قضايا راهنة

الجولة الأخيرة لحزب العدالة والتنمية

مقدمة

في ظل الحديث عن إجراء انتخابات عامة ومبكرة في أوساط المعارضة التركية، في تشرين الثاني من العام الجاري، فإن الوضع الراهن الذي تعيشه تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، سواءً على صعيد السياسة الداخلية أو الخارجية، لا يُرجّح كفة الميزان لصالح مطالب المعارضة، ويبدو أن الانتخابات سوف تُجرى في موعدها المقرر، وهو حزيران/ يونيو 2023.

تشير استطلاعات الرأي – التي تقوم بقياس الرأي العام – إلى انحسار التأييد لحزب العدالة والتنمية، وتراجع فرص حصوله على الأصوات في الانتخابات العامة المقبلة.

هنا، يمكننا طرح الأسئلة التالية: ماذا تخبئ المرحلة المقبلة لحكومة العدالة والتنمية؟ وهل ستسمح الظروف الدولية باستمرار حكومة الحزب الحاكم في تركيا؟ وما هي التحديات والسيناريوهات المحتملة التي ستواجه هذه الحكومة؟

تأسست تركيا على أنقاض الدولة العثمانية، في بدايات القرن العشرين. ولمواكبة العصر، تبنّت دستور علماني مدني، واعتمدت النظام الجمهوري والبرلماني في النظام السياسي للدولة. كما مارست سياسة الحياد في الكثير من المنعطفات الهامة في سياستها الخارجية، وبالتالي استمر النظام الجمهوري السائد إبّان حكم “مصطفى أتاتورك” ورفاقه في حزب الشعب الجمهوري، حتى أواخر القرن العشرين.

بالرغم من تتالي الحكومات، لم يتجرأ أحد على تغيير المبادئ الأساسية التي بُنيت عليها الدولة، فكل من حاول إحداث أي تغيير في بنية الدولة، إما تعرضوا للسجن (سجن وإعدام عدنان مندرس[1])، أو للاغتيال، كما حصل مع “تورغوت أوزال”[2]، الذي حاول الانفتاح على النظام العالمي من ناحية، ومن ناحية أخرى تغيير شكل الدولة من دولة قومية ناكرة للهويات المختلفة الموجودة في تركيا – من خلال حل القضية الكردية وباقي الإثنيات – إلى دولة وطنية جامعة لكل الاختلافات، إلى أن انقلبت حكومة العدالة والتنمية على المبادئ الأساسية للجمهورية، والتي أخذت من الإسلام السياسي منهجاً جديداً للدولة.

حزب العدالة والتنمية تاريخياً

إن قوانين ودستور الدولة “العلمانية- المدنية” حاربت مخلفات وبقايا الدولة العثمانية بلا هوادة، مما خلق رد فعلٍ لدى رجال الدين والقاعدة الإسلامية في تركيا، وبالتالي، كانت النتيجة هي تنظيم هذه الفئة لنفسها ضمن أحزابٍ سياسية، تنتهج الدين الإسلامي كأيديولوجية للحزب، أو ما يسمى بــ “الإسلام السياسي”، وظلت هذه الأحزاب – لفترة طويلة – تعارض وتصارع على سلطة الدولة.

ظهرت بوادر تشكيل هذه التنظيمات في انقلاب12  أيلول \ سبتمبر 1980العسكري، حيث تأسس عام 1983 “حزب الرفاه” الإسلامي، عندما سمحت الحكومة العسكرية بتشكيل الأحزاب، وشكَّل الحزب حكومة ائتلافية (1996-1997) بقيادة رئيس الحزب، نجم الدين أربكان، آنذاك.

على الرغم من أن الأحزاب الدينية ليست جزءاً من ثقافة الدولة العلمانية، التي بناها مصطفى كمال أتاتورك، لكن لدى هذه الأحزاب ميراث ثقافي من الموروث الديني -لا يُستهان به- بحكم إسلامية الدولة والمجتمع، مما وفَّرَ لتلك الأحزاب قاعدة جماهيرية كبيرة، خاصةً أن الشعوب غير الناطقة باللغة العربية متأثرة بالدين الإسلامي أكثر من غيرهم، ومن السهل تنظيمهم في مجموعات وأحزاب دينية.

في ظل هذه التطورات، التي اتسمت بتصاعد حدة الاحتقان والتوتر بين الإسلاميين والنظام العلماني، وُلِدَ حزب العدالة والتنمية، الذي انشقّ بدوره عن الحزب الأم “رفاه” (حزب الرفاه الذي غير اسمه الى حزب “الفضيلة” المحظور في ذاك الوقت، في عام 2001)، وقدّم نفسه كبديل أنجع عن باقي الأحزاب الدينية.

 المهام المنوطة بـ”حزب العدالة والتنمية” من قِبل القوى المهيمنة في النظام العالمي

بعد أن طرح حزب العدالة والتنمية نفسه كبديل، أنيطت به عدة مهام، كالتكفل بجعل الدولة التركية – المنكمشة منذ فترة طويلة – أكثر انفتاحاً على النظام العالمي من ناحية، وإمكانية الجمع بين الإسلام السياسي أو “المعتدل” وقوانين الدولة العلمانية، إلى جانب حلّ المشاكل والقضايا التركية الداخلية، من نواحٍ أخرى.

لذا – ولتنفيذ ما طرحه – بدأ بالعمل على حل المشاكل الداخلية أولاً، والتي كانت تثقل كاهل الدولة التركية منذ أمدٍ بعيدٍ، وخاصةً القضية الكردية، حيث عاشت هذه القضية -لأول مرة- بعد محاولات تورغوت أوزال غير المكتملة، انفتاحاً، وشهدت ترويجاً لا يُستهان به من قِبل الإعلام، ومناقشتها في الوسط السياسي التركي؛ فمناقشة القضية الكردية، خلق تصدعاً في الذهنية الشوفينية الأحادية، والعنصرية الرافضة كلياً لقضايا الشعوب، وكان لهذا الانفتاح، وفرصة محادثات السلام المطروحة من قِبل السيد عبد الله أوجلان، دوراً في جعل حزب العدالة والتنمية أحد أقوى الأحزاب؛ حيث كان بإمكانه أن يشكل حكومة بمفرده، دون الحاجة إلى أحزابٍ أخرى، وبالتالي، ما يفهم من التغيرات التي قام بها حزب العدالة والتنمية في بداية ظهوره، بأنها مجموعة من المهام المنوطة به داخلياً، التي تلعب دوراً رئيسياً في تنفيذ المهام المنوطة به خارجياً.

أما خارجياً، ففي بداية تشكيل حكومة العدالة والتنمية، كان طرح سياسة “صفر مشاكل” مع دول الجوار من المهام الموكلة إليه، ففي منطقة الشرق الأوسط بدأت التيارات الإسلامية المتطرفة بتنظيم نفسها أكثر من أي وقت مضى، وكان لا بد من كبح جماح هذه التيارات، التي بدأت تهدد مصالح القوى المهيمنة، ومن مبدأ “لا يفلّ الحديد إلا الحديد”، تم العمل على إنشاء هكذا أحزاب – أمثال حزب العدالة والتنمية – للقيام بهذه المهمة، كأحزاب أكثر اعتدالاً إسلامياً من ناحيةٍ، خاصةً أن للغرب حكم مسبق على الشرق، حيث يرون أن الشرق كتلة متجانسة من الدين الإسلامي، والدين له تأثيرات كبيرة على المنطقة، لذلك عملوا على الاهتمام الكبير بأحزاب وتيارات إسلامية أكثر “اعتدالاً”، ومن ناحية أخرى، كان مهام هذا الحزب هو الانفتاح على دول الجوار، لجذبها وربطها بالدول المهيمنة على النظام العالمي، وذلك، لإفساح المجال لهم، والتدخل بسهولة وسلاسة في أية بقعة من المنطقة، والسبب أن الدول المتشكلة في المنطقة – في أعقاب انهيار الدولة العثمانية – بحسب اتفاقية “سايكس- بيكو”، دول قومية منكمشة في حدودها الضيقة، ولا تعطي فرصة للاستثمارات الأجنبية ضمن حدود دولهم، حيث لا تعطي فرصة لسيلان رؤوس الأموال الأجنبية، إضافةً إلى التطرف القومي الشوفيني الذي تعيشه هذه الدول، فمن الواضح، من خلال التحركات الدبلوماسية لخارجية الحزب الحاكم في تركيا، أن من مهامه الخارجية، تطويع القوموية الشيعية في إيران، والتطرف القوموي الشوفيني العربي في الدول العربية، وما العلاقات التي تجاوزت حدود العلاقات الدبلوماسية بين حكومة بشار الأسد وأردوغان، وعقد “اتفاقية أضنة” عام 1998، إلا جزءاً من محاولة الانفتاح هذه، إضافة الى محاولة إقامة علاقات مع كل من العراق، واليونان، وقبرص، والخليج العربي، من مبدأ سياسة “صفر مشاكل”.

شروط  “العدالة والتنمية” للقيام بالمهام الموكلة إليه

بات حزب العدالة والتنمية، يطالبُ بمضاعفة حصته، مقابل خدمة تلك الهيمنة. والسبيلُ إلى ذلك هو تخفيفُ وصاية الجيش عليه، وعدم حياكة انقلاباتٍ جديدةٍ ضده، ومضاعفةُ حصته من مكاسب الاستغلال المُسلَّطِ على الشرق في تطويعِ القومويةِ الشيعيةِ الإيرانيةِ، والإسلامويةِ الراديكاليةِ العربيةِ، والقومويةِ العلمانيةِ العربية.

مسيرة “العدالة والتنمية” منذ توليه السلطة والتحوّرات التي عاشها

بدأ حزب العدالة والتنمية مسيرته السياسية في تركيا، كحركة معارضة للنظام الحاكم آنذاك، واستطاع – في فترة وجيزة – أن يشكّل حكومته، عن طريق انتخابات نيابية، عام 2002، حين كسب غالبية الأصوات، ولكن كان لنجاحه هذا عدة أسباب.

كان لبرنامج حزب العدالة والتنمية الانتخابي دوراً كبيراً، حيث وعد في حملاته الانتخابية بحل الكثير من القضايا التي أصبحت عبئاً على كاهل الشعوب في تركيا، وكانت القضية الكردية أهم هذه القضايا، حيث قال أردوغان في خطابه أمام الشعب في ديار بكر: “إن القضية الكردية، هي قضيتي، ولا بدَّ من حلّها”. وهذا كان الخطاب الجماهيري الأول منذ نشوء الدولة التركية الحديثة، ولذلك ظنَّ الكرد – الذين لا يُستهان بأصواتهم- أن خطاب أردوغان هذا، يمكن أن يكون بادرة خير لحل قضيتهم. وبذلك كسب الكثير من أصوات الكرد لصالح حزبه، واستمالهم نحوه.

إضافةً إلى ذلك، استطاع إيجاد حلول، لإخراج الشعب من بوتقة الفقر الذي لازمه منذ تأسيس الجمهورية، حيث أن الشعب التركي كان يأمل في سياسة اقتصادية منفتحة أكثر على العالم، لتحسين دخل الفرد، وهذا ما كان الجزء المهم في البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية.

وكذلك، وعد أن يحافظ على علمانية الدولة ومؤسساتها. بمعنى أخر، حاول طرح برنامجه على أساس خَلقِ دمج بين علمانية الدولة وإسلامية الحزب الحاكم، إلى جانب وعده بتحسين العلاقات مع دول الجوار، من مبدأ سياسة “صفر مشاكل”.

سارت حكومة “العدالة والتنمية” على هذا النهج حتى عام 2011 تقريباً، حيث استفادت من مرحلة “محادثات السلام” التي أطلقها السيد أوجلان، والتي تخللها مراحل وقف إطلاق النار، مما خلق جواً مناسباً لتنشيط الاستثمارات الأجنبية داخل تركيا. وبالفعل، عاش الشعب مرحلة من الرفاهية، إضافةً إلى المكاسب التي أعطتها السياحة، نتيجة شبه الاستقرار الذي عاشته تركيا في تلك الحقبة.

علاوة على ذلك، أجرت تغييراً -لا يستهان به – في ذهنية التركيّ المتعصب. بمعنى آخر، فإن نقاش قضايا الإثنيات والأقوام غير التركية – والتي تعرّضت لسياسة التتريك في تركيا- أصبح أكثر سلاسةً، مقارنةً بالفترة التي سبقت عهد أردوغان، إضافة إلى إفساح المجال أمام الشعوب غير التركية في الإعلان عن هويتها، وممارسة ثقافتها، حيث لم يعد التكلم باللغة الكردية – مثلاً – جنح يودي بصاحبه إلى السجن، لذلك، فإن التغيّرات التي حصلت في تركيا، من تحسين مستوى المعيشة، وإعطاء نوع من الحريات، أدت إلى زيادة شعبية “العدالة والتنمية”، وكسب الانتخابات بشكل متتالي. ولكن ما شهدته منطقة الشرق الأوسط من حركات احتجاجية باسم “الربيع العربي”، أسالت لعاب الرئيس التركي أردوغان، وكشفت “الوجه الآخر” الحقيقي له، حيث غيّر من محوره مئة وثمانين درجة – سواءً في  سياسته الداخلية أو الخارجية – وبيَّن أطماعه في تحويل تركيا إلى قوة عالمية، تنافس بها الدول العظمى.

التحورات التي طرأت على سياسة حكومة “العدالة والتنمية” داخلياً

أغلقت حكومة العدالة والتنمية ملف “قضايا الشعوب” إلى أجلٍ غير مسمى، وعلى رأسه الملف الكردي، حتى بات النقاش في تلك القضية من المحظورات التي يُعاقب عليها بالسجن، ونتيجة ذلك، عادت حكومة “العدالة والتنمية” مرة أخرى إلى ممارسة سياسة الإنكار ورفض الآخر، حيث شدَّدت العزلة المفروضة على السيد أوجلان، وقامت ببناء سجون جديدة حيث رجع بالقضية إلى المربع الأول. وبذلك، عادت مظاهر العنف وعدم الاستقرار إلى المشهد التركي، فضلاً عن تأرجح الديمقراطية التي كانت تتباهى بها تركيا، وأصبحت على المحك، نتيجة إلغاء نتائج انتخابات البلديات، وتعيين رؤساء تابعين لحزب العدالة والتنمية، بدلاً من المنتخبين من قِبل الشعب.

إلى جانب التدخّل في شؤون الجيش – تحت ذريعة “الانقلاب العسكري الفاشل” عام 2016- وزجّ الكثير من الضباط والجنود “المشاركين” في الانقلاب، في أقبية السجون، وتضييق الخناق – بشكل مفرط – على حرية الرأي والتعبير، خاصةً ضد معارضيه، فبحجة “إهانة أردوغان” يُسجن العديد من المواطنين في تركيا. هذا عدا عن تجرؤ أردوغان على تغيير دستور البلاد عام 2017، وكذلك تغيير نظام الحكم من نظام برلماني (استمر لما يقارب من تسعين عاماً)، إلى نظام رئاسي عام 2017، ضارباً بعرض الحائط مواثيق وقوانين الجمهورية القديمة، ليحل مكانها “جمهوريته الجديدة”، فحتى القضاء – الذي كان يدّعي الاستقلالية – أصبح منحازاً لطرف مصالح رئيس الجمهورية، ففي “الجمهورية التركية الجديدة” بإمكان الرئيس أن يكون رئيساً للحزب الحاكم أيضاً، وهذه إضافة جديدة لحكومة “العدالة والتنمية”.

 التحولات التي طرأت على سياسة حكومة “العدالة والتنمية” خارجياً

حاول حزب العدالة والتنمية تنفيذ المهام الموكلة إليه في بدايات حكمه، إلا أنه فشل في ذلك، وبدأ بتغيير وتحريف اتجاه سياسته، فالسياسة الخارجية في عهد أردوغان، والتي كانت تسير وفق مبدأ “صفر مشاكل”، تحولت –لاحقاً- الى “صفر أصدقاء”، ثم إلى مشكلة عالمية، نتيجة علاقاته ودعمه للإرهاب العالمي. إضافةً إلى ممارسة سياسة “اللعب على الحبلين” مع دولٍ ذات مصالح متناقضة، مثل (روسيا وأوكرانيا؛ إسرائيل، وإيران؛ “الناتو”، وأعداءه،؛ ودول الخليج، وإيران…إلخ).

السيناريوهات التي من المحتمل أن تواجه حكومة “العدالة والتنمية

من الملاحظ أن هناك ترتيبات، وتحالفات جديدة، سواءً على المستوى العالمي أو الإقليمي، وعلى ما يبدو أن دور تركيا غير واضح في خِضَمّ هذه التطورات، فعلى ما يبدو تعيش تركيا عزلة دولية، خاصةً من جانب الدول الأوروبية، وأمريكا، وإسرائيل، وذلك بسبب علاقاتها المشبوهة مع “أعداء تلك الدول”، لذلك، تحاول تركيا – مؤخراً- إعادة مياه علاقاتها مع هذه الدول إلى مجاريها، لكن – وبناءً على مواقف تلك الدول- لا يوجد انفتاحٌ جديٌّ على تلك العلاقات؛ فحرب أوكرانيا وضعت تركيا في مفترق الطرق.

بالإضافة إلى ذلك، فإن دور تركيا محدود جداً في التغيّرات، والتطورات والتحالفات الواردة، أو الأصح، تركيا غائبة عنها، وهذا ما يقض مضجعها؛ فجميع محاولات تركيا هي في أن تكون جزءاً مهماً من مشروع التغيير الذي بدأ من العراق في 2003، مروراً بأحداث “الربيع العربي”، التي أثارت حماسها، وبدأت بمشاريعها الخاصة، بعيداً عن أخذ مصالح القوى المهيمنة عالمياً بالحسبان، وهي مشروع “العثمانية الجديدة” براً، ومشروع “الوطن الأزرق”[3] بحراً. وباعتبار أن “اتفاقية لوزان” قد اقتربت من مئويتها، فإن تركيا تطمع إلى إعادة صياغتها، وتأمل في عقد اتفاقية عالمية جديدة على أنقاض “اتفاقية لوزان”، التي تعتبرها مقوّضة لمصالحها، وترسخ – من خلال هذه الاتفاقية “الجديدة” – الجغرافيا التي دخلتها بحجة محاربة “الإرهاب”، حيث بنت قواعدها في بعشيقا المتاخمة لحدود الموصل في العراق، وكذلك اقتطاع الأراضي من الخريطة السورية، والضغط على اليونان، لتوسيع حدودها البحرية، عن طريق تدخلها في ليبيا، ولكن ما هو باد للعيان أن الرياح تسير بما لا تشتهيه سفينة تركيا، فهي – وإلى هذه اللحظة – ليست جزءاً من مشاريع ترسيخ النفوذ الأمريكي في المنطقة، والاهتمام الأمريكي بيونان يثير حفيظتها، فمؤخراً قامت أمريكا ببناء أكثر من 11 قاعدة عسكرية جديدة في اليونان، ودعمت تلك القواعد بالمدرعات العسكرية، مما أثار حفيظة تركيا وتساؤلاتها عن أهداف أمريكا من بناء تلك القواعد، لكن ما أثار غضب الرئيس التركي أردوغان، هو زيارة رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، إلى الكونغرس الأمريكي، حيث اشتكى “ميتسوتاكيس” أمام الكونغرس من تحركات وتجاوزات تركيا في المياه الإقليمية اليونانية، في وقت لم يستطع أردوغان تخطي عتبة باب البيت الأبيض منذ تولي جو بايدن الرئاسة الأمريكية حتى الآن، فتحدث أردوغان عن القيام بعملية عسكرية جديدة في شمالي سوريا مؤخراً، كان بمثابة محاولة للضغط على الجانب الأمريكي بهدف لقاء بايدن، الذي لم يولِ أي أهمية لحكومة أردوغان، وفي الوقت نفسه، باتت أوراق الضغط التي تمتلكها تركيا ضد أمريكا شبه معدومة، ومن الواضح أن أردوغان قد دخل مرحلة  “سياسة التنازلات”، الذي بدأ باستراتيجية صفر مشاكل، وبه إلى صفر أوراق ضغط، خاصة مع الغرب، كالتخلي عن الفيتو، وقبوله بانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، دون أن يحقق أهدافه، وكذلك التنازل للسعودية كان واضحاً ومذلاً في زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى تركيا، وغيرها في الكثير من الملفات مع دول أخرى.

السيناريو الأول

عدم استطاعة الحزب الحاكم في تركيا تشكيل الحكومة، في حال أجريت الانتخابات العامة، في 2023 و هذا ما معناه، سقوطه عن طريق الانتخابات، وفي هذه الحالة والجميع يناقش حكومة ما بعد العدالة، فمن المتوقع عدم تشكيل حكومة تخلف الحكومة الحالية، باعتبار أن لأردوغان تحضيرات قد تعيق النقل السلس للسلطة؛ فقد بنى جيشاً من المتطرفين (أخوان المسلمين، القاعدة، حزب الله التركي، داعش..) والذين سيعملون على خلق الفوضى، وزعزعة الاستقرار في تركيا، في حال عدم نجاح “العدالة والتنمية” في الانتخابات المقبلة، أي أن السيناريوهات التي حصلت في كلّ من سوريا والعراق وأفغانستان، سوف تتكرر في تركيا أيضاً، وأن مشروع تقسيم تركيا سيكون حاضراً بقوة، ولا يُستبعد أن تكون التحضيرات الأمريكية اليونانية، من تسليح الجزر وتقوية نفوذها خلال بناء القواعد، هي لمواجهة أي تغيّر قد يحصل في تركيا. بمعنى آخر، إن بناء يونان كبيرة على حساب تركيا، وإعادة أراضيها التي سلبتها سابقاً، هو أهم للغرب وأمريكا، من تركيا اليوم، والتي تعيق مخططات ومشاريع، سواءً  كانت للناتو أو لأمريكا، إلى جانب ابتزاز أوروبا من حين لآخر.

 السيناريو الثاني

هذا السيناريو مرتبط بالقضية الكردية، حيث من المرجح أن يحاول أردوغان إعادة مرحلة السلام وفتح باب الحوار مع السيد أوجلان؛ لأن حكومة أردوغان تدرك تماماً أن خلاصها واستمراريتها مرتبطة  بأصوات الكرد، وهذا ما يروّج له الكُتاب المقربون من أردوغان، لكن هذه المحاولة هي حمّالة أوجه، منها:

  • التقرّب الرخيص من القضية الكردية واستغلالها حتى انتهاء مرحلة الانتخابات، بهدف كسب أصواتهم (أصوات الكرد)، ولكن من المرجح، عدم إتاحة السيد أوجلان هذه الفرصة لأردوغان مجدداً، باعتباره لم يستفد من الفرص السابقة.
  • من الممكن أن يتصرف أردوغان بجديةً حول حلّ هذه القضايا، ومنها القضية الكردية، ولكن – على الأرجح – فإن القوى المهيمنة عالمياً سوف تعمل على وضع العراقيل أمام هذه الخطوة، لأنه – من الواضح – أن تلك القوى قد قررت وضع نهايةً لأردوغان، ولن يسمحوا بخروجه من عزلته. وهذه العراقيل – ولأول مرة – لن تكون ضد الكرد، بل سوف تكون موجهةً للحكومة التركية، التي غيّرت مساراها ومحورها عن مصالح القوى العالمية، لأن حلّ هذه القضية سوف يجلب معه إطالة عمر حكومة أردوغان، وهذا ما لا تحبّذه القوى المهيمنة.

السيناريو الثالث

ممارسة سياسة “حافة الهاوية” من قِبل أردوغان، حيث من المرجح، أنّه سيقوم بتأجيل أو إلغاء الانتخابات العامة، وبالتالي سيبقى مهدداً بالانقلابات، وهذه إحدى السيناريوهات الخطيرة إمام مستقبل أردوغان.

النتيجة

إن تركيا العدالة والتنمية تواجه سيناريوهات أحلاها مرّ، ومهما اختلفت هذه السيناريوهات، فإن تركيا بعد 2023 لن تكون كما قبلها، حيث تردّي الوضع الاقتصادي أيضاً ينذر بأوضاع خطيرة على هذه الحكومة، لأن الشعوب التي أدمنت على الرفاهية، أخطر من الشعوب التي لم تتعود عليها، والشعب التركي بدأ بفقدان وسائل الرفاهية واحدة تلو الأخرى.

…………………………………….

[1]   يُعدٌّ عدنان مندرس أول زعيم سياسي ديمقراطي منتخب في تركيا، وهو مؤسس “الحزب الديمقراطي”، وآخر زعيم سياسي تركي يُعدم بعد الانقلاب العسكري، الذي حصل في تركيا عام 1960.

[2]  الرئيس الثامن لتركيا، حيث تولى رئاستها من عام 1989 حتى تاريخ وفاته عام 1993.

[3] يقصد بهذا المصطلح، الهيمنة على المنطقة الاقتصادية الخالصة، المياه الإقليمية المجاورة، والجرف القاري، أي شرق المتوسط، البحر الأسود، وبحر إيجة، ما يسمح لها استخدام كافة الموارد البحرية بحرية أكبر. ويعتبر اللواء المتقاعد، جيم غوردنيز، أول من استخدام عبارة “الوطن الأزرق”، رئيس الوحدة المسؤولة عن خطط وسياسات تركيا البحرية عام 2006.

زر الذهاب إلى الأعلى