قضايا راهنة

إنشاء محكمة دوليّة لتنظيم (داعش).. ضرورة حقوقيّــة وأخلاقيّة

بعد الإعلان المدوّي لـــ (قوات سوريا الديمقراطية) بانتصارها العسكريّ على تنظيم (داعش) الإرهابي في سوريا، والقضاء على دويلتها المزعومة، وسيطرتها الكاملة على الجيب الأخير لهذا التنظيم في مخيّم بلدة الباغوز، بريف دير الزور الشَّرقي، يوم السبت، (23 أذار/مارس 2019).. هذا الانتصار التاريخي الذي يمثّل بداية صفحة جديدة في تاريخ العالم برمَّته، وليس في تاريخ المنطقة فحسب، وانتصاراً للإنسانية، وتحقيقاً لآمال شعوب المنطقة بالحياة الحرّة الكريمة، ذلك بعد أن تمكَّنت هذه القوات بجسارة قلَّ نظيرها، وبعد نحو خمس سنوات من القتال خلال حربها ضدّ التنظيم، من تطهير كامل منطقة شرق الفرات، وإنهاء سيطرته على الأراضي الشاسعة التي سيطر عليها في أوقات سابقة.. بعد هذا الإعلان بيومين فقط، دعت (قوات سوريا الديمقراطية)، الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في بيان لها، إلى إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة عناصر (داعش) الأجانب، بحيث تتمتع بالمعايير الدولية من الجانب الحقوقي. وقد ذكر البيان الذي أوردته وسائل الإعلام العالمية: “إننا ندعو المجتمع الدولي لإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة إرهابيي داعش في شمال وشرق سوريا” مشيرة إلى أن المتشدِّدين يجب أن يخضعوا لمحاكمة “في مكان وقوع الفعل الجرمي” أي في شمال وشرق سوريا. وأضاف البيان: إن إنشاء هذه المحكمة يسمح بأن “تتم المحاكمة بشكل عادل، ووفق القوانين الدولية، وبما يتوافق مع العهود والمواثيق المعنية بحقوق الإنسان”. وقد أبدى الكثير من الحقوقيين في شمال شرق سوريا استعدادهم التامّ للتعاون في عمل هذه المحكمة.

  وقد جاءت هذه الدعوة بشكل خاص بعد استسلام الآلاف من عناصر التنظيم المتشدِّد خلال الهجوم الأخير الذي شنَّته (قوات سوريا الديمقراطية) على آخر معاقل التنظيم في الباغوز. وإلى جانب اعتقال هذه الأعداد الكبيرة لعناصر التنظيم، وهم من جنسيات مختلفة، 55 دولة، يتواجد في (مخيم الهول) أكثر من تسعة آلاف شخص من عائلات هؤلاء العناصر. وقال السَّيد (لقمان أحمي) الناطق الرسمي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إن من بين الأشخاص الأجانب الموجودون في المخيم أكثر من 6500 طفل. وأشار إلى أن الأعداد ليست نهائية. ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان فإن عمليات التمشيط مستمرة في القطاع الشرقي من ريف دير الزور. وهي منطقة مزروعة بالألغام بكثافة، نظراً لتمركز عناصر التنظيم فيها، مما يزيد من فرص اعتقال المزيد من العناصر.

  وعلى الرغم من دعوات الإدارة الذاتية المتكرِّرة للدول الغربية بهدف استعادة مواطنيها الذين التحقوا بالتنظيم وأفراد عائلاتهم، لمحاكمتهم لديها، إلا أن غالبية حكوماتهم ترفض القيام بهذا الإجراء حتى الآن. فقد قال السَّيد مصطفى بالي، مدير المركز الإعلامي لـــ (قوات سوريا الديمقراطية) في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية: “إنَّ عدد المعتقلين الأجانب، عدا العراقيين يتجاوز 1300 معتقل، ومنذ البداية طالبنا الدول التي يحمل جنسيتها مسلحو داعش أن ترحِّل مواطنيها، وتقوم بمحاكمتهم في بلادهم، بما أننا في شمال سوريا لا نمتلك أرضية قانونية معترف بها، لكن للأسف لم يحصل التجاوب كما هو مطلوب”. وأضاف السَّيد بالي: “ندعو الأمم المتحدة لإنشاء محكمة دولية خاصة بإرهابي تنظيم داعش تحت سقف الأمم المتحدة، وأن تموّل الأمم المتحدة هذه المحكمة وتشرف عليها، وتجري محاكمة الإرهابيين في شمال وشرق سوريا، وتصدر الاحكام عليهم، وتبنى السجون الخاصة التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وقد يكون هذا الحل مرضي لجميع الأطراف.”

  ويواجه (تنظيم داعش) الذي يمثِّل صفحة قاتمة السَّواد في تاريخ الإنسانية، وكابوساً مرعباً؛ أرَّق مئات الآلاف من البشر، يواجه تهماً بارتكاب جرائم حرب، كالإعدامات الجماعية والاغتصاب، والخطف، والهجمات الوحشيّة التي نفذها في مناطق عدّة خلال نحو خمس سنوات من (دولة الخلافة) التي أعلن عن إقامتها في سوريا والعراق، عام 2014. ولا تزال تُكتشف المقابر الجماعية، حيث كانوا يلقون ضحايا الإعدامات التي نفذوها، وتقدر عدد الضحايا وفقاً لتقديرات لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة، بنحو 12 ألف جثة في العراق، وخمسة آلاف في شمال سوريا. كما تحقّق الأمم المتحدة في ارتكابه إبادة جماعية ضدَّ الأقلّية الإيزيدية في العراق. هذا إلى جانب جرائم أخرى، مثل الاعتداءات التي قام بها التنظيم على المعالم الأثرية، وتدميره للكثير من المواقع المصنَّفة عالمياً. وبشكل عام فإنَّ إنشاء محكمة دولية لمحاسبة التنظيم على الفظائع التي ارتكبها، سيكون ردَّاً جماعياً قوياً على الجرائم التي اقترفها ضدَّ الإنسانية جمعاء.

والجدير بالذكر أن المجتمع الدولي سبق وأن شكَّل محاكمة دولية من هذا القبيل، مثل المحكمة الجنائية الدولية في رواندا، التي حاكمت مرتكبي الإبادة الجماعية في هذا البلد، والمحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا السابقة، التي حاكمت الأشخاص المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية والجرائم ضدَّ الإنسانية وجرائم الحرب خلال المعارك، التي اجتاحت البلقان في التسعينيات.

  إن تنظيم (داعش) الذي توسَّع في منطقة جغرافية شاسعة، وتجاوز إجرامه وممارساته الوحشية حدوده الإقليمية في سوريا والعراق إلى بلدان العالم الغربي، ومارس جميع أشكال الاعتداءات، وشكَّل خطراً عابراً للقارات على جميع المجتمعات الإنسانية، تتوجب محاسبته؛ محاسبة دولية أمام مرأى العالم ومسمعه، وبذلك ستكون محاكمة لفكره المتطرف والخطير، من خلال الدعوة الى إنشاء هذه المحكمة في نفس مكان وقوع الجرائم التي ارتكبها هذا التنظيم المجرم، ولا سيما أنه لا يزال يشكِّل تهديداً وخطراً قائماً، على الرغم من أن هزيمته في الباغوز، فهناك بعض مسلحيه لا يزالون يتحصنون في مناطق نائية، أو تواروا عن الأنظار، ينتظرون فرصة للخروج من جديد. وكانت (قوات سوريا الديمقراطية) قد أعلنت بعد يوم واحد من هذا الإعلان عن بدء مرحلة جديدة في قتال تنظيم داعش في سوريا، بالتعاون مع التحالف الدولي، بهدف القضاء الكامل على الوجود العسكري السرّي لهذا التنظيم. فكما  حارب المجتمع الدولي مع الشركاء المحليين ضدَّ التنظيم عسكرياً عبر التحالف الدولي الذي ضم (69) دولة، ومنها دول عربية، والذي بدأ أعماله العسكرية بشكل فعلي، في الأول من شهر تشرين الثّاني/ نوفمبر، عام 2014 يتوجب عليه – اليوم – إتمام ما قام به، وإنشاء محكمة دولية عادلة لمحاسبته.

  وحول تحدّي الإدارة الذاتية الديمقراطية في مجابهة ملف أسرى داعش، الذين يشكّلون عبئاً على الإدارة الذاتية، والحديث عن إنشاء هذه المحكمة الدولية، والمعايير التي يجب أخذها بعين الاعتبار حول إنشائها، قال السَّيد (آلدار خليل) عضو الهيئة الإدارية في حركة المجتمع الديمقراطي (TEVDEM) لشبكة روجآفا الإعلامية: إنَّ وجود عناصر داعش بين أيدينا يعني وجود قنبلة؛ يمكن أن تنفجر في أية لحظة، وهم بالآلاف، بالإضافة إلى أولادهم وزوجاتهم الذين يشكِّلون خطراً إضافياً. والحقيقة أن هذا الملف؛ هو ملف واسع ومتشعب إلى حدٍّ كبير، والأصل في هذا الموضوع أن تأخذ كل دولة مواطنيها منهم، وتحاكمهم هناك، ولكن لم نلقَ بوادر إيجابية بهذا الخصوص، وفي حالٍ كهذه، لا بدَّ من إنشاء محكمة دولية، تضطلع بها الإدارة الذاتية، وتتم فيها المحاكمات، كما جرى للنازيين إبّان الحرب العالمية الثانية، ولتكن هذه المحكمة في (كوباني) حيث بدأ انكسار داعش، وليشهد ذلك كل العالم، وليأتي القضاة والسياسيون والإعلاميّون، وتتمَّ المحاكمات وفق القوانين والأعراف الدولية، وإن تمَّ ذلك، فسيكون له فوائد عدّة على التجربة الديمقراطية في الإدارة الذاتية- شمال وشرق سوريا، التي أعلنت – بصراحة – عن ضرورة إقامة هذه المحكمة، وتوضيح الجوانب الحقوقية للجرائم المرتكبة بحق الأبرياء الآمنين، مثل ما جرى بحقّ الإيزيديين من قتل وتشريد، وكذلك بحقِّ الآلاف من الأبرياء في مدن وبلدات مناطقنا التي تعرضت لأقصى الأساليب البشعة، لذا فإنَّ بإمكان أهاليها أن يتقدَّموا بشكاوى إلى هذه المحكمة للنظر فيها. وهذه المحكمة ستكون محاكمة لهذا الفكر، وهذا التوجُّه اللاإنساني الذي حلَّ على المنطقة وسكانها.” وحول إمكانية قيام دول هذا التحالف الدولي ضدَّ التنظيم بإنشاء المحكمة المقترحة، قال السَّيد (خليل): “من الأفضل أن يكون القرار بإنشاء المحكمة الدولية ضدَّ تنظيم داعش قراراً أمميّاً، مما لو جاء باسم التحالف الدولي ضدَّ داعش، على الرغم من أهميته، لأن هناك فرقاً لصالحنا بين إنشاء هذه المحكمة من قبل الأمم المتحدة، وإنشائها من قِبل التحالف، ويتضح – هذا الفرق – بأن المسألة ستأخذ أبعاداً أكبر وأوسع على المستوى العالمي، في حال لو كان القرار من الأمم المتحدة.”

  عن ردود الأفعال لدى بعض الشخصيات الحقوقية في العالم، قال (جويل هوبريشت) المسؤول عن البرنامج الدولي للعدالة الجنائية والعدالة الانتقالية في معهد الدراسات العليا في باريس: “إن ما يبرر الطابع الدولي للجرائم التي ارتكبها التنظيم، ومحاكمة مسؤوليه (محكمة نورمبرغ) التي حاكمت قادة الحزب النازي الألماني؛ المسؤولين عن جرائم الحرب خلال الحرب العالمية الثانية.” ويرى أنها “ستكون استجابة قضائية أقوى بكثير.. وشاملة” بدلاً من ملاحقات مجتزأة في كل بلد على حدة. كما يرى المحامي (كلايف ستافورد سميث) من منظمة “ريبريف” المعنيّة بتحقيق العدالة، أنه يمكن للمجتمع الدولي تقديم الدعم اللوجستي والقانوني للأكراد من أجل إنشاء محاكم محلية تحترم المعايير الدولية. ويقول السيد (نديم حوري) مدير برنامج مكافحة الإرهاب في منظمة هيومن رايتس ووتش لوكالة فرانس برس: “إنها دعوة للمساعدة بعدما تركهم المجتمع الدولي” لإدارة مرحلة ما بعد التنظيم و”هم يذكّرونه بأنها مسؤولية مشتركة”. ويقول أندراس ريدلماير الباحث في جامعة هارفرد الأمريكية إنه في ظل “نقص الإمكانيات والحيادية” لدى الأجهزة القضائية في سوريا أو العراق، يمكن للمحكمة الدولية أن “تشكّل بديلاً جيداً”.

  أما بالنسبة لردود الفعل الرسمية لبعض الدول، فإن فكرة قيام هذه المحكمة لقيت ترحيباً لدى العديد من المسؤولين، بينهم رئيس الوزراء السويدي ووزيرا داخلية كل من فنلندا والنمسا، بالإضافة إلى ألمانيا، التي رحّبت بالفكرة عبر وزير داخليتها هورست زيهوفر، إذ اعتبر أن الإرهاب “يتعلق بحركة دولية، وعلينا أن نستجيب لها في القضاء الدولي”. وفي السياق ذاته، يرى خبراء في الشؤون السياسية الأوروبية أن فكرة تفويض هذه المهمة إلى محكمة دولية في الشرق الأوسط “جذابة”، مبرزين أن “وجود الضحايا والشهود في تلك المنطقة قد يساعد على تقديم القرائن والأدلة بسهولة. أما بالنسبة للمسؤولين الأتراك في أنقرة، فإن الحديث عن إنشاء هذه المحكمة الدولية، يثير رعبهم، وذلك لما يمكن أن تكشف من علاقات لم تعد مخفيّة بين التنظيم وتركيا، بحسب ما يشير الكثير من المراقبين.

  في المقابل، فإنَّ إنشاء هذه المحكمة، وإيجاد هذه الأداة الضرورية لتحقيق عدالة ملحّة، دونه تحدِّيات كثيرة، بحسب خبراء، ليس أقلها أنها تتطلب وقتاً وجهداً كبيرين، إذ لا بدَّ من وضع الإجراءات القضائية، وتدريب القضاة والمحامين حول هذه المسائل المعقدة، عدا عن مسألة من سيخضع للمحاكمة بناءً على قرار إنشائها، لكون الكثير من قادة التنظيم قد قتلوا أو فروا، وكيفية ملاحقة المجرمين قانونياً. ويوضح (هوبريشت) أنه حتى لو أبصرت محكمة مماثلة النور، سيتطلب الأمر “سنوات عدّة” قبل أن نشهد الإدانات. كما يتحدَّث الخبراء عن أن الفكرة تواجه صعوبات كبيرة أخرى، تعيق إنشاء محكمة دولية، مثل: معارضة بعض الدول لهذه الفكرة لأسباب سياسية، وعدم وجود علاقات رسمية مع الإدارة الذاتية، علماً أن وزارة الخارجية الألمانية أشارت إلى هذه النقطة. كما أن هناك خشية لدى الأوروبيين من عدم تلقي هؤلاء محاكمة عادلة، خصوصاً بعدما جرى الحديث مؤخراً عن أن إحدى المحاكمات في العراق تمَّت خلال عشر دقائق فقط، وانتهت بإصدار حكم الإعدام.

  إنَّ الدعوة إلى إنشاء محكمة دولية لمحاسبة عناصر تنظيم الأجانب، هي دعوة مشروعة، وتملك أرضية حقوقية، وعلى المجتمع الدولي القيام بواجباته الحقوقية والإنسانية، والدعوة إلى إنشاء هذه المحكمة؛ التي ستثبت ألا جرائم تمرُّ بدون محاسبة، وتعيد الثقة بالعدالة الدولية، إلى جانب فضح ومحاسبة الدول التي دخلوا منها إلى سوريا.


المصادر:

  • فرانس 24- شبكة إعلامية عالمية- عنوان المادة: محكمة دولية لمحاسبة تنظيم الدولة الإسلامية محطة أساسية لكن دونها عقبات- بيروت (أ ف ب)، 27 آذار/ مارس 2019 الموقع الإلكتروني : https://www.france24.com/ar/
  • العربي الجديد-  شبكة إعلامية عربية- عنوان المادة: محكمة دولية وتعاون مع “الإنتربول” لمحاكمة مقاتلي “داعش” الأوروبيين- شادي عاكوم- 26 آذار/ مارس 2019 الموقع الإلكتروني: https://www.alaraby.co.uk/politics/
  • صحيفة روجآفا- نصف شهرية تصدر عن شبكة روجآفا الإعلامية- المكتب الإعلامي للإدارة الذاتية الديمقراطية-  العدد: 47، اليوم الاثنين، 1 نيسان/ أبريل 2019

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى