قضايا راهنة

بعد ليبيا؛ الوجهة “أذربيجان”، محطة تركيا الجديدة للفصائل السورية الموالية لها

تتورط تركيا شيئاً فشيئاً في ملفات متشعّبة، وتوسّع من جبهاتها، خاصة في الفترة الأخيرة، كالتدخل العسكري في ليبيا، ثم استعراض قوتها في البحر المتوسط، نتيجة الصراع على ملف الغاز، وأحد أهم أهدافها هو خلق بؤر مختلفة لنشر الفوضى في الخارج؛ للتغطية على أزماتها الداخلية، حيث تدخلها بشؤون الدول الأخرى؛ وتأجيج الصراع بين الأطراف المتنازعة؛ بدلاً من الالتفات إلى دعوات الحوار التي تطلقها تلك الأطراف والمجتمع الدولي.

ولتحقيق هذه الغاية، استغلّت المرتزقة السوريين؛ ليصبحوا الأداة الرئيسية لتطبيق هذه الاستراتيجية، حيث تعتبر ورقة الفصائل السورية المسلحة الموالية لها؛ أداةً فعّالة للتلاعب بها، لتنفيذ سياساتها خارج الحدود، فمن فيلق الشام؛ والسوري الحر؛ ثم الجيش الوطني السوري، أنشأت تركيا من كل ذلك جيشاً رديفاً لتحقيق أهدافها، أول هذه الأهداف هو تسخيرهم في قتال الكرد، ثم لتقسيم سوريا، وبعدها لنشر الفوضى في الخارج؛ بعيداً عن تدخل جيشها بشكل مباشر، لتجنب إشعال أي صراع داخلي في تركيا، أو خارجي مع القوى الأخرى. بالإضافة إلى ما سبق، أصبح أسلوب الصدام المباشر؛ الطريقة المفضلة للدبلوماسية التركية، فالقصة لا تنتهي بإرسال شحنات أسلحة فقط، وإنما بإرسال مرتزقة لاستكمال استراتيجيتها؛ حتى أصبح مسار المعارضة السورية المسلحة الموالية لتركيا، ينتقل من وجهة إلى أخرى، لكن ليس في سوريا، وإنما خارجها، فبعد ليبيا يصل قطارهم إلى أذربيجان، في ظروف تستغلها راعيتهم تركيا، لاستثمار خبرتهم؛ وتوظيفهم كمرتزقة لخدمة مصالحها السياسية هناك.

الوجهة الآن إلى أذربيجان

بدأت تركيا رحلتها باستقطاب المقاتلين الأجانب، من كافة أنحاء العالم، وفتح منافذها الحدودية، لتدفق الآلاف إلى سوريا ونشر الفوضى فيها، وبعدها بدأت بمحطتها الثانية؛ عبر إرسالهم إلى ليبيا، حيث بلغ عدد المجموعات السورية المسلحة في ليبيا ما يقارب 17 ألف مسلح؛ بينهم أطفال دون سن 18، وعقب الاتفاق الليبي بوقف إطلاق النار، تغاضى الإعلام عن مصير آلاف المرتزقة السوريين في ليبيا، وبالرغم من تحفظ تركيا على هؤلاء المرتزقة لضرب أي اتفاق بعرض الحائط، ومحاولاتها الفاشلة لتسخير المرتزقة لشن هجوم على سرت، في وجود الخطوط الحمراء المصرية، بالإضافة إلى تشديد البرلمان الليبي بإخراج المرتزقة خارج ليبيا، بدأت تركيا تحط رحالها في أذربيجان، باتخاذ مسار جديد للمرتزقة السوريين، لتأجيج الوضع المتوتر بينها وبين أرمينيا على خلفية المواجهات العسكرية الأخيرة بين الطرفين على المناطق الحدودية في إقليم ناغورني قره باغ.

لذا فبعد ليبيا أصبحت الوجهة الآن أذربيجان، بحكم العلاقات التاريخية، فالأخيرة بحاجة إلى تركيا، لمواجهة التهديد الروسي؛ بالإضافة إلى صراعها مع أرمينيا على مناطق حدودية متنازعة. وهنا بدأت تركيا بتكليف جيشها الموازي من المرتزقة السوريين؛ للتوجه إلى أذربيجان على غرار ما فعلت في ليبيا.

وقد وردت العديد من التقارير التي تفيد بإرسال مرتزقة سوريين إلى أذربيجان، جُمعت من أكثر الفصائل ذات السمعة السيئة؛ كالحمزات، والعمشات، والجبهة الشامية، وغيرهم من الموالين لها، الذين كانوا يشكلون المجموعات الرئيسية التي نقلتها تركيا إلى ليبيا، لمساندة حكومة الوفاق الليبية، ومع انتهاء مهامهم في ليبيا، أصبحت الوجهة الآن نحو اذربيجان، نتيجة تصاعد التوترات والمناوشات مع أرمينيا، الأمر الذي دفع تركيا لإرسال وكلائها السوريين إلى هناك لدعمها ضد أرمينيا. حيث انطلقوا من مقرهم في عفرين؛ نحو مركز التجمع في مارع؛ تمهيداً لإرسالهم إلى أذربيجان. ومجموعات من فصائل الجبهة الشامية إلى مدينة اعزاز، لنفس الغرض، بالإضافة لافتتاح مركز تدريبي في الباب لتدريب عناصر ما يسمى “الجيش الوطني السوري” وإرسالهم  إلى اذربيجان.

أساليب تركيا في استغلال المرتزقة

على غرار ما حدث في ليبيا، قدمت تركيا عروضاً للفصائل السورية المسلحة؛ لإقناعهم بالقتال في ليبيا، وهو ما تعمل عليه حالياً؛ لإرسالهم إلى أذربيجان، مقابل مبلغ مالي أضخم مما كان مخصصاً في ليبيا، وبحسب مصادر تراوحت ما بين الـ 2000 و 4000 دولار شهرياً، ستكون مدة العقود ما يقارب الستة أشهر، وإجازة لا تتجاوز الـ 20 يوماً، ليعود ويكمل باقي عقده في أذربيجان، على أن يُدفع جزءاً من المبلغ للمقاتل في مقر القيادة بمنطقة حوار كلس، شمال حلب، والباقي يتقاضاها في أذربيجان.

أما الوتر الآخر الذي تعزف عليه تركيا، لإقناع المقاتلين السوريين للقتال في أذربيجان؛ هو “الوتر الديني” عبر خطابها الخفي لهم بأن الدافع الأول، سيكون القتال إلى جانب جيش حكومة مسلمة (أذربيجان)، ضد جيش مسيحي (أرمينيا)، ويسهل عليهم تجاوز عقدة مواجهة جيش مسلم كما حصل في ليبيا، وتأتي هذه الخطوة كجزء من خطابها الهادف؛ بتحويل الصراع الدائر إلى أزمة دينية، تستخدمها كوسيلة لاستعادة دورها خلال الفترة العثمانية، حيث كانت الشعارات الدينية إحدى الوسائل التي ساعدت في تمددها.

لماذا أذربيجان وما الحسابات التركية

بعد تدخل تركيا وتوسعها في كل من آسيا في سوريا؛ وشمال إفريقيا في ليبيا، يأتي جنوب القوقاز؛ كمحطة وساحة صراع تركية جديدة، لزعزعة الاستقرار، وتقويض أية مبادرات سلام فيها؛ وهنا تأتي أذربيجان كمحطة مهمة، بحكم المصالح الاقتصادية التي تربطهما، بالإضافة إلى أنبوب الغاز الطبيعي الذي يعبر الاناضول؛ ويرتبط بأنبوب جنوب القوقاز، ويضخ الغاز عبر أذربيجان وجورجيا إلى تركيا؛ ومن جانب آخر يأتي الهدف التركي بجعل أذربيجان قاعدة لتمدده في المنطقة، أو محور الدول الناطقة بالتركية كـــ (تركمانستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان)، وساحة جيوسياسية جديدة تستغلها تركيا، لتدريب مرتزقتها، كي يكونوا مستعدين لأي مهام أخرى، فمن سوريا إلى ليبيا إلى أذربيجان، تكون قد شكلت تركيا أداة استراتيجية، لتحريك مصالحها الخارجية، واستخدامها بين الحين والآخر كورقة ضغط يضمن تأثيرها في المنطقة.

كما تأتي أذربيجان كجزء من سياسة أردوغان الخارجية لتحفيز قاعدته في الداخل، فالعداء الصارم بخطاباته تجاه أرمينيا، يأتي في إطار تأكيد نزعاته القومية، وتصفية حسابات متراكمة مع الأخيرة، بعد زيادة الاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية للأرمن في ظل الحكم العثماني، وبتدخلها لجانب أذربيجان، تكون قد وظفت خلافها التاريخي بشأن هذه القضية، واستغلالها الأزمة بين طرفي النزاع، لتصفية حسابات لا تمت بأي صلة لسبب الصراع؛ وتصبح فرصة للتمدد في تلك المنطقة.

لذا فالدخول التركي لهذا المستنقع، يفرض عليها البحث عن بدائل لنشر الفوضى، قبل المضي هناك بشكل رسمي، وهذا ما تعمدته حالياً بإرسال أدواتها من المرتزقة السوريين، بعد انتهاء مهامهم في ليبيا، لينتشروا في أذربيجان، فهذا الدور السلبي لتركيا في الصراع الدائر بهذه المنطقة سيكون كفيلاً بخلق أزمة دولية، تلي الأزمات التي سبقتها؛ كما حدث في إدلب، ثم ليبيا ثم العراق، وبعدها اليونان، والآن في أرمينيا وأذربيجان؛ وهي حسابات لا تخلو من المخاطر، سيما إن تركيا تشارك فعلياً في تلك المناطق؛ وتدعم الجبهات المعارضة لروسيا في سوريا وليبيا، وتأتي أرمينيا وأذربيجان كمحطة ثالثة للمواجهة بين تركيا وروسيا، حيث تقف روسيا إلى جانب أرمينيا التي بقيت على علاقة متميزة مع الاتحاد الروسي، وأشرفت على تسليح وتدريب الجيش الأرميني؛ لذا ففتح جبهة جديدة سيحمل مخاطر جديدة، وخاصة الانحياز العسكري لأذربيجان، بحكم اتفاقية الشراكة والدعم المتبادل مع تركيا عام 2010، وتعهد البلدين بدعم بعضهما البعض في حال وقوع أي هجوم عسكري ضد البلدين، ولتجنب تركيا الصدام العسكري المباشر مع روسيا في حال تحالفت معها أرمينيا، قد تكتفي تركيا بالقيام بدوريات على الحدود مع أذربيجان؛ وبدلاً من زج جنود أتراك في أية معارك محتملة، وتأجيج الشارع التركي، أو الرأي العالمي، بدأت بإرسال مرتزقتها من السوريين في ليبيا وسوريا لدعم الجيش الأذري ضد أرمينيا.

ورقة ضغط جديدة ضد روسيا

صحيح أن تركيا تتجنب أي مواجهة أو صدام مباشر مع روسيا، لتحقيق مصالحها، لكنها تتعمد كسب المزيد من أوراق الضغط للحصول على تنازلات روسية، فعلى خلفية التناقضات الروسية التركية في إدلب السورية، تحاول أنقرة الضغط على روسيا من خلال تأجيج التوتر في جنوب القوقاز، ودفعها لأذربيجان للتصعيد في “قره باغ” المتنازع عليها. وهو اعتقاد تركي، بامتلاكه لورقة ضغط قوية لمواجهة روسيا في ليبيا وسوريا، وأملاً بأن يؤدي هذا الصراع إلى تقديم روسيا لتنازلات في الملف الليبي، أو خطوات أخرى تتجاوز الخطوط الحمر التركية في سورية.

لذا فأنقرة بتصعيدها الأخير، ترغب في نقل رسائل واضحة لروسيا، بإمكانية افتعالها الفوضى في مناطق تنشط فيها الأخيرة بمشاريع حيوية خاصة في مجال الطاقة، فمن إدلب إلى ليبيا إلى أوكرانيا، وحالياً أرمينيا، كلها مناطق تشكل شريان للمشاريع الروسية، تعمل تركيا على زعزعة الاستقرار فيها عبر أدواتها، لتشكل مصدر توتر لروسيا.

ختاماً يمكن القول إنه بالرغم من الانتقادات التي تتعرض لها تركيا، نتيجة تلاعبها بورقة الميليشيات السورية المسلحة، وتحريكها بما يخدم مصالحها، لكنها تبقى ورقة ذات تأثير قوي، يجنبها أي ضغط؛ فاستدعاءهم كلما دعت الحاجة، تساعدها في فتح جبهات خلفية، وخلط الأوراق، ويطلق يد تركيا في أي صراع؛ إلا إن خطورة هذه التدخلات بأدواتها وأساليبها الأخرى، باتت تشكل قلقاً دولياً من تصرف هذه الجماعات المتشددة أو العنصرية، حيث بعد التطهير العرقي الذي مارسوه في عفرين وسري كانييه / رأس العين، وكري سبيه / تل أبيض، بات تهديدهم أكثر خطورة من داعش وغيرهم من الجماعات المتطرفة، لكن ما يهم تركيا في كل ما يحصل هو الصفقات والمصالح، بعيداً عن أي مسار أو حل سياسي يدعم الاستقرار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى