مقالات رأي

الاصطفافات الجديدة بين قمتي جدة وطهران

تشهد منطقة الشرق الأوسط سلسلة تحركات دبلوماسية نشطة، وعلى مستوياتٍ عاليةٍ هذه الأيام، أبرزها زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة، والمشاركة في “قمة جدة” التي عُقِدت في السادس عشر من الشهر الجاري في السعودية، كذلك الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعاصمة إيران –طهران- وعقد قمة ثلاثية هناك مع نظيريه الروسي والإيراني في التاسع عشر من الشهر الجاري، والتي تحمل دلالات سياسية ودبلوماسية هامة، من حيث توقيت عقدها.

رغم الاختلافات والرسائل المنفصلة لكلّ من الزيارتين؛ إلّا أنّه من الواضح أنهما تتجهان لترتيب اصطفافات جديدة في المنطقة، متعلقة بالقضايا الاستراتيجية بشكلٍ أعمقٍ، وأبعد مما يمكن أن يراه المراقبون في الوقت الحالي، نتيجة القضايا المعقدة والمتشابكة في المنطقة، والتي تخص جميع الأطراف، بشكل مباشر أو غير مباشر، وكذلك مدى ارتباط تلك القضايا بالعديد من الملفات الساخنة الأخرى في العالم، كالحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها، والأزمة اليونانية-التركية، والملف النووي الإيراني، حيث وصوله إلى طريقٍ شبه مسدود.

وإذا ما نظرنا إلى هذين الحدثين الدبلوماسيين المهمين (قمة جدة وقمة طهران)؛ فإن الصورة تبدو واضحةً من حيث العديد من المعالم التي تظهرهما، فتزامن قمة طهران مع زيارة الرئيس الأمريكي بايدن إلى المنطقة -دون المرور بأنقرة- تحمل الكثير من الإشارات والاستفهامات، منها: إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيون، لم يعودوا مقتنعين بالخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية التركية، وتداعياتها على شركائها في حلف الناتو.

هنا، والسؤال المطروح الآن: هل جاء تزامن هاتين الزيارتين -وعلى جبهتين مختلفتين- محض صدفة، أم أن لها دلالات سياسية ودبلوماسية معيّنة كما ذكرنا؟ خاصةً أن زيارة بايدن هي الأولى إلى المنطقة، منذ توليه الحكم.

دلالات توقيت عقد “قمة طهران”

من الواضح أن جميع القوى ذات المصالح المتناقضة، تتجه الآن نحو اصطفافات دولية جديدة، وتعمل على تقوية التخندق من خلال عقد اتفاقيات تحمي من خلالها مصالحها، ولعل “قمة طهران” تكون بداية جديدة لتكوين علاقات استراتيجية جديدة في المنطقة، تحمل في طياتها توجهات مشتركة للقائمين عليها تجاه الكثير من القضايا، والملفات الساخنة، والخطيرة، والاستراتيجية، والتي تخص تلك القِوى.

لعلنا نشير الآن إلى مسألةٍ مهمةٍ جداً؛ وهي أن هذه القمة الثلاثية التي ستُعقد في طهران، تحمل دلالات جديدة، فبالرغم من اجتماع هذه الدول الثلاث -بشكل دوري- سابقاً، وتحت اسم “محادثات أستانا”، إلا أن هذه المرة سوف يكون الاجتماع بعيداً عن سقف أستانا، وهذا يعني أن المواضيع التي سوف تُناقش في هذه القمة، ستكون أبعد من سوريا، ومتعلقة بالمصالح الاستراتيجية المشتركة بين الدول الثلاث التي تعاني -أساساً- من أزمات في سياساتهم الداخلية والخارجية، وأهم التحديات أمامها في مواجهاتها المباشرة (كما هي الحال لدى روسيا وإيران)، أو غير المباشرة (كما هي الحال لدى تركيا مع الولايات المتحدة وحلفاءها من الدول الأوروبية)،وتجدر الإشارة إلى أن هذا لا يعني أن الملف السوري لن يكون على طاولة النقاش، ولكن ليس كما يعتقد الكثيرون، أن النقاش سوف يدور حول دعم الدول المشاركة في هذه القمة للعملية العسكرية التركية المرتقبة في شمالي سوريا (ضد مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا)، حيث من الواضح أن خلق حالة عدم الاستقرار في تلك المناطق لن يكون في صالح إيران وروسيا، فهي مناطق نفوذها، ومن المرجح أن جوهر الملف السوري في تلك المحادثات، سيكون متعلقاً بموضوع تطبيع علاقة الحكومة التركية مع النظام السوري.

دلالات مشاركة تركيا في هذه القمة

إن دلالات مشاركة تركيا في “قمة طهران” تتجلى في أكثر من ناحية، وتتعلق بالسياسة الخارجية التركية، وعلاقاتها مع دول المنطقة، وروسيا، بالإضافة إلى تشابك هذه العلاقات مع الملفات القائمة فيها، وخاصة الملف السوري والأوكراني من جهة، وتبلور شكل جديد من العلاقات التركية مع دول الناتو، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، من جهة أخرى.

الزاوية الأكثر وضوحاً في هذه المسألة، هي خيبة أمل أردوغان في إمكانية تصحيح مسار سياساته الخارجية، بهدف الاصطفاف إلى جانب التحالف الغربي من جديد؛ فالغرب -ومن ضمنه الولايات المتحدة- لم يفتح المجال أمام تركيا للعودة إلى خط  تحالف دول الناتو مرة أخرى، وهذا ما كان واضحاً من خلالِ عدم تطبيع دول المنطقة المتحالفة مع القوى المهيمنة والعالمية (إسرائيل- بريطانيا- الولايات المتحدة)، علاقاتها مع حكومة العدالة والتنمية، علاوة على ذلك، فإن تغييب تركيا عن الكثير من التحالفات الجديدة ومنتديات الغاز، إلى جانب تقوية النفوذ الأمريكي في اليونان بدل من تركيا، ما هي إلا إشارات واضحة عن وجود نية في استبعاد تركيا عن هذه التحالفات والتقاربات، وفرض عزلة دولية عليها؛ لإبقائها دولة منكمشة على ذاتها، ضمن الحدود المرسومة لها سابقاً، الأمر الذي يتنافى مع سياسات الحكومة التركية. هناك نقطة مهمة أخرى مرتبطة بالسياسة الخارجية التركية، هي أن فرصة لعب هذه الحكومة على الكثير من الحبال في آن معا قد تقلصت الى حد بعيد، لذا، فإن هدف التوجه التركي نحو “قمة طهران”، متعلق بمحاولاتها في الاصطفاف إلى جانب الدول المشاركة وبناء علاقات استراتيجية معها، فأنقرة، التي لم تشعر بالدفء في “الحضن الغربي”، ترتمي اليوم إلى “الحضن الشرقي”.

زر الذهاب إلى الأعلى