قضايا راهنة

شمال وشرق سوريا… بين المنظور الدولي والتحديات الإقليمية

مقدمة

استطاعت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا طيلة أعوام الأزمة، الحفاظ على نوع من العلاقة الجيدة مع مراكز القرار الدولي، خاصة الفاعلة في الشأن السوري كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، ذلك بسبب حرصها الدائم (الإدارة الذاتية) على عدم الانجرار وراء الحرب الطائفية التي عصفت بجزء كبير من سوريا، وتركيزها على استراتيجية الحماية الذاتية كهدف مشروع ضد الإرهاب الممنهج، وقد لاقت تلك الاستراتيجية أريحية لدى الأطراف الدولية رغم التناقضات السياسية التي ظهرت في الكثير من القضايا بشأن منطقة الشرق الأوسط وسوريا على وجه التحديد، ولكن بقيت تلك العلاقة متأثرة بالوضع الإقليمي ومواقف الدول الفاعلة من  شكل سوريا المستقبل، وحرصهم الدائم على تهميش وتشويه المشاريع المعتدلة المتعلقة بسوريا، سيما تلك التي تتعلق بفكرة  اللامركزية، أو الاتحادية الفيدرالية, والتي تجدها الأطراف الإقليمية الفاعلة في سوريا، كتركيا وإيران إلى جانب النظام السوري على أنها تهدف للانفصال، ولذلك نجد التهديد التركيّ المستمرّ لشمال وشرق سوريّا، والذي بات من أهمّ القضايا التي يعاني منها سكان المنطقة على وجه العموم والكرد على وجه الخصوص، الذين تَنْظُر تُركيّا إليهم بعين الرَّيبة، بِحُكُم العداء التاريخي التركي للقضية الكردية في الشرق الأوسط.

بَعد الغزو التُركيّ الأخير لشمال وشرق سوريّا في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ظلّت مخاوف الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا قائمة على احتماليّة استئناف تُركيّا لعملياتها العسكريّة في المناطق الحدوديّة الأخرى؛ خاصة تلك التي يُشكِّل الكرد غالبية سكانها، رغم بعض التطمينات الدوليّة الخجولة التي أبدتها كل من واشنطن وموسكو إبّان الغزو التركي, وذلك بسبب تقاطع مصالحها كقوى فاعلة على الأرض في الكثير من مواقع المشهد السياسيّ العام في سوريا، وعلاقة تركيا بتلك الأطراف سواء فيما يخص الشأن السوري أو خارجه سياسياً واقتصادياًـ حيث تمتلك تركيا العديد من الأوراق المؤثرة على تلك الأطراف، فهي شريكة الولايات المتحدة في حلف الناتو وتعتبر حليفتها الرئيسية في المنطقة. ويعد موقعها الجيوسياسيّ هاماً بالنسبة لروسيا التي ترى فيها دائماً بوابتها نحو الدول الأوربية من جهة؛ ونحو المياه الدافئة من جهة أخرى، أما بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي فدائماً ما يتم تهديدها من قبل تركيا بدفق اللاجئين إليها، إذا ما عارضت تلك الدول السياسات التركية سواء في سوريا أو في المنطقة عموماً. ونتيجة للدور السلبيّ التي تقوم به تركيّا في المنطقة، تزداد الهواجس لدى الكُرد والمكوّنات الأخرى في شمال وشرق سوريا عن احتمالية حدوث كارثة إنسانيّة؛ يتعرّضون لها من قِبَل تُركيّا والفصائل المسلحة السوريّة التابعة لها، على غِرار ما فعلوه في عفرين؛ وسري كانيه “رأس العين”، وكري سبي “تل أبيض” من تهجير ممنهج لسكّان المنطقة، وعمليات السَلِب والنَّهِب، والتغيير الديمغرافيّ التي نَفَّذوها في تِلك المناطق.

هواجس الإدارة الذاتيّة

تميّزت الإدارة الذاتيّة وقوات سوريّا الديمقراطيّة بالسّيرة الحَسَنة لدى غالبيّة الأوساط الدوليّة على خلفيّة مشاركة “قسد” الناجحة مع قوّات التحالف الدّوليّ في قتال تنظيم “الدولة الإسلاميّة” والانتصارات الكبيرة التي حقّقاها معاً منذ عام 2014 وحتى عام 2019، والتي شَكّلت فُرصة مهمة للإدارة الذاتيّة للعمل على تكوين علاقات جيّدة مع المجتمع الدوليّ، وتطوير آلياتها المؤسساتيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ذات الصلة. على الجانب الآخر استفادت قوات التحالف الدوليّ من كفاءة قوّات سوريّا الديمقراطيّة العالية على الأرض، مما سَهّل من مهمته في تحقيق أهدافه بالقضاء على تنظيم الدولة خلال فترة قصيرة وبأقلّ الخسائر. على عَكِس تجربتها في البلدان الأخرى كـأفغانستان والعراق.

إلّا أنّ شكل العلاقة التي جَمَعَتْ بين تركيّا (أكثر الدّول الإقليميّة تهديداً لمشروع الإدارة الذاتيّة في شمال وشرق سوريا) والندّين الدوليّين (روسيّا وأميركا) كانت دائماً تُثير هواجس سُكّان وإدارة شمال وشرق سوريا، وخاصّة بعد الغزو التركيّ لعفرين ربيع العام 2018 والتي أظهرت فيها روسيا موقفها السلبي، وتواطؤها مع الجانب التركيّ من خلال غُرَف أستانا.

وكان من الواضح أنّ ذلك التصرّف الروسيّ شَكّلَ شَرْخَاً في ثقة الكُرد ومكوّنات المنطقة بـروسيّا، مما دفعهم إلى التعويل أكثر على الموقف الأميركيّ الذي بَرّر موقفه بحجج واهية على اعتبار أنّ عفرين لم تَكُنْ خاضعة لنفوذ التحالف الدوليّ التي تقودها أميركا، وبالتالي فإنها مُلْزَمة بحماية مناطق تواجدها فقط، ولكنها، كذلك، بَقِيَت في إطار التصريحات الشبه مطمئنة من القادة العسكريّين وبعض السياسيّين في مركز القرار الأمريكيّ، ولكن بالمجمل، لَم تُبْدِ واشنطن مرونة كافية في دعم الإدارة الذاتيّة، في مجال الاعتراف السياسيّ بها، أو الضغط اللازم لإشراكها في الاستحقاقات السياسيّة المرتبطة بالشأن السوريّ، مثل اجتماعات جنيف، واللجنة الدستوريّة.

السياسة الأميركيّة تلك، كانت سبباً لتمادي أنقرة في مخططاتها لِشَنّ حرب على شمال وشرق سوريا، وهذا ما حدث بالفعل، حين أقنع الرئيس التُركيّ نظيره الأميركيّ بالانسحاب من المنطقة، بذريعة إقامة منطقة “آمنة ” لتمارس  الفصائل السورية التابعة لتركيا، فيما بَعِد، بالتعاون مع الجيش التُركيّ أبشع الجرائم بحق المدنيين فيها، والاستيلاء على الممتلكات، وإحداث تغيير ديموغرافيّ، عَبْرَ جَلِب سكّان من مناطق الداخل السوريّ، وإسكانهم في بيوت الكُرد.

شَكَّلَ الموقفين (الروسيّ والأميركيّ) نوعاً من الارتباك لدى الأوساط الشعبيّة والسياسيّة في مناطق شمال وشرق سوريا، لتعيش المنطقة حالة من عدم الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ، وليكون السؤال الدائم لدى المراقبين السياسيّين والأوساط الشعبيّة، إلى أين ستؤول الأوضاع السياسيّة والعسكريّة في المراحل المقبلة من الأزمة السوريّة؟ وأين سيكون موقع الإدارة الذاتيّة من تلك التطورات في ظل الخطر التّركيّ؛ وتناقض وتقاطع مواقف الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية لا سيما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية؟

الموقف الأمريكي

يوجد تباين في الرُّؤى بشأن أهداف الولايات المتحدة الأميركيّة لسوريّا عامّة، ومناطق الإدارة الذاتيّة بشكلٍ خاصّ، ويبدو أنّ هذا التباين نابّع من اختلاف وجهات نَظَر الأطراف الإقليميّة والدوليّة الفاعلة في الشأن السوريّ، ومرتبط  بالتطوّرات السياسيّة المتقلّبة التي تسود المشهد السياسيّ العامّ، سواءً أكانَ على المستوى الدوليّ، أو الإقليميّ، أو المحليّ، أو حتى الاختلاف داخل مراكز القرار الأميركيّ نفسه، ولكن رغم ذلك لا بُدَّ أنْ يكون لواشنطن رؤية وهدف مُحَدَّدَيْن في كيفيّة تعاملها مع الملف السوريّ وتشعبات أزمتها، وهذا بالتأكيد يشمل شمال وشرق سوريّا التي تعتبر منطقة نفوذ أميركيّة.

من الواضح أنّ واشنطن، ومن خلال التحالف الدوليّ كانت لها ثلاثة أهداف رئيسيّة في سوريّا، أعلنتْ عنها مرّات عدّة على لسان مسؤوليها السياسيّين وقادتها العسكريّين وهي:

1 – ضمان عدم عودة “داعش” عبر القضاء على الخلايا النائمة

2- إنهاء الوجود الإيرانيّ في سوريّا، أو الحدّ من تمدّده.

3- البقاء لحين إجراء تسوية سياسيّة في سوريّا.

لاحقاً تمّ إضافة هدف آخر، والذي أعلنه الرئيس ترامب بعد قراره بسحب قوات بلاده من سوريّا خريف العام 2019 حول الإبقاء على بعض الجنود لحماية آبار النفط في القرى والبلدات المُتاخمة للحدود التركيّة، والذي يجده الكثير من المراقبين ومنهم السفير الأمريكي السابق لدى دمشق روبن فورد، على أنها أبعد من النفط، وأنها استراتيجية أميركية جديدة جوهرها الاستمرار في دعم موقف قوات سوريا الديمقراطية بهدف إشراكها في رسم الصيغة الجديدة لمستقبل سوريا التي سيكون لروسيا دوراً كبيراً فيها.

يبدو أنَّ الأهداف الثلاثة آنِفة الذِّكِر لها أبعاد سياسيّة عِدّة، وغايات أميركيّة صالحة للمَدّ والجَذِر حسب الظروف المتقلِّبة، فمن ناحية: تبحث واشنطن عن إضفاء شرعيّة من رحم القرار الدولي، 2170 الذي شرع فيه مجلس الأمن الدولي الحرب ضد “داعش” في سوريا والعراق، لضمان واشنطن بقائها في سوريّا، عَبْرَ إعلانها عن إمكانيّة عودة “داعش” مجدداً، سيما وأنّها أعَلَنَتْ بشكلٍ رسميّ على لسان الرئيس ترامب في مارس آذار 2019 عن انتهاء “داعش” جغرافياً بنسبة 100%، وهذا بالتالي يزيل شرعيّة المبرِّر الأميركيّ لاستمرار وجوده  في سوريا.

ومن ناحيةٍ أخرى تُظْهِر واشنطن مدى الخطر الإيرانيّ على أمنها وأمن إسرائيل، وبالتالي ضرورة البقاء في سوريّا للحَدّ من التمدّد الإيرانيّ في سوريّا، وتهيئة الأرضيّة المناسبة لإجراء التسوية السياسيّة عبر مسار جنيف والقرار الأممي (2254).

يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة، لها رؤية قد تلاقي صعوبة في تحقيقها، وهي الجَمِع بين أطراف المعارضة السوريّة في جسم سياسيّ موحّد بهدف إشراك جميع القوى السياسيّة في العملية التفاوضيّة والدستوريّة مع النظام السوريّ، ومن ضمنها ممثلين عن الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريّا، وهذا ما وضّحته من خلال رؤية المجموعة الدوليّة المصغّرة (في بندها الخامس)، عبر الورقة التي قدّمتها للمبعوث الأممي السابق ستيفان ديمستورا في سبتمبر 2018، ولكن ما يصعّب من نجاح هذه الرؤية هو التباين في أهداف وتوجهات أطراف المعارضة، ناهيك عن الذهنيّة العدائيّة لطرف على طرف آخر، وهذا يتجلّى في موقف الائتلاف السوريّ العدائي من الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريّا، إلى جانب الموقف التُركيّ والإيرانيّ المتعنّت بشأن إشراك الإدارة الذاتيّة في شمال وشرق سوريّا في العملية السياسية، ولكن مع ذلك يبدو أن  واشنطن عازمة بشكل جدي على إرضاء تركيا أو الضغط عليها، والمضي بمشروعها الذي يحقق أهدافها الاستراتيجية في الشرق الأوسط وسوريا، التي تعتبرها الصقور الأمريكية الدرع المنيع للهيمنة الأمريكية، إذا فقدتها، فقدت كل شيء من شأنه أن تبقيها سيدة العالم.

الموقف الروسيّ

اعتمدت سياسة موسكو في سوريا على مبدأين أساسيين وهما، القوة العسكرية المفرطة، والدبلوماسية المتشددة، وهذا بالضرورة يهدف إلى مدى إصرارها على حماية وجودها ومصالحها في شرق المتوسط، وقد تجلى ذلك في المرات الكثيرة لحق النقض “الفيتو ” التي استخدمتها في مجلس الأمن الدولي بشأن سوريا، طيلة أعوام الأزمة، كحالة نادرة في تاريخ الأمم المتحدة ومؤسساتها. إلى جانب بروزها كقوة عسكرية ضاربة ضد فصائل المعارضة السورية وتنظيم “الدولة الإسلامية”، التي تتسم بالطابع الإسلامي الراديكالي، سيما بعد أعوام 2015.

لكن يبقى السؤال مطروحاً عن ماهية الهدف والرؤية الروسية في ظل تعقيدات المشهد السياسي السوري، خاصة مع الوجود الأمريكي والتركي والإيراني، كدول رئيسية فاعلة على الأرض, برؤى وأهداف متناقضة، وموقفها من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

تدخلت روسيا في الشأن السوري بطلب من الحكومة السورية، وهذا ما تجده موسكو مبرراً شرعياً لتواجدها في سوريا، وكان المأمول من ذلك دعم النظام القائم وإخراجه من دائرة خطر السقوط، وقد نجحت بالفعل في ذلك، ولكن مع تضييق الخناق الأمريكي على النظام السوري والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليه وحلفائه, إلى جانب إثارة واشنطن لملف الأسلحة المحرمة (الكيماوي) ضد النظام، فضلاً عن الهيمنة الإيرانية على القرار السياسي والعسكري للنظام السوري, كان لا بد من موسكو البحث عن القواسم المشتركة والاستفادة منها مع الولايات المتحدة الأميركية في رسم سوريا المستقبل؛ بحيث تحتضن وتؤمن مصالح كلا الجانبين الدوليين وتحافظ من خلالها على التوازن السياسي بينها وبين واشنطن، ويبدو أن القرار الأممي 2254 ووثيقة المجموعة الدولية المصغرة التي رفضتها موسكو في بادئ الأمر، بإمكانهما أن يشكلا نقطة تفاهم بين البلدين حول سوريا, بما في ذلك التوافق على تغيير النظام؛ وتشكيل حكومة انتقالية متعددة الأقطاب، تتمتع بصلاحيات دولية، وبمشاركة ممثلين عن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في العملية السياسية، ضمن إطار اللامركزية ومناطقية الحكم، ويتجلى ذلك من الموقف الروسي الإيجابي من البنود الخمس لوثيقة التفاهم الأخيرة التي وقعت بين مجلس سوريا الديمقراطية، وحزب الإرادة الشعبية.

لم تبدِ روسيا العداء لمشروع الإدارة الذاتية أو شكلية النظام اللامركزي المطروح من الأخيرة، بقدر ما كانت تود حماية النظام من السقوط، وردع تركيا (المؤثرة على قرار المعارضة السورية) بالحنكة الدبلوماسية لتغيير هدفها؛ بالعدول عن فكرة ضرورة إسقاط النظام، والذي تحقق مقابل الصمت الروسي عن التدخل التركي المباشر في شمال سوريا، وهذا ما كان يؤثر بشكل سلبي على علاقة موسكو بالإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، لتصبح هذه العلاقة حذرة، قابلة للتطوير على المدى القصير والبعيد.

أحياناً كانت لموسكو رؤى سياسية أكثر مرونة من واشنطن تجاه الإدارة الذاتية، وغالباً ما يعزى ذلك لمدى علاقتها المتقلبة بأنقرة، وسياسة الأخيرة تجاه الملف السوري والمياه الدافئة، فضلاً عن الحرص الروسي الدائم في الحفاظ على الورقة التركية لتنفيذ مشاريعها الاستراتيجية، سيما تلك التي تتعلق بالصراعات الاقتصادية الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمحور الشرقي، الذي تقوده بكين وموسكو، كطريق الحرير الجديد الذي تعمل عليه الصين بمشاركة روسية قوية، ومشروع سيل الغاز الروسي الجنوبي، وأهمية تركيا لكلا المشروعين الشرقيين، لذلك نجد موسكو تتبع سياسة التوازن في علاقتها مع الإدارة الذاتية وتركيا، وذلك على الأرجح بهدف إذعان أنقرة.

المنظور الإقليمي

يتمحور الدور الإقليمي حول سياسة تركيا وإيران في سوريا بالدرجة الأولى، ومدى تأثيرهما على المشاريع الدولية بشأن سوريا؛ وخاصة شمال وشرقها، فهو متعلق بالشأن والسلوك السياسي للدول ذاتها في المنطقة.

الرعونة التي أظهرتها أنقرة في الآونة الأخيرة حيال محيطها الإقليمي، وتدخلها في شؤون غالبية الدول المجاورة وغير المجاورة لها كشمال أفريقيا وسوريا والعراق وأرمينيا وقبرص واليونان، أظهرت الكثير من نقاط الضعف لدى أنقرة، خاصة بعد الأزمة التي اختلقتها في شرق المتوسط مع قبرص واليونان، والتي تجلى فيها ردة الفعل الشديدة لدى دول الاتحاد الأوروبي المساند لأثينا، خاصة فرنسا التي صعدت من دورها السياسي والعسكري في الآونة الأخيرة بعد أحداث مرفأ بيروت، إلى جانب انضمام واشنطن (التي كانت تركيا تعلق الكثير من الآمال عليها) للموقف الأوربي، وتلويح الأخيرة بنقل معداتها العسكرية الثقيلة من قاعدة “أنجرليك” التركية ونقلها إلى جزيرة كريت اليونانية، فضلاً عن التدريبات العسكرية المشتركة التي أجرتها القوات الأمريكية مع القوات اليونانية بالقرب من الحدود البرية التركية، كل ذلك يشير إلى تراجع الدور التركي في المنطقة، وظهور الخطوط الحمر الدولية حيال خروقات أنقرة المستمرة (المثيرة للجدل) للقوانين والمواثيق الدولية, والتي بدأت من احتلالها للجزء الشمالي لجزيرة قبرص اليونانية في العام 1974 إلى تدخلها المباشر لجزء كبير من الأراضي السورية والعراقية والليبية.

وهذا بالتالي يضعف من احتمالية قيام تركيا والفصائل السورية التابعة لها، بشن حرب جديدة على المناطق الخاضعة لإدارة شمال وشرق سوريا، بسبب عدم جاهزية أنقرة السياسية والاقتصادية لحماقة أخرى، قد تلقى عاقبة لها تصل لدرجة الإطاحة بنظامها السياسي.

أما عن الدور الإيراني، فهو يختلف بعض الشيء عن الدور التركي، بحكم العزل الدولي المفروض عليها من الناحتين السياسية والاقتصادية بسبب برنامجها النووي، وسياسة التشييع التي تقوم بها في المنطقة، والذي يقابله أيضاً رفض غالبية الدول العربية، وإبدائهم التخوف منها، سيما دول الخليج العربي، كالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي يضعها في خانة المواجهة المباشرة مع واشنطن وتل أبيب، ولذلك نجدها تعمل على مستوى مؤسسات النظام في سوريا بما فيها المؤسسة العسكرية, وإثارة النعرات الطائفية لدى سكان المنطقة، سواء في الداخل السوري أو شمال وشرقها.

ختاماً .. المتغيرات السياسية الدولية المستجدّة

يبدو إن الوضع السوري العام يمر في توافقات دولية أكثر مما نجده في الجانب الإقليمي, فمع تعثر مهام اللجنة الدستورية (المنقوصة) أضحى هناك حاجة دولية إلى العمل على بعض المواثيق المرنة الخاصة بالشأن السوري، والتي لاقت ردوداً سلبية من الجانب الإقليمي، كرؤية المجموعة الدولية المصغرة؛ التي لاقت تهميشاً واضحاً خلال العامين الماضيين رغم تناسبها مع الواقع السوري, وذلك بسبب مسار أستانا الذي فُرض من الجانب الإقليمي (تركيا – إيران) على المسارين السياسي والعسكري في سوريا، والذي أدى بالنتيجة إلى المزيد من الحروب والدماء، سيما التفرد التركي بالتوغل في الأراضي السورية واحتلالها لمناطق واسعة من الأراضي.

إن المتغيرات السياسية الدولية الجديدة في المشهد السوري، قد يكون لها انعكاسات إيجابية على مستقبل الإدارة الذاتية، حيث يبدو أنه هناك – وللمرة الأولى – تقارب في الرؤى الأميركية والروسية بشأن سوريا، فمن جانب تظهر واشنطن تقدماً في موقفها السياسي تجاه الإدارة الذاتية، عبر إبرام شركاتها لعقود اقتصادية متعلقة بالنفط، فضلاً عن إصرارها على ضرورة توحيد القوى السياسية الكردية كمرحلة أولى لدمجها بشكل أوسع في العملية التفاوضية والدستورية، إلى جانب مشاركتها في الفعاليات السياسية الأخيرة بين مكوّنات شمال وشرق سوريا؛ والتي جرت مؤخراً في الحسكة.

كما يجب أن لا ننسى التشجيع الروسي لمذكرة التفاهم التي وقِعت مؤخراً بين مجلس سوريا الديمقراطية وحزب الإرادة الشعبية (الحليف الاستراتيجي لموسكو)، وهذا بالتالي يظهر نوعاً من التفاهم الروسي الأميركي إلى حد ما حول الملفات المختلفة في سوريا، خاصة الإدارة الذاتية، كشكل إداري ديمقراطي يمكن التأسيس عليه في طرح شكل الحل السياسي للأزمة السورية وقضية تحجيم الدور الإيراني والتركي في البلد والحفاظ على أمن اسرائيل بالدرجة الأولى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى