قضايا راهنة

اللاعب الخفي في الأزمة السورية

الأزمة السورية منذ بدايتها، جعلت من سوريا روما العصر، والتي تؤدي إليها كل الطرق. طبعاً؛ بالمعنى السلبي للجملة، فقد تحولت إلى ساحة مباحة ومستباحة للصراع وتصفية الحسابات، وسط تغيرات طرأت على هذا المشهد؛ حيث انتقل من صراع داخلي إلى إقليمي، ولم تقتصر الأزمة على جهة بحد ذاتها؛ بل شملت الجميع في الداخل السوري؛ بالإضافة إلى داعميهم في الخارج (الأطراف الإقليمية)، وتطورت فيما بعد إلى مرحلة تدخّل من الجيوش الإقليمية.

وهنا برزت أطراف دولية عديدة؛ كلاعبين رئيسيين في مسار الأزمة في سوريا مثل “روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة”؛ كل واحد منهم اتخذ مصلحة وهدف منفرد أو مشترك مع آخر ضد الباقي، وظهرت نتائج تدخله من خلال دعمه لحليفه المحلي ومناطق سيطرته.

ومع بروز تلك الأطراف الإقليمية، وتدخلها المباشر في الأزمة السورية؛ إلا إنه هناك لاعب آخر وطرف فاعل في الصراع، فرغم التزامه الحياد ودعوته للحوار والحل السياسي في العلن؛ لكنه يتحرك بشكل خفي؛ فالمصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية له دفعته إلى التدخل سراً واللعب بما تقتضيه تلك المصالح، وهذا الطرف واللاعب الخفي هو الصين التي تسعى خلف الإغراءات السورية، إلى جانب الآخرين؛ فمع غياب أي آمال من انخراط الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي إلى جانب النظام السوري؛ وافتقار روسيا وايران للقوة المالية، أخذت الصين تظهر في الأفق كلاعب رئيسي في الساحة السورية، وبدت كالبديل التي يمكن أن تحل عقدة البنية التحتية السورية، لذا فالصين تراقب وتشارك التطورات الحاصلة في سوريا بعيون سياسية وأخرى اقتصادية، وتستعد لرحلة استثمارات كبيرة، إلى جانب أهداف أخرى ويمكن حصرها كالتالي:

حضور اقتصادي قوي للصين في سوريا
مع افتقار الحليفين الرئيسيين للنظام السوري (روسيا وايران) للقوة المالية؛ بدأ الجميع ينظر إلى الصين كمنقذ محتمل، وهذا ما تراه بكين أيضاً في سورية كنقطة ذات أبعاد اقتصادية، فجزءٌ من السياسة الصينية بخصوص سورية تأتي في إطار مصالحها الاقتصادية الأوسع في المنطقة، من خلال علاقات مستقرة مع دمشق، وتطوير شراكة اقتصادية تتوافق مع حزامها التجاري.

فمع مناورة موسكو وطهران للحفاظ على مكاسبهما الاستراتيجية، بدأت بكين التحدي ذاته حول مقدار استثماراتها في مستقبل سوريا، كجزء من طموحاتها الاقليمية والعالمية، لذا سجلت الصين نشاط اقتصادي بارز في سوريا، فقد نشطت 200 شركة صينية في قطاع الاتصالات والنفط والغاز والنقل في عام 2018، و58 شركة في 2019، بالإضافة الى الحضور القوي للصين في معرض دمشق الدولي، في إطار العمل على اتفاق حول آلية مشاريع مستقبلية، تكون فيها الصين الرائدة في هذا المجال.

سوريا كمحطة رئيسية لطريق الحرير الصيني الجديد
يعرف المشروع رسمياً باسم “الحزام والطريق” كمبادرة صينية طموحة كُشف النقاب عنها في 2013 لإعادة إحياء طريق الحرير القديم (الذي كان يشكل شريان حياة للتجارة الصينية قبل قرون) مما يمهد الطريق لنظام عالمي جديد؛ سيغير التجارة العالمية، وموازين القوى، فهذه المبادرة تبدو كإشارة على الدور الذي تلعبه الصين على المستوى العالمي، من خلالها إشرافها على الحزام والسكك والموانئ والطرق الممولة من قبل شركاتها؛ الغاية منها تسريع وصول المنتجات الصينية إلى الأسواق العالمية.

وتأتي سوريا كإحدى المحطات المهمة والرئيسية للمشروع الجديد؛ ضمن الخط الجنوبي، وتعتبر موانئ طرطوس واللاذقية في سورية والمطلة على المتوسط، مركز استراتيجي لعبور القوافل وتغذية البحر المتوسط وافريقيا وفرصة لربطها بأوراسيا، وموطئ قدم لبكين في بيريوس اليونانية والموانئ الاسرائيلية (حيفا واشدود).

ومع ارتفاع حدة الحصار المفروض على سوريا، وخاصة من طرف الولايات المتحدة، بدأت الصين التحرك بالاتجاه المغاير للولايات المتحدة في سوريا، من خلال دعوة سوريا للانضمام إلى مؤتمر “حزام واحد… طريق واحد” في العاصمة الصينية ” بكين” في 25 نيسان 2019، وهذا ما لم تفوته الحكومة السورية بالمشاركة في تلك الفعالية، للخروج من الحصار المفروض عليها دولياً واقليمياً وجذب الصينيين إلى بلادهم. وهذا ما اشارت إليها “بثينة شعبان” المستشارة الإعلامية للقصر الجمهوري في سوريا” إن هذا المشروع يأتي لمواجهة الهيمنة الغربية “” وطريق الحرير لا يكون طريق حرير إذا لم يمر بسوريا والعراق وإيران”.

وجاء هذا الموقف بالتناغم مع حليفيها “روسيا وايران” اللتان أولتا اهتماماً بالمشروع الصيني كونه يمر من أراضي البلدين؛ ويقوّض الهيمنة السياسية والتجارية للولايات المتحدة الأمريكية.

سوريا نقطة لتعزيز نفوذ الصين في الشرق الأوسط
إلى جانب اللاعبين الرئيسيين في سوريا، تحاول الصين تعزيز حضورها السياسي في ملفات الشرق الأوسط من خلال سوريا، خاصة أن سوريا كانت بوابة الدخول إلى الشرق الأوسط بشكل كامل. فدخول الصين إلى سوريا، سيشكل حلقة ربط بين قارات ثلاث، ومنازع قوي لإيران الساعية للحصول على امتيازات.

كما إن اهتمام الصين بموانئ المتوسط، يعتبر جزءاً من استراتيجيتها، لدمج الشرق الأوسط، كمحطة في طريق الحرير البحري، يأتي ذلك في اطار تعزيز نفوذها في العديد من موانئ لبدان في شرق المتوسط من بينها سوريا؛ وهذا ما تراه الولايات المتحدة في تنامي الاستثمارات الصينية بالشرق الاوسط على أنه يتمدد بشكل مخيف بالنسبة لاقتصادها وسياساتها، الأمر الذي يؤثر على وجودها في المنطقة كمنافس استراتيجي ويقوض من قدرتها وحلف الشمال الاطلسي على المناورة في المنطقة.

تعاون عسكري لدوافع خاصة بالأمن القومي الصيني
انطلاقا من المصالح الاقتصادية للصين في سوريا، هناك مصالح أمنية، عبر منع انتشار النشاط الجهادي في أراضيها.

وفي سوريا؛ لم تنفذ الصين أي فكرة لإرسال قوات صينية للانضمام في القتال إلى جانب النظام السوري، رغم وجود مقاتلي الإيغور في صفوف المعارضة السورية ضمن (الحزب الاسلامي التركستاني في سوريا) المصنفة كمنظمة إرهابية لدى العديد من الدول بينهم الولايات المتحدة والصين، وتعتبرها الأخيرة تهديداً كبيراً لأمنها القومي، ومما زاد من مخاوف الصين الأمنية خشية تحول مقاتلي الإيغور وغيرهم من آسيا الوسطى نحو الصين، فكانت ترى أن الهجوم الشامل للنظام السوري على إدلب سيؤدي إلى إثارة المشاعر المؤيدة للإيغور في حال شاركت الصين بهذه الحملة. الا إن هذا لم يمنع بحسب تقارير إعلامية متكررة من تبادل الصين لمعلومات استخبارية مع سورية، وارسال مستشارين عسكريين للمساعدة في قتال الإيغور، كما فعلت مع طاجكستان وافغانستان بتكثيف تعاونها الأمني الحدودي، لهذا حرصت الصين على تجنب اتخاذ أي دور قيادي في سوريا أسوة بروسيا وايران.

لكن بالرغم من تجنب الصين التحيز العلني لأي جانب من جوانب الصراع في سوريا، إلا إنها لم تكن متوازنة في التعامل مع تلك الأطراف المتصارعة، وهذا ما اتضح بتجنب المسؤولين الصينيين الاتصال بأي جماعة معارضة للنظام السوري، وعلى الرغم من استضافة بكين لمسؤولين من النظام السوري وفصائل المعارضة، للوصول إلى تسوية سياسية، إلا إنها مالت للتدخل العسكري الروسي، بما يضمن دعم النظام السوري واستقراره.

كما عززت الصين مشاركتها في الصراع مع تعيين “شيه شياو يان” كأول مبعوث صيني خاص للأزمة السورية، حيث تزامن مع تعيينه تغيير في مسار الحرب والسيطرة، ففي أواخر 2015 وأوائل 2016، أصبح اتجاه الصراع يميل لصالح النظام السوري، حيث ازداد الدعم الايراني، وشنت روسيا حملات جوية لدعم النظام السوري، كما بدأت المعارضة السورية تتجه نحو التقلص في النفوذ والضعف في القوة، والاقتتال الداخلي، وهي كانت جزءاً من تدابير بكين لتقليل تعرضها للإرهاب عبر الحدود، ومنع صعود وانتشار الحزب الاسلامي التركستاني في الشرق الأوسط والصين. حيث تشير التقديرات إلى وجود 5000 عضو في سورية؛ سافروا إلى الشرق الأوسط بطريقة غير قانونية. لذا من المهم بالنسبة للصين القضاء على هذه المجموعة في سوريا، والتي كانت ناجحة إلى حد ما عندما استعاد النظام السوري السيطرة على جسر الشغور ومطار أبو الضهور العسكري، من الحزب الاسلامي التركستاني.

تقديم الدعم في إطار المساعدات الإنسانية
لعبت الصين دوراً واضحاً في تقديم المساعدات الانسانية لسوريا، من خلال قنوات ثنائية ومتعددة الأطراف، حيث قدمت ما يقارب 40 مليون دولار، في اطار تمويل برنامج الأغذية العالمي لإطعام اللاجئين السوريين في الأردن، بالإضافة إلى تبرعها بمليون دولار لمنظمة الصحة العالمية، ولجنة الصليب الأحمر الدولية، لتحسين الأمن الغذائي والخدمات الصحية في سوريا.

وبالرغم أن هذه المساعدات تأتي كجزء من جهودها لرفع مكانتها الانسانية على مستوى العالم، إلا إن العديد من الدول الغربية، صرحت بأن المساعدات الأحادية من جانبها تأتي لتغيير مسار الحرب لصالح النظام السوري، نظراً لتداعياتها على المدنيين خارج مناطق سيطرته، واستخدام المساعدات كوسيلة لفرض الاعتراف السياسي للنظام السوري، كسبيل للحصول على المساعدات عبر حكومة شرعية، وهذا ما فرضت على وكالات الأمم المتحدة بتقييد قدرتها على الوصول إلى مناطق معينة، والمطالبة بالشراكة مع منظمات النظام السوري، كالهلال الأحمر السوري.

في الختام ،،، يمكن القول؛ بالرغم من أن سوريا لم تشكل أي أولوية استراتيجية للصين في العلن، إلا إنها لم تَسْلَمْ من سياستها في الخفاء، باعتبارها فرصة قد توفرها بإعادة البناء، ومحطة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. لكن ضمن نهج “المصالح الاقتصادية والأمنية للصين”، ستكون أكثر استقراراً من خلال النظام السوري، على أن تصبح البلاد ملاذاً للجهاديين المتطرفين. لذا انضمت بكين إلى جانب موسكو في تخفيف مشاريع القرارات العقابية ضد النظام السوري، بالإضافة لما سبق يمكن قراءة جزءاً مهماً من أبعاد التدخل الصيني في سوريا كالتالي:

– رغم تأثيرها الضئيل في الصراع السوري، إلا أن قدرتها المحدودة ساهمت في إحباط الجهود الغربية ضد النظام السوري.

– المصلحة الصينية اقتضت مشاركة الموقف الروسي في سوريا، فالبلدين يتشاركان بخاصرتهم الجغرافية الضعيفة من وسط آسيا وبحر قزوين، إلى ايران.

– الاحتفاظ بالقوة الاقتصادية الهائلة التي تستفاد منها، رغم عدم مشاركتها بشكل مباشر في المصالح الأساسية.

– رغم إظهار نفسها كالودود والوسيط في مسائل السلام والأمن، إلا إنها في سورية فضلت لعب دور الداعم بدل الوسيط لسلام غامض، أثبتته من خلال إجراءاتها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى