مقالات رأي

آثار منبج أوابد تحكي قصص التاريخ

عُرفت مدينة منبج واشتهرت عبر التاريخ لمكانتها ودورها المميز في الكثير من العصور، حيث كانت مركزاً دينياً وعسكرياً وتجارياً وزراعياً معروفاً.

تقع منبج إلى الغرب من نهر الفرات بـ “30كم” والشمال الشرقي من مدينة حلب عاصمة سوريا الاقتصادية وكبرى مدن الشمال السوري، وتبعد عنها ما يقارب الـ “80 كم”، فيما تبعد عن الحدود التركية السورية مسافة “30 كم”، وترتفع عن سطح البحر حوالي “470م”.

وعلى أرض شبه سهلية تنحدر نحو نهر الفرات شرقاً والساجور شمالاً، فتتربّع بخيلاء في موقع استراتيجي تتفرّد به، لتكون كواسطة العقد في ملتقى طرق التجارة والزراعة، وصلة الوصل بين مدن شرق وغرب الفرات، إضافة إلى تاريخها الموغل في القدم، والذي تحكي عنه ما يكشف فيها من آثار وأوابد تاريخية تظهر كل يوم.

التسمية والأهمية التاريخية للمدينة وآثارها:

اختلف الباحثين في التاريخ في أصل التسمية وتاريخ بنائها، فمنهم من قال إنّها تعود في بنائها وتسميتها إلى كسرى، الذي بناها وأطلق عليها اسم “مَنْ بِه” وحُرّفت فيما بعد إلى “مَنْبِج” بفتح الميم وتسكين النون وكسر الباء، ومنهم من يقول إنّ الاسم الحالي مشتقّ من كلمة مبوغ “في اللغة الحثية” ثم “نامبيجي” بالآشورية و”نابيجو” بالآرامية، ومنهم من يقول إنّها تعود لأصل الكلمة السريانية “نابوج” لأنّها كانت تحتضن نبعاً غزيراً من الماء كان يعرف بـ “نبع الروم”.

أما أهمية المدينة عبر التاريخ، فقد كانت مَنبج تلعب دوراً كبيراً دينياً، فكانت عاصمة الآراميين، وفيها شُيّد هيكل لإله العواصف “حدد” وكذلك تمثال لآلهة المياه “أتاركانين”، وكذلك كان لها دور عسكري، فكانت تارة قاعدة للجيش الروماني، وتارة قاعدة ومنطلقا للجيوش الإسلامية ومنطلقا للجيوش نحو بلاد الروم، وكانت شاهدة على سجالات عسكرية بين العرب والروم البيزنطيين.

وما زالت بقايا الأسوار الرومانية والبيزنطية تحكي قصص الفتوحات والمعارك والانتصارات المتبادلة، كما إنّ المدينة عرفت كمركزٍ تجاري اقتصاديّ، وانتعشت فيها صناعة الحرير الطبيعي الذي كان يعتمد على تربية دودة القزّ حتى أواسط القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى زراعتها للأشجار المثمرة والحبوب والخضار مما جعلها من المراكز البشرية الهامة التي انتعشت فيها الحياة بكافة جوانبها على الدوام.

أما المواقع الأثرية في منبج فإنّها لا تكاد تحصى، وما زالت في كلّ يوم تُخرج لنا من ذخرها الدفين ما يحكي قصصاً عن تاريخ غابر وحضارات عديدة، ولعلّ أبرز المواقع الأثرية على سبيل المثال لا الحصر هي: “القلعة، المدافن الغربية، تل عرب حسن، خربة ألاباش، تل أحمر، جعدة المغارة، تل العبر، تل أبو قلقل، جبل خالد، قلعة نجم، تل شيوخ تحتاني، وتل شيوخ فوقاني، ديرقنشرة، صرين، تل حالولة، شاش حمدان، قلعة أم السرج، قلعة الحلونجي، موقع النبغة، تل الرفيع، تل خميس، تل الزنقل، تل الياسطي، الشقلة، الهوشرية”.

أوابد أثرية ومكتشفات جديدة تسرد قصص الحضارة:

إلى جانب الكمّ الهائل من المواقع الأثرية الهامّة والنادرة، ما زالت الاكتشافات تتوالى في كلّ يوم وبعضها يكون دون قصد، جراء عمليات البناء أو الفلاحة أو دفن الموتى، وكأنّ المدينة تحوي في أحضانها من الحضارات أكثر مما فوقها، وتخبّئ أكثر مما تفصح عنه من تاريخ مشرق ومشرّف.

مؤخراً وبعد تحرير المدينة من تنظيم داعش، كانت المعابد والمدافن التي اكتشفت في جنوب شرق المدينة فيما يعرف بمنطقة “المطاحن” محط أنظار واهتمام لجنة الثقافة والفن والتي تتولى مهام حماية الآثار أيضا في الإدارة المدنية في منبج خلال شهر آب من العام المنصرم.

بالتوجه إلى الموقع برفقة قسم الآثار في لجنة الثقافة بالمدينة كانت الرؤية الحقيقية والمباشرة خير رواية وأفضل شاهد، وكان لوجود أكاديمي في الآثار ضمن اللجنة فرصة ليحدثنا عن الموقع وتاريخه وما يعنيه وبخاصة أن الموقع اكتشف حديثاً، والأكاديمي السيد عبدالوهاب شيخو هو بذات الوقت رئيس شعبة التنقيب في دائرة الآثار وتحدّث بالتفصيل عن الموقع:

“تم اكتشاف الموقع بعد معلومات من أهالي المنطقة بوجود مدخل بشكل سرداب سفلي، يؤدي إلى نفق في منطقة المطاحن، وعند الوصول للمكان الذي يقع ضمن منطقة سكنية في الطرف الجنوبي الشرقي للمدينة، ومن خلال درج حجري يمكن النزول إلى قلب الموقع، الذي يعتبر مدفناً ومعبداً في ذات الوقت ويعود تاريخه المعروف الآن إلى مرحلة الدعوة السريّة للديانة المسيحية وكان المبشرون يلجؤون إلية للتعبد والاختباء، أي حوالي عام325م”.

وأضاف عبدالوهاب: “المكان كان مكتشفاً منذ عام 2011م، ولكنّه كان مهمّشاً، وبعد انطلاق الثورة السورية وما شهدته المنطقة من نزاعات عسكرية خضعت لسيطرة الجيش الحر، ومن ثم إلى سيطرة داعش على المنطقة ومنها هذه المدافن، وأخبرنا بعض المواطنين بوجود مداخل ودهاليز تؤدي إلى موقع أثري ترزح تحت أطنان من القمامة والنفايات، وبعد أن قصدنا الموقع رأينا إنّه تعرض لنهب كامل وتخريب متعمّد وتنقيب عشوائي، وكان تنظيم داعش هو المسيطر على المدينة برمتها”.

سويات متباينة والمكتشف منها يعود للقرن الرابع الميلادي

الموقع يضم سويات عدة ومن أزمنة مختلفة، يقول شيخو عنها: “بعد الكشف عن المكان وتنظيفه، ومن خلال الدراسات الأولية على الموجودات والآثار استطعنا تحديد السوية التي وصلنا إليها مبدئياً، وهي تعود لحوالي عام 325م؛ أي في فترة الدعوة المسيحية السريّة وتقسيم روما، ولكن يبدو جلياً إنّ تاريخ المكان ككلّ يعود لفترات تاريخية أقدم، والأقواس الرومانية تدلُّ على ذلك وهناك أنماط متعدّدة من السراديب التي تنتهي بمدفن ومحراب أبرزها المدفن الموجود في أقصى شمال المدفن الأول، الذي يأتي على شكل صليب قاعدته في الغرب يحوي على قبر في الميمنة وآخر في الميسرة”.

وأضاف شيخو: “سويات أخرى ما تزال مجهولة وتحتاج لدراسة أعمق وأوسع، هناك أكثر من مخرج سري في المكان يبدو على شكل بئر في أحدها؛ ولكنّها كانت تستخدم كمنافذ للفرار من المتنفّذين عند مداهمة المكان، وهي تنزل إلى مستويات أدنى وتصل إلى الأعلى وتوصل بين دهاليز عدة، وربما كانت بقصد تأمين التهوية أيضاً، كذلك عثرنا على منحوتة من البازلت تجسّد رأس البومة وغصن الزيتون، والبومة كانت ترافق الآلهة أثينا، وهي تضع الخوذة الحربية، ويمكن تعزيز هذا مع دراسات تشمل اللقى النقدية والمسكوكات والفخاريات”.

“أيضاً في سرداب آخر نرى وجود بئر أو منفذ، لكنّه في الحقيقة كان فتحة تهوية لتأمين الضوء والهواء ومخرج طوارئ، وبه ثلاث درجات ومحراب في الشرق، وكان مهيّأ لقراءة الكتاب المقدس والتعبد وأمور أخرى تحتاج للدراسة لتأكيدها.

ومن الأقسام الهامة الفناء المكشوف الذي يحوي سرداب ينتهي بقبر كاهن منهوب بالكامل، والقبر مجصّص والأرضية مرصوفة بالفسيفساء، وهناك درج للأسفل ينتهي بسرداب ومدخل سري، وقبة كانت هامة جداً تضاهي “قبة البانتوم” في روما”.

 الحاجة لتوثيق شامل ودراسة كاملة للموقع:

في جانب آخر هناك القسم الشمالي في المدفن الذي يمكن الوصول إليه عبر مدخل آخر تحدّث عنها رئيس قسم التنقيب بالقول: “أبرز ما يلفت الانتباه في المدخل الشمالي السرداب المؤدي إلى ما يشبه المحرس في بداية السرداب، وهناك محراب يحوي جرن لتثبيت التمثال المقدس ويبدو من التجويف في بطن المحراب إنّ كتاباً مقدساً أو تمثالاً من المعدن أو الحجر كان هنا وسرق، وأيضاً هناك قبة كانت في هذا القسم لكنّها مدمرة بالكامل، ولكننا لم نستطع بعد قراءة وتحليل موجودات هذا القسم، التي تحتاج لدراسات موسعة وتوثيق وتحليل علمي توثيقي دقيق”.

خاتمة:

إنّها إحدى أبرز المعالم الأثرية المكتشفة حديثاً، وهي تخبّئ الكثير من المفاجآت والصفحات المجهولة من التاريخ العريق للمنطقة، والمدينة بأسرها معروفة بكثرة الدهاليز والسراديب فيها، وقد شاهدنا التخريب المتعمد الذي طالها والنهب الكامل للموقع، وهنا تتجلّى صورة أخرى من همجية وظلام تنظيم داعش الذي قتل البشر ونهب ودمر الحجر، وقضى على عشرات المواقع الأثرية ودمر جانباً من الإرث والثقافة الانسانية.

 


المراجع:

– ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، لبنان، 1993.

– الغزّي كامل حسين الحلبي، نهر الذهب في تاريخ حلب، دار القلم، حلب، سوريا، ط 2، 1998.

– ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى