مقالات رأي

بعد التخاذل الروسي.. هل تقترب أرمينيا من الغرب أكثر؟

إن الأحداث الأخيرة في إقليم ناغورني كاراباخ تؤكد مرة أخرى على فشل وهشاشة المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا -المتصارعتان منذ 100 عام- نتيجة اتفاقيات وقف أطلاق النار، في عامي 1994 و2020، والتي كانت بوساطة روسية.  فعلى مرأى من أعين قوات حفظ السلام التابعة للأخيرة، أطلقت أذربيجان في 19 من الشهر الجاري عملية عسكرية في إقليم ناغورني كاراباخ، ذي الغالبية الأرمنية ضمن جغرافيتها، ليشتعل بذلك فتيل الصراع القديم- الجديد في الإقليم مرة أخرى، في خطوة يبدو الهدف منها إصرار باكو على إخضاع الإقليم لسلطتها، وتحقيق حلمها القديم، الذي يعود إلى عهد الاتحاد السوفييتي، حيث لم تتخل عنه رغم السيطرة على أجزاء من تلك الأراضي نتيجة الحرب بينها وبين أرمينيا عام 2020، وذلك في ظل تقديم يريفان الدعم المالي والعسكري للإقليم.

أدى الصراع الأخير في إقليم ناغورني كاراباخ، والذي دام حوالي 24 ساعة منذ بدء أذربيجان الهجوم، إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين باكو والسلطات في الإقليم المتنازع عليه، وسيطرة أذربيجان على الإقليم، في وقتٍ نفت فيه أرمينيا أن تكون مشاركة في إعداد نص الاتفاق، وأنه ليس لها قوات في كاراباخ.

لكن، رغم وصف رئيس الوزراء الأرميني، باشينيان، اتفاقية وقف إطلاق النار عام 2020 بينه وبين أذربيجان، بالاتفاقية “المؤلمة” سابقاً، والتي كانت برعاية روسية، إلا أن الأخيرة عادت هذه المرة أيضاً إلى عدم الوفاء بالتزاماتها مع يريفان، خاصة أنّ إقليم ناغورني كاراباخ بقي محاصراً لأكثر من 6 أشهر من قبل أذربيجان، قبل البدء بهجومها الأخير عليه، وعدم سماحها بدخول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم عبر “معبر لاتشين” إلا بعد السيطرة عليه، في وقتٍ كان دخول المساعدات عبر ذلك المعبر البري والوحيد إلى الإقليم من ضمن بنود اتفاقية عام 2020.

إن المراوغة الروسية حيال ما يجري في الإقليم الجبلي، كشفت الوجه الحقيقي لموسكو إزاء حليفتها منذ عهد الاتحاد السوفيتي، يريفان، وكشفت أيضاً عن تدهور وتوتر العلاقات بين الطرفين، وهذا كان واضحاً في كلام رئيس الوزراء الأرمني، مؤخراً، عندما وصف تحالفات بلاده بـ “غير مجدية” في إشارة إلى علاقاته مع موسكو، قائلاً: “إن الوضع الراهن أظهر أن الأنظمة الأمنية والحلفاء الذين نعتمد عليهم منذ فترة طويلة حددوا لأنفسهم مهمة إظهار ضعفنا”. بالإضافة إلى ذلك، فإن أذربيجان قالت إنها أبلغت تركيا وروسيا بعمليتها العسكرية، لتبرر الأخيرة موقفها بأنه تم إبلاغها بالعملية في “اللحظات الأخيرة”، مكتفيةً بدعوة الطرفين إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات.

إذاً، يبدوا أن برودة أعصاب روسيا وموقفها الرسمي يحمل في طياته إشارات استفهام حول ما آلت إليه علاقاتها مع أرمينيا، وتقاعسها في تقديم الدعم لها في مواجهتها لأذربيجان. فما الذي تغيّر؟

عندما خسرت أرمينيا نحو ثلثي أراضي إقليم ناغورني كاراباخ في حربها مع أذربيجان عام 2020، والتي استمرت 44 يوماً، اتهمت موسكو بـ”عدم القيام بدورها التاريخي” في الدفاع عنها ضد أذربيجان، حيث حسمت الأخيرة الحرب لصالحها بفضل الدعم التركي المباشر لها عن طريق تزويدها بالطائرات المسيّرة. وبالتالي، تزعزعت العلاقات الروسية-الأرمنية وسادها التوتر، إلى أن بدأت روسيا حربها ضد أوكرانيا في 24 شباط\ فبراير 2022، لتصبح نقطة مفصلية ومنعطف في العلاقات الضاربة الجذور بين روسيا وأرمينيا، وبدأت تتوضح ملامح تلك العلاقات شيئاً فشيئاً.

هنا يجب التركيز قليلاً على اختيار باكو لتوقيت هجومها الأخير على كاراباخ، فلو تمعّنا في الظروف الراهنة للدول الموجودة في جنوب القوقاز، والأطراف التي لها علاقات وتدخلات مباشرة في الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، سوف نلاحظ أن جميع المعطيات والوقائع والظروف تصب في مصلحة أذربيجان، لذا كانت مدة حسم المعركة الأخيرة قصيرة بالمقارنة مع الحرب التي حصلت عام 2020، وفي مقدمة تلك الظروف، تعمّق فجوة الخلافات بين يريفان وموسكو وتوتر العلاقات بينهما.

لقد كان غزو روسيا لأوكرانيا وانشغالها به، تداعيات كبيرة على علاقات أرمينيا وروسيا، مما دفعت باكو لاستغلالها وشن هجوم جديد على كاراباخ. فروسيا التي لم تحرك ساكناً إبان حرب 2020 ولم تدعم أرمينيا -بحجة أن الحرب لم تصل إلى داخل الأراضي الأرمينية- لن تستطيع التحرك في وضعها الراهن بسبب الحرب الأوكرانية، وبالإشارة إلى ذلك، قال رئيس الوزراء الأرميني في مقابلة مع صحيفة (لا ريبوبليكا) الإيطالية: “لا ينبغي لأرمينيا أن تعتمد فقط على روسيا في بناء الأمن الاستراتيجي، فقد تذوقت البلاد بالفعل الثمار المرة بفعل هذا الخطأ”. وأضاف أن “يريفان اعتمدت بنسبة 100% تقريبا على موسكو، لكن اليوم روسيا نفسها تحتاج إلى أسلحة، ومن الواضح أنها لن تكون قادرة على توفير احتياجات أرمينيا”.

إلى جانب ذلك، فإن التقارب الروسي- الأذربيجاني أيضاً كان له تأثير مباشر على تدهور العلاقات الروسية- الأرمنية، سيما أن موسكو وباكو وقّعتا اتفاقاً سياسياً عسكرياً قبل أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا.

علاوةً على ذلك، فإن حليفة أرمينيا، إيران، أيضاً تعيش وضعاً متأزماً، ولا سيّما أن هجوم باكو الأخير على كاراباخ جاء بالتزامن مع الذكرى السنوية لثورة “مهسا أميني”، ورغم أن طهران تقف – ضمنياً- إلى جانب أرمينيا في أزمتها مع أذربيجان، إلا أنها تتجنب إزعاج تركيا، حليفة أذربيجان، ولا ترغب في الدخول بمواجهة مع دولة ذات غالبية شيعية إلى جانب دولة ذات غالبية مسيحية بشكل علني، كما أنها تخشى أن يمتد تداعيات هذه المواجهة إلى الداخل الإيراني حيث توجد أقلية أذرية كبيرة في شمال غرب إيران، ومن الممكن أن تشهد حالة من الصعود القومي لديها، في حال اندلاع هذه المواجهة مع أذربيجان، بالإضافة لعلاقة باكو بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

وبالتالي، فإن بقاء أرمينيا بين أنياب أذربيجان ومخالب “الحلفاء” وحيدةً، أجبرتها على تغيير وجهة بوصلتها نحو الغرب. فبعد هزيمتها في حربها مع باكو عام 2020، خفّضت أرمينيا مستوى مشاركتها في منظمة “معاهدة الأمن الجماعي” (تحالف عسكري تقوده موسكو، مكون من 6 دول سوفياتية سابقة، وهي على شاكلة حلف الشمال الأطلسي “الناتو”)، كما أنّها رفضت المشاركة في مناورات عسكرية مشتركة مع أعضائها، مقابل إطلاقها للمناورات العسكرية “إيغل بارتنر 2023” مع القوات الأميركية. أما النقطة الفاصلة، فقد كانت إعلان أرمينيا عزمها على التصديق على نظام روما الأساسي، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، والتي أصدرت أمراً بالقبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

بالإضافة إلى دعوة رئيس لجنة التنمية الأوروبية في حلف الناتو، غونتر فيلينغر، عبر حسابه على منصّة “X” انضمام أرمينيا إلى الحلف، ومغادرة منظمة “معاهدة الأمن الجماعي”.

كل ذلك أدى إلى إثارة الامتعاض الروسي، والتخوف الإيراني، خاصةً بعد الحديث عن فتح “ممر زنغزور” بين باكو وتركيا عبر الأراضي الأرمينية وإقليم ناختشيفان الأذري، الحدودي مع تركيا، والمنفصل جغرافياً عن أذربيجان. مما يعني وصول حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى بحر قزوين عبر تركيا وأذربيجان، وبالتالي تطويق إيران وروسيا وتقليص نفوذهما. لكن يبقى السؤال… هل سيستطيع الغرب إيقاف شلال الدم في الإقليم الجبلي المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان وإنهاء الصراع المستمر بين البلدين، بعد إخفاق المفاوضات الهشة التي ترعاها روسيا، أم أن التطورات الأخيرة هي بداية لصراع جيوسياسي جديد في المنطقة؟

زر الذهاب إلى الأعلى