هل للهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل علاقة بسقوط طائرة الرئيس الإيراني؟
مع بدء السلطات الإيرانية الكشف عن ملابسات سقوط الحوامة التي كانت تقل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان ومرافقيهم، وفقدان الجميع حياتهم، أثناء عودتهم من تدشين سد “قيز قلعة سي” على الحدود الأذربيجانية، يبدو أن النظام الإيراني ماضٍ في التمسك بروايته التي تبدو غير مقنعة بدرجة كبيرة، وتشوبها الكثير من علامات الاستفهام، وهي أنّ الحوّامة سقطت نتيجةً لسوء الأحوال الجوية أو حدوث خلل تقني غير معروف.
ومن خلال تتبع تعاطي المسؤولين الإيرانيين والإعلام الرسمي مع هذه الحادثة، يبدو الارتباك واضحاً في نقل هذا الخبر، بدءاً من رأس هرم السلطة في إيران وهو المرشد علي خامنئي الذي أكد أن إدارة شؤون البلاد لن يصيبها أي خلل، وذلك قبل أن يتم تأكيد مقتل ركاب الطائرة وبينهم الرئيس الإيراني.
على مدار ساعاتٍ طِوال تتالت أنباء متضاربة تحاول التدرّج في نقل الخبر لامتصاص الصدمة، والتحضير لاستقبال هذا الخبر، تحسباً لما قد سيحدث في الداخل الإيراني.
بدا من الواضح التعمد في تأخير كشف الخبر، وما كان التأخير في الوصول إلى الحقيقة إلا تباطؤاً مقصوداً من السلطات الإيرانية، ومن غير المنطقي أن يكون النظام الإيراني الذي لديه قدرة فائقة في التعقب، عاجزاً عن تحديد مكان سقوط طائرة شخص بأهمية رئيس الجمهورية.
كثيراً ما تعقبت الأجهزة الأمنية الإيرانية المتظاهرين ضد نظام الجمهورية الإسلامية من خلال شرائح هواتفهم النقالة، وكانت تصل إليهم وتعتقلهم أينما كانوا، لكن مكالماتٍ “خياليةً” عدة خلال ثلاث ساعات من قبل مدير مكتب الرئيس الإيراني مع إمام جمعة تبريز سيد آل هاشم الذي كان أيضاً برفقة رئيسي وعبد اللهيان، والذي أخبره بصوتٍ متألم بعد السقوط، أنه لا يعرف أين هو، وأنه ليس بحالٍ جيدة، ولا يعرف ما الذي حدث لهم، لم تكن كافية لتحديد موقعهم ووصول فرق الإنقاذ لهم!
إنّ مضيّ الوقت فقط هو ما كان يريده المسؤولون الإيرانيون، فكيف بدولة باتت تشتهر بأسطول مسيّراتها الضخم ومتنوع المهام، أن تطلب المساعدة من تركيا ومن دول أخرى، في الوصول إلى الطائرة المفقودة، والادعاء أنّ مسيراتها كانت في مهمة في شمال المحيط الهندي!
كان الخوف من خروج زمام الأمور عن السيطرة، هو ما دفع المسؤولين الإيرانيين إلى ممارسة التضليل، والتأخر في إعلان موت الرئيس الإيراني ووزير الخارجية، ولا سيّما أنّ هذا الحدث الكبير قد يشكل فرصة للشعب الإيراني الذي لم تخمد جذوة ثورته بعد، للنهوض مجدداً في وجه النظام، في حال حدوث أي خلل أو اضطراب في البنية الحاكمة.
إنّ انعدام الشفافية لدى النظام الإيراني في التعاطي مع مثل هذه الأحداث – وهذا أمر بات معروفاً كصفة أساسية لهذا النظام- جعل شكوكاً تطفو إلى السطح، منها أن يكون الحادث قد تم تدبيره من الداخل لإزاحة إبراهيم رئيسي الذي كان منافساً لمجتبى خامنئي ابن المرشد على خلافة والده. وعلى الرغم من أنّ الكثيرين باتوا يرجحون هذه الفرضية، إلا أنّها تبدو مستبعدة لعدة أسباب أولها أنّ إبراهيم رئيسي يعتبر أحد أجزاء النواة الصلبة الحاكمة في إيران، وهو يتمتع بنفوذ قوي في الحرس الثوري الذي يعتبر ركناً أساسياً من أركان الحكم في إيران إلى جانب المؤسسة الدينية، ومن غير المرجّح أن تكون قضية الخلاف على منصب المرشد، وبالتالي تفكيك بنية النظام -في الوقت الذي تدأب فيه إسرائيل على ممارسة هذا الدور من خلال استهداف كبار القادة الإيرانيين- أمراً مطروحاً في هذه المرحلة الحساسة بالنسبة لهم. بل على العكس، من المفترض أن يكون التوجه نحو تعزيز نواة الحكم في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تحيط بالمنظومة الحاكمة.
كما أنه علينا ألا نغفل أنّ رئيسي لم يكن وحده من قُتل في هذه الحادثة، وإنما كان إلى جانبه حسين أمير عبد اللهيان الذي يُعتبر “سليماني” الدبلوماسية الإيرانية، وهو أيضاً، مثل رئيسي، يُعرف بإخلاصه الشديد للمرشد ولنظام الجمهورية الإسلامية، ويعتبر رمزاً لسياسة النظام الإيراني الأيديولوجية في المنطقة ولا سيما بعد هجوم 7 أكتوبر.
لم يتعامل النظام الإيراني من قبلُ بهذه الطريقة مع من كان يدور في فلكه، أو من غرّد خارجاً عن السرب في فترةٍ من الفترات. فقد وُضع مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي الزعيمان الإصلاحيان في الإقامة الجبرية، بعد تأجيجهما لانتفاضة الحركة الخضراء المليونية عام 2009م. وتم حظر الرئيس الأسبق محمد خاتمي من الحياة السياسية بعد أن أبدى موقفاً متعاطفاً مع هذه الحركة، ولاختلاف رؤيته مع التيار الأصولي في ضرورة الانفتاح على الغرب والإصلاحات الثقافية التي قام بها في البلاد خلال فترة رئاسته. كما استُبعد حسن روحاني من عضوية مجلس خبراء القيادة التي أجريت في آذار/ مارس الفائت، بعد تزعزع ثقة خامنئي به، واستُبعد كذلك أحمدي نجاد الأصولي المقرّب من الحرس الثوري وخامنئي، بعد تمرده على قرارات الأخير، كما حدث عندما أصرّ نجاد على قرار إقالة وزير الاستخبارات الإيرانية حينها حجة الإسلام حيدر مصلحي، رغم معارضة المرشد الشديدة لقرار إقالته، وهذا التحدي أودى بحياة “نجاد” السياسية.
لم نشهد تصفيةً جسدية لأيّ من هؤلاء القادة رغم انحرافهم عن مسار المرشد بأكثر من شكل، فما بالنا بالإقدام على تصفية أشخاص مثل رئيسي وعبد اللهيان اللذين يعتبران من صفوة التيار الأصولي لدى المرشد، كما أنه من غير الممكن أن يتم اتخاذ قرار بهذه الخطورة من قبل أيّ كان ضمن مؤسسة الحكم دون العودة إلى خامنئي.
يبقى الاحتمال الآخر وهو أن يكون للموساد الإسرائيلي يد في هذه العملية الكبيرة، وإذا عدنا إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيين في السنوات السابقة، وقرأنا المؤشرات والوقائع التي تحيط بهذه الحادثة جيداً، فإن الاحتمال الأخير قد يكون الأقرب إلى التصوّر.
ففي عام 2022 أعلن الحرس الثوري أنّه حصل على وثائق تفيد بتخطيط إسرائيل لاغتيال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بعد أن فشلت في اغتيال أمير حاجي زاده قائد القوات الجوية في الحرس الثوري، وقد منعت استخبارات الحرس الثوري الرئيس الإيراني من عدّة أسفار وحضور مراسم قد تنطوي على خطورة بالنسبة له آنذاك.
وفي حزيران 2021 أعلن وزير الاستخبارات الإيراني السابق علي يونسي، أنّ الموساد تغلغل خلال العشرة أعوام الأخيرة في إيران إلى مستويات يجب فيها على القادة الإيرانيين أن يشعروا بالقلق على حياتهم.
ولعلّ مسألة تغلغل الموساد في الداخل الإيراني لم تعد خافيةً على المتابع للشأن الإيراني، فقد اغتال الموساد بين عامي 2010 – 2012 م. أربعة علماء نوويين إيرانيين بارزين وهم مسعود محمدي ومجيد شهرياري وداريوش رضائي نجاد ومصطفى أحمد روشن. وقد استمرت عملياته في إيران لتطال أب البرنامج النووي الإيراني، وأكبر علماء إيران النووين، محسن فخري زاده في نوفمبر 2020م.
كما تعتبر حادثة سرقة الوثائق النووية في منشأة قرب طهران، عام 2018م. أحد أكبر العلميات الاستخباراتية التي نفذها الموساد في إيران، والتي كانت السبب الرئيسي في خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران.
في أيلول من العام الفائت قال رئيس الموساد ديفيد برينغ علانيةً، خلال مؤتمر بجامعة “رايخمان” في هرتسيلا ، والذي أقيم حول الإرهاب: ” رسالتنا واضحة وحازمة: لا تخطئوا يا من قرروا إرسال هذه الخلايا. تأكدوا أننا سنصل إليكم وسيتم تحقيق العدالة ليراها الجميع. لقد تم ذلك في الماضي، وسنعمل على رفعه إلى المستوى التالي في المستقبل”.
وبالتالي قد تكون عملية إسقاط الطائرة حدثت بتواطؤ داخلي مع وجود اختراق استخباراتي على أعلى المستويات، وهذا ما بدأت بعض الأصوات من داخل الإيران تشير إليه، حيث قال ممثل تبريز في البرلمان الإيراني أحمد علي رضا بيغي اليوم الجمعة: “هذا الحادث فيه الكثير من الغموض، فمن غير الواضح بالنسبة لي لماذا اختاروا المروحية للمسافة بين تبريز وقيز قلعة، وهي مسافة قصيرة؟”.
أو قد تكون العملية تمت من خلال الأراضي الأذربيجانية إما باستهدافها بشكل مباشر أو من خلال هجمة سيبرانية تسببت في تعطيل الطائرة بشكل من الأشكال.
إذا كانت حادثة الطائرة التي تقل رئيسي ومرافقيه قد وقعت على حدود دولة أخرى لكان هذا الاحتمال الأخير أضعف، لكن لكون الطائرة سقطت قرب الحدود الأذربيجانية فهذا يدفعنا إلى التفكير في احتمالية أن تكون إسرائيل طرفاً في هذه الحادثة. حيث تعتبر أذربيجان حليفاً كبيراً لإسرائيل، وينشط الموساد بشكل كبير فيها منذ ثلاثة عقود، وقد سمحت “باكو” للموساد بإنشاء فرع عمليات متقدم للموساد على أراضيها لتكون بمثابة عين على الداخل الإيراني مقابل دعم إسرائيل لها بالسلاح، ولم تتوانَ السلطات الإيرانية يوماً عن اتهام أذربيجان بتعاونها مع الموساد الإسرائيلي في تنفيذ معظم العمليات التي تم ذكرها في هذا المقال، انطلاقاً من الأراضي الأذربيجانية.
بعد احتدام المواجهة بين إيران وإسرائيل عقب هجوم 7 أكتوبر الذي شنته حماس على إسرائيل بدعم من إيران، زادت إسرائيل من وتيرة استهدافها للقادة الإيرانيين وقادة “محور المقاومة” الكبار، ومنهم رضي موسوي القيادي البارز في فيلق القدس والذي تعتبره إسرائيل الرأس المدبّر لهجوم 7 أكتوبر ضدها، وكانت أكبر عملية استخباراتية لها هي اغتيال 7 قادة كبار في الحرس الثوري، في استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق بينهم رضا زاهدي، أهم قائد في فيلق القدس بعد سليماني.
ربما لا يمكننا قراءة حادثة مقتل رئيسي وعبد اللهيان ومرافقيهم بمعزل عن سير الأحداث اللاهبة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، ولا سيّما قصف إيران للعمق الإسرائيلي بالصواريخ والمسيرات، فهذا القصف على الرغم من أنه كان محدوداً ومضبوطاً، لكنّ يمثل بالنسبة لإسرائيل تجاوزاً إيرانياً لآخر الخطوط الحمر بينهما، وتعتبرها حرباً مباشرةً ضدها، ولعلّ ما زاد من حنق إسرائيل هو رد الفعل الأمريكي الذي لم يرقَ إلى ما كانت تتطلع إليه، بعد شنّ إيران هجوماً صريحاً على أراضيها، كما أنّ الردّ الإسرائيلي باستهداف رادارات الدفاع الجوي لمنشأة نطنز النووية في أصفهان، بدا متواضعاً، وذلك بسبب شدة الضغوطات الأمريكية والغربية على إسرائيل.
إنّ إسرائيل أدركت أنّ المواجهة العسكرية مع إيران هي أمر بالغ التعقيد والصعوبة، ويبدو أنها لن تتحقق، ولا سيما بعد أن كانت تتوقع نشوء تحالف بوتيرة سريعة ضد إيران بعد تعرض أراضيها للهجمات الإيرانية، كما أنّ التصدي لأذرع إيران التي باتت تلتف حول إسرائيل يصعّب خوض حرب مفتوحة ضدها والقضاء عليها بسبب التعقيدات الإقليمية والدولية أيضاً في الملف الإيراني، لذلك أعلن المسؤولون صراحةً باستهداف القادة الإيرانيين، وفق عقيدة ضرب “رأس الأخطبوط” التي كشف عنها نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وهذه السياسة باتت واضحة للعيان، وبات مشهد صلاة الجنازة من قبل خامنئي على قادته يتكرر كثيراً في الآونة الأخيرة.
بالعودة إلى أهمية حسين أمير عبد اللهيان، وعدم وجود مبرر لاغتياله في الداخل الإيراني، نجد في المقابل أنه يشكل خطراً كبيراً بالنسبة لإسرائيل بحراكه الدبلوماسي المشبع بفكر مناهضة إسرائيل، فالنجاحات التي حققها عبد اللهيان على الصعيد الإقليمي، ولا سيما التقارب مع الدول العربية منها السعودية ومصر، وتحركاته الإقليمية المكثفة، ولا سيما بعد عملية “طوفان الأقصى” ولقاءاته المتكررة بقادة “محور المقاومة” كانت تشكل مصدر قلق بالغ لإسرائيل. فقد تمكن من خلال إعادة علاقات بلاده مع السعودية من عرقلة عملية التطبيع الإسرائيلية-السعودية، كما كان قد أحدث تقارباً مع مصر، وكانت العلاقات المصرية-الإيرانية أيضاً قريبة التطبيع، بعد قطيعة دامت لعقود، على إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978. إنّ نجاح الأصوليين المتشددين المنادين بـ “محو إسرائيل من الوجود”، في تشكيل علاقات طيبة مع العالم العربي المحيط بإسرائيل، وتحقيقهم نجاحاً في التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة والغرب فيما يتعلق بالاتفاق النووي، سيشكل كابوساً لإسرائيل، في ظل تشكل حالة نفور وامتعاض إقليمية ودولية من الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، ولأجل منع هذا التقارب قد تقدم على تقويض هذه الاستراتيجية من خلال تصفية مهندسيها، ولا سيّما بعد بروز تسريبات أفادت بحدوث لقاءات سرية أمريكية-إيرانية في مسقط لاستعادة المفاوضات النووية.
من المؤكد أنه لا يمكن البت بشكل قطعي في السبب الحقيقي الكامن وراء هذه الحادثة، لكن يبقى السؤال الأبرز هو أنه في حال التأكد من ضلوع الموساد في مقتل رئيسي وعبد اللهيان ومرافقيهم، فهل ستعلن إيران ذلك إذا توصلت إلى ذلك بعد إنهاء التحقيقات؟
يبدو من المستبعد اتهام النظام الإيراني إسرائيل علناً، لما سيترتب عليه من ضرورة خوض حرب شاملة ضد إسرائيل، وهذا ما سيتجنبه هذا النظام. وقد يكون هدف إسرائيل، من هذه العملية، هو جرّ إيران إلى هذه الحرب، ومن ورائها الولايات المتحدة، بعد فشلها في ذلك عقب استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل القادة العسكريين الإيرانيين.