمستهلكين، وأسعار السلع، والخدمات في السوق، وغيرهم.

ما يثير الانتباه اليوم، أن التشابكات المالية في الساحة الاقتصادية العالمية، وارتفاع معدلات التبادل التجاري بين الدول، أدّت بشكل واضح إلى أن تطبيق السياسات النقدية وآثارها في دولة ما تنعكس على مستويات الأداء الاقتصادي ومؤشراته في دول أخرى، خاصة إذا كانت الأولى دولة قوية اقتصادياً، كالولايات المتحدة الأمريكية.

إن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية، شكّل حالة من الذعر، أدت بالبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى اتخاذ سياسات أكثر تشدداً، كرفع معدلات الفائدة بمعدل 75 نقطة مئوية، كخطوة لم يتخذها البنك منذ سنوات طويلة، الأمر الذي انعكس على قوة الدولار في الأسواق العالمية، وزيادة الطلب عليه؛ كما انعكس أيضاً ارتفاعاً في تكلفة الاستيراد، وخاصة عناصر الطاقة والغذاء في الدول الأوروبية، التي باتت تعاني من نقصها في الأسواق. وإذا ما أضفنا هذه الضغوط إلى الضغوط الاقتصادية الناجمة عن زيادات في خدمة الديون، فإن الأمر سيصبح أكثر كارثية خلال الفترة المقبلة، من حيث الضغوط على اليورو، ومستوى أدائه في الأسواق المالية العالمية.

عيوب اليورو المنخفض وانطباعات سلبية لدى الأوروبيين

لم تمر حادثة تكافؤ سعر صرف اليورو مع الدولار، وتراجعه إلى أقل من دولار واحد، على عموم الأوروبيين بشكل طبيعي، بل على العكس تماماً، فقد ترك هذا الأمر انطباعات سلبية، وأثار مخاوف عديدة لديهم عن مستقبل اقتصاد منطقتهم، في ظل إظهار السلطات النقدية عجزها عن مجابهة هذا الأمر، الوارد أصلاً في سياق ارتفاع معدلات التضخم في منطقة اليورو لمستويات قياسية، بلغت حتى الآن 9.1%، لأسباب مختلفة.

للوهلة الأولى، يبدو – اقتصادياً – أن الانخفاض في قيمة العملة يأتي عادة لصالح الدولة ذات السعر المنخفض، فيما يتعلق بمسائل التجارة الخارجية، وهذا ما كان عليه اليورو سابقاً، قبل انتشار جائحة كورونا، والتباطؤ الاقتصادي الذي حصل لاحقاً داخل اقتصادات الدول الأوروبية، حيث كانت دول الاتحاد الأوروبي الصناعية تستفيد من ذلك لزيادة صادراتها.

أما اليوم، فإن الانخفاض الحاصل في قيمة اليورو، وتكافؤه مع الدولار الأمريكي، هو انخفاض سلبي، وله عيوبه، التي يمكن تلخيصها كما يلي:

  • سيضطر الأوروبيون إلى دفع مبالغ أكبر لقاء الحصول على عناصر الطاقة، وخاصة الغاز، كما سيدفعون مبالغ أكبر لقاء المستوردات من الخارج، كون أكثر من نصف الواردات إلى منطقة اليورو تتم بالدولار.

الشكل التالي يظهر ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في دول منطقة اليورو:

ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في دول منطقة اليورو (المصدر: موقع نقاش الأسواق)

  • سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الوقود، كون أسعار النفط مرتفعة بالأساس، وهي مقوّمة بالدولار، وبالتالي سيحتاج الأوروبيون إلى دفع مبالغ أكبر من عملتهم لقاء الحصول على الوقود.
  • لن يستقيد الأوروبيون من انخفاض قيمة عملتهم في تلبية الطلب الخارجي على السلع الصناعية، بسبب ضعف القدرات الإنتاجية، والاختناقات الحاصلة في سلاسل التوريد، للحصول على مستلزمات الإنتاج، إثر جائحة كورونا.
  • إن ارتفاع قيمة الدولار مقابل اليورو، شكل حالة نفسية في السوق، أدت إلى التوجه نحو الدولار كملاذ آمن، وتحويل الودائع البنكية إلى الدولار.
  • ستضطر الحكومات الأوروبية إلى دفع مبالغ أكبر لتمويل موازناتها، بسبب ارتفاع مستويات التضخم، فقد باتت الاقتصادات الأوروبية – خلالها – بحاجة إلى يوروهات أكثر لتمويل النمو والأنشطة الاقتصادية المختلفة، مما يتسبب بارتفاع تكلفة الإنتاج، وبالتالي ارتفاعات جديدة في مستويات الأسعار.
  • سيفقد الأوروبيون المزيد من قدراتهم الشرائية، في ظل اندماج آثار التضخم الحاصل نتيجة ارتفاع الأسعار، مع آثار انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار. سيحتاج الأوربيون إلى يوروهات أكثر لقاء شراء العديد من السلع، وخاصة تلك التي يتم الحصول عليها بالدولار، مما قد يؤثر مستقبلاً على صناديق الاقتراع، وإعادة انتخاب الحكومات في الدول الأوروبية.
  • ارتفاع أسعار الغاز والوقود، نتيجة النقص المستمر في الإمدادات، بسبب الاختناقات في طرق المواصلات العالمية، بعد جائحة كورونا، ووقف إمدادات الغاز الروسي حيناً أو تخفيضها أحياناً أخرى، في سياق الحرب الاقتصادية التي نشبت بين الطرفين بدعم أمريكي.

لعله من الواضح أن مسألة انخفاض اليورو هي نتيجة للضعف البنيوي، الذي أظهرته الاقتصادات الأوروبية، إثر الحرب الأوكرانية، وارتفاع أسعار عناصر الطاقة، خاصة النفط والغاز؛ إلا أن الأمر تركَ انطباعات سلبية لدى الأوروبيين من جهة، وأثّر على أسواق أوروبا المالية من جهة ثانية، فضلاً عن ارتفاع تكاليف المنتجات، وتراجع القدرة الشرائية لدى الأفراد. ربما ذلك يدفعنا إلى القول: إن التضخم بات متجذراً في الاقتصاد الأوروبي، ولن يكون حالة عرضية تنتهي بانتفاء أسبابها.

تأرجح اليورو بين الأزمات والأحداث

تشير الأرقام – خلال سنوات عمل اليورو – إلى أنه دائماً ما كان يتأثر بشكل قوي بالظروف الاقتصادية، أو الأحداث والأزمات التي تمر بالعالم، أو بمنطقة اليورو نفسها، فيستفيد من القوة الاقتصادية لدول الاتحاد، ومن معدلات النمو القوية، ويخسر بسرعة غير متوقعة، حال حدوث أزمة أو ما شابه، ولعل ارتباطه بالقرارات الاقتصادية، وآليات إدارة السياسة النقدية لـ 27 دولة متباينة الاقتصادات، يجعل منه عرضة للتذبذب الكبير، وعدم القدرة على التحكم بمساراته بالسرعة المطلوبة، مقارنة بعملات الدول الأخرى كالدولار، الذي يتم اتخاذ القرارات بشأن السياسات المالية والنقدية، أو حتى القرارات السياسية المتعلقة به، عبر مؤسسات تتبع لدولة واحدة، مما يجعل من الوصول إلى الحلول للمشكلات التي تلم باليورو صعبة، أو شائكة على أقل تقدير.

تعرّض اليورو خلال مسيرة حياته – منذ عام 1999، وحتى الآن – لضغوط كبيرة، نتيجة الأزمات الاقتصادية، أو الأحداث الجيوسياسية التي تحدث في العالم، أو داخل القارة العجوز؛ كان أبرزها انخفاض قيمته بمقدار 12.59% عام 2005، عندما رفضت العديد من دول الاتحاد الدستور الأوروبي الموحد.

كذلك، تأثر اليورو بشكل كبير بالأزمة المالية، التي بدأت من الولايات المتحدة عام 2008، وأثرت في الاقتصادات العالمية المختلفة، والتي كادت أن تودي ببعضها إلى الافلاس، كالاقتصاد اليوناني. في السنوات التالية للأزمة، شهد الاقتصاد الأوروبي تراجعاً في معدلات النمو، ومستويات التشغيل، لتودي تلك المؤشرات بالعملة الأوروبية إلى حدود 1.04 دولار.

أسباب خسائر اليورو

اليوم، وقد تجاوز اليورو حدود التكافؤ مع الدولار، إلى ما دون الدولار الواحد، فإنه يتوجب على المحللين الاقتصاديين الأوروبيين، الوقوف جلياً أمام هذه الحالة، التي انعكست في الأسواق الأوروبية، وأثرت في الحالة النفسية لها، وبشكل مباشر، للتوصل إلى الأسباب التي أودت باليورو إلى الانخفاض، وإمكانية طرح الحلول الممكنة، بالسرعة الكافية، تجنباً للمزيد من الخسائر فما هي تلك الأسباب:

  • منذ عام 2020 يواجه اليورو ضغوطاً كبيرة، تمثلت بانخفاض التوقعات الاقتصادية لمنطقة اليورو، وتباطؤ النمو، نتيجة تداعيات انتشار جائحة كورونا، ثم رفع إجراءات الحظر، وما تركته هذه التداعيات من آثار كبيرة على مستويات الإنتاج، والتوريد، والتوزيع، وغيرهم.
  • إن اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية دفعت بتلك الضغوط إلى مستويات هائلة، بعد التدهور الكبير في العلاقات الاقتصادية الأوروبية الروسية، وفرض دول الاتحاد العقوبات الاقتصادية الصارمة على موسكو، إلى جانب الولايات المتحدة.
  • التهديد المستمر بقطع إمدادات الغاز، كان من أهم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وفرض الأوروبيين – إلى جانب واشنطن – عقوبات قاسية على موسكو، ولكن ما حدث كان أشبه بمن يقاتل نفسه؛ فأوروبا – ومن خلال هذه العقوبات – أرادت أن تجبر القيادة الروسية على التراجع عن حربها ضد أوكرانيا، إلا أن ما حدث أن الاعتماد الكبير لدول الاتحاد الأوروبي – وخاصة كبراها، كالاقتصاد الألماني – على الغاز والنفط الروسيين، دفع بمعدلات التضخم نحو الأعلى، في ظل التضخم الذي كان حاصلاً بالأساس نتيجة الظروف التي خلفتها جائحة كورونا، الأمر الذي ساهم ولا شك بارتفاع مستويات الأسعار، وخسارة الأوروبيين نسب عالية من قدراتهم الشرائية، لم يتعودوا عليها سابقاً.

الشكل التالي، يوضح نسب اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي:

نسب اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي (المصدر: موضح على الشكل نفسه)

  • واقع التضخم، وأسعار الفائدة في الاقتصاد الأمريكي، الناجم عن تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد الأمريكي، وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، لم تبلغها منذ أكثر من أربعين عاماً، وقد أدرك الساسة الاقتصاديون الأمريكان خطورة ما يحدث على الاقتصاد الأمريكي.

لذلك، ومع بدء الشرارة الأولى للحرب في أوروبا، فعّلت الولايات المتحدة تشابكاتها المالية والاقتصادية، والعديد من العوامل الجيوسياسية، لنقل جزء كبير من الأعباء المتثاقلة على اقتصادها إلى خارج حدودها، وقد نجحت في ذلك مع دول الاتحاد الأوروبي – حلفائها السياسيين والعسكريين – من خلال تفعيل العوامل التي أدت إلى نشوب تلك الحرب، التي دخلها الأوروبيون بطريقة غير مباشرة عسكرياً، وبطريقة مباشرة اقتصادياً، في مواجهة الدب الروسي، المسيطر على أوروبا طاقياً، وخاصة إمدادات الغاز، التي باتت سلاحاً فتاكاً، تستخدمه روسيا بأساليب وطرق مختلفة، لتشكل طوقاً على رقبة الأوروبيين، تزيد من الاختناقات الاقتصادية لديهم.

  • انعكاس آثار الحرب الروسية – الأوكرانية على الحلفاء الأوروبيين، فارتفعت أسعار عناصر الطاقة والوقود، ثم ارتفعت أسعار السلع والمنتجات والخدمات في الأسواق الأوروبية، فارتفعت معها مستويات التضخم، وتراجعت قيمة اليورو إلى مستويات مخيفة متجاوزة حالة التعادل مع الدولار، فشبح إطالة أمد الحرب بات يخيم على أوروبا، بعيداً عن أراضي الولايات المتحدة، وبذلك فقد نقلت النسبة الأكبر من عبء التضخم الناجم عن الاختناقات في سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار النفط، بعد انتشار جائحة كورونا إلى منطقة اليورو، حيث وصل التضخم مؤخراً في الولايات المتحدة إلى 9.1%، الأمر الذي دفع ببنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة بمقدار 150 نقطة مئوية خلال ثلاثة أشهر، مقابل الثبات في أسعار الفائدة لدى البنك المركزي الأوروبي.
  • تشير توقعات العديد من المؤسسات المالية والمصرفية المتخصصة، إلى أن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة قد تصل إلى 3% مقابل 1% لدى دول الاتحاد الأوروبي.

لذلك، فإن تخلّف البنك المركزي الأوروبي في مسألة رفع أسعار الفائدة، بسبب ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة حجم الضغط على التباطؤ الاقتصادي، وعلى معدلات النمو، داخل اقتصادات منطقة اليورو، كان دافعاً لتوجه رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة، بسبب ارتفاع العوائد على السندات الحكومية الأمريكية، مقارنة بالعوائد في الأسواق الأوروبية، مما حفّز نحو المزيد من عرض اليوروهات، وتحويلها إلى الدولار، بهدف استثمارها هناك، مما ساهم بتراجعات جديدة في قيمة اليورو مقابل الدولار، الذي أصبح يشكل ملاذاً آمناً مع استمرار الحرب في أوروبا، وتفاقم تداعياتها، الأمر الذي ينبئ بالمزيد من التراجع في قيمة اليورو خلال المدى القصير القادم.

ختاماً

تتعرض منطقة اليورو اليوم لضغوطات اقتصادية هائلة، ويقف البنك المركزي الأوروبي أمام تحديات متضادة الحلول، فضعف اليورو يدفع بالبنك نحو رفع أسعار الفائدة، ولكن الحالة الاقتصادية لدول الاتحاد، وتباطؤ معدلات النمو، تحول دون ذلك، كونها سترتفع مع تكاليف الاقتراض، وتؤثر على معدلات النمو، مما قد يحرك الركود الاقتصادي بشكل متسارع داخل اقتصادات الدول الأوروبية.

فالانكماش الاقتصادي في دول منطقة اليورو، يشكل حاجزاً قوياً أمام البنك الأوروبي، فيما إذا فكر مسؤولوه في رفع معدلات الفائدة، كما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية.

لذلك، من المتوقع – وضمن الظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع معدلات التضخم، وحالة الحرب التي تعيشها – أن يستمر اليورو بالانخفاض أمام العملات الأخرى وخاصة الدولار الأمريكي، وهذا ما سيدفع باتجاه تراجع القدرات الشرائية للأوروبيين من جهة، بسبب ارتفاع الأسعار الناجم عن ذلك، وباتجاه زيادة حجم التكلفة الاقتصادية لمستوردات المؤسسات والشركات الأوربية من جهة ثانية.

لتحميل الدراسة بصيغة PDF

زر الذهاب إلى الأعلى