قضايا راهنة

تزامناً مع حديث تركيا عن “التصالح” مع دمشق.. “فرمانات” في عنتاب وانقسامات داخل “أحرار الشام”

أثار الصمت التركيّ الكثيرَ من التساؤلات والتحليلات، حول أهداف ومخططات تركيا، إزاء دخول “هيئة تحرير الشام” مدينة عفرين المحتلة، التي هي ضمن مناطق سيطرة ما يسمى “الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا. لكن – مؤخراً – بدأت تتكشف بعض تلك الأهداف، من خلال ما تمخض عن نتائج الاجتماعات الأخيرة بين المسؤولين الأتراك وقيادات الفصائل في مدينة غازي عنتاب التركية من جهة، واجتماع المسؤولين الأمنيين الأتراك مع قائد “هيئة تحرير الشام” في إدلب من جهة أخرى. بالإضافة إلى عودة وزير الخارجية التركي للحديث عن إمكانية رفعهم الاتصالات والعلاقات مع دمشق إلى المستوى الدبلوماسي.

كما إن هذه التطورات الأخيرة كشفت عن اصطفافات جديدة للفصائل المعارضة المسلحة، وتيارات “أحرار الشام”، التي توزعت بين مؤيد لـ”هيئة تحرير الشام” ومعارضٍ لها، الأمر الذي يثير التساؤلات حول خلفيات هذه الانقسامات وتداعياتها والموقف التركي منها، ومَنْ المستفيد والخاسر من هذه الانقسامات؟

فيما كشفت تلك الاجتماعات عن تركيز تركيا وتوجهها إلى إعادة تغيير هيكلية “الجيش الوطني السوري”، وإيجاد قيادة واحدة في المناطق التي تحتلها شمال سوريا، وهذا يستدعي التساؤل حول أهداف تركيا في الوقت الراهن من توحيد الفصائل وإعادة هيكليتها؟ وما دور “هيئة تحرير الشام” – هذه المرة – في إحداث هذا التغيير وتوحيد الفصائل؟ وما هو المخطط الاستراتيجي لتركيا التي ترسمه لشمال سوريا؟ وما دلالات تصريحات المسؤولين الأتراك الأخيرة عن إمكانية رفع مستوى الاتصال مع دمشق إلى المستوى الدبلوماسي؟

“فرمانات” تركية في اجتماع غازي عنتاب؟

إن دعوة تركيا – مؤخراً – قادة الفصائل المسلحة إلى غازي عنتاب، بتاريخ الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، بعد الأحداث الأخيرة في عفرين، وسيطرة “هيئة تحرير الشام” – بضوء أخضر تركي – عليها، والتهديد بالسيطرة على عموم مناطق الفصائل، تشير إلى أن أنقرة أرادت تأديب الفصائل بعصا “هيئة تحرير الشام”، بعد تواتر التصريحات من قادة عسكريين عن رفضهم التقارب بين تركيا والنظام السوري، ليأتي استدعاء قادة الفصائل إلى غازي عنتاب وإبلاغهم بـ”الفرمانات” التي أصدرها الرئيس التركي بحقهم، دون ترك المجال أمامهم لإبداء أي نقاشات أو اعتراض عليها. وهذا ما أكدته التقارير الصادرة عن وسائل إعلام المعارضة السورية التي قالت: “إن هذا الاجتماع جاء صادماً بالنسبة إلى الفصائل، سواءً بسبب طريقة عقده، أو مدّته الزمنية القصيرة، أو ما نتج عنه من أوامر ألقاها المسؤول الأمني التركي (أبو سعيد) المكلّف بالتنسيق مع الجماعات السورية”.

بالإضافة إلى ذلك، قالت مصادر مطّلعة لإعلام المعارضة: “إن المسؤول التركي دخل قاعة الاجتماع برفقة مجموعة من الضبّاط، على عجالة، ليتصدّر الجلسة من دون أيّ مظاهر ترحيب عهِدتْها الجماعات سابقاً، قبل أن يلقي على قادة الفصائل “الفرمانات” بلهجة حازمة، وقبل قراءة الفرمانات وجّه المسؤول التركي التهديدات لكل فصيل أو قيادي يحاول التواصل مع جهات خارجية بشكل منفرد، دون أخذ موافقة السلطات التركية”. وهذا ما اعتبره بعض المراقبين أنها كانت إشارة إلى محاولة “الجبهة الشامية” قيادة مشروع “إسلامي” مُوازِ لمشروع “هيئة تحرير الشام” بدعم أميركي، من دون التنسيق من أنقرة. ما يعني أن هناك فصائل بدأت بالفعل بالتفكير خارج الصندوق التركي، بعد أن قررت الأخيرة التصالح مع دمشق، وتسليطها “هيئة تحرير الشام” على كل فصيل معارض.

كما وحدّد المسؤول الأمني التركي، الذي رفض الاستماع إلى أيّ كلمة من قادة الفصائل، مجموعة من “الفرمانات” التي سيكون على الأخيرة تنفيذها إنْ أرادت البقاء، بحسب مصادر إعلام المعارضة، وأبرزها:

1- العودة إلى مشروع توحيدها الذي رسمتْه تركيا قبل أكثر من خمسة أعوام، وإنهاء الحالة الفصائلية القائمة، وإتباع الهيكلية الجديدة لإدارة عسكرية موحّدة تابعة لتركيا بشكل مباشر، وتتلقّى الأوامر منها. مما يعني أنه على كافة الفصائل التسليم بواقع؛ أنها لم تعد فصائل سورية، ولا علاقة لها بـ”الثورة”، ولا تمتلك أي قرار في محاربة النظام أو غيره، بدون أوامر من تركيا، والاقتناع بأنها باتت جزءاً من “الجيش الانكشاري” التابع للسلطان التركي، ومهمتها – فقط – تقديم الطاعة والولاء، وتنفيذ ما يصلها من فرمانات. أما الملف السوري فلم يعد من شأنها، وهذه ستحددها السياسات التركية، بحسب ما ترى فيها مصلحة الأمن القومي التركي.

وفي السياق نفسه، كشفت المصادر “أن المسؤول الأمني التركي مَنح الفصائل مهلة لا تتجاوز الشهرين (قبل نهاية العام الحالي) لإتمام الاندماج والخروج بمشروع توافقي داخلي، يمكن لأنقرة أن تَبني عليه نظام إدارة مدنية وعسكرية مؤسّساتية لمناطق ريف حلب. وإن المسؤول هدّد أيّ فصيل يحاول خلْق استفزازات جديدة، أو جرّ المنطقة إلى حالة اقتتال”. وبالتالي، فإن أمام الفصائل خياران لا ثالث لهما؛ إما التخلي عن تشكيلاتهم الفصائلية، والاندماج في تشكيلة جديدة، تتحكم بها الاستخبارات التركية بشكل مباشر، أو عن طريق قيادات تركمانية، تدين بالولاء الكامل لتركيا، أو حل نفسها وترك العمل العسكري، وذلك في غضون شهرين فقط.

2- توحيد الإدارة الاقتصادية بشكل يخفّف من الأعباء المالية الدورية التي تقع على عاتق أنقرة، وذلك لمنع وجود مصادر تمويل ذاتية للفصائل (مثل إدارة المعابر وغيرها)، لذا تهدف تركيا من توحيد الواردات الاقتصادية العامة بين جميع الفصائل في صندوق واحد بإشراف تركي، وإلغاء جميع حواجز الفصائل العسكرية وتسليمها للشرطة العسكرية لإدارتها.

3- التنبيه إلى عواقب استعمال “المجلس الإسلامي السوري” (الهيئة الإسلامية التي تحاول تقديم نفسها على أنها دار إفتاء للمعارضة)، كغطاء لأيّ تحركّ من قِبل الفصائل، وتحييد دوره عن كل ما يتعلق بالفصائل من الناحية العسكرية، وتجميد دور “المجلس” إلى مرحلة التوصّل إلى اتّفاق نهائي يوحّد الفصائل، بحيث يمكن –عندئذ- أن تشكّل تركيا مرجعية دينية للجسم العسكري والإداري الجديد، وهو دور يعيد إلى الأذهان، ذلك الذي يلعبه “مجلس الشورى” الخاص بـ”تحرير الشام”. وهذا الفرمان يعني أن تركيا ترغب في تجريد الفصائل من مرجعياتها الدينية، التي قد تتعارض فتاواها مع السياسات التركية، وخاصة فيما يتعلق بالتصالح مع النظام السوري، أو إشراك “هيئة تحرير الشام” في الإدارة العسكرية والمدنية لمناطق سيطرة الفصائل.

دور “هيئة تحرير الشام” في الاندماج الجديد

رغم أن الجانب التركي لم يتطرق خلال اجتماع عنتاب إلى دور “هيئة تحرير الشام” في الهيكلية الجديدة، إلا أن مصادر مقربة من “الهيئة”، أكدت لموقع “أثر بريس” بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إنه “سيجري العمل قريباً على تشكيل مجلس عسكري موحد لكافة الفصائل العسكرية، على رأسها هيئة تحرير الشام، وغرفة عمليات موحدة في الشمال السوري، مع إدارة مدنية واحدة، تدير كافة المناطق (إدلب وريف حلب)، لإدارة المؤسسات المدنية، والمعابر، والقضاء، والشرطة المدنية، وضبط الأمن” (في إشارة إلى دمج حكومتي الإنقاذ السورية لـ”الهيئة”، والحكومة السورية المؤقتة لـ”الجيش الوطني”). وهذا يحتاج – في البداية – إلى تجاوز العقبة الأصعب؛ وهي توحيد الفصائل المختلفة والمتناحرة ضمن إدارة موحدة ليسهل فيما بعد إذابتهم في بوتقة واحدة مع باقي التنظيمات والجماعات كـ”هيئة تحرير الشام”، وبقايا داعش، و”حراس الدين”، وغيرهم.

ويبدو أن هذا المخطط يجري على أرض الواقع، من خلال توزيع تركيا عناصر تابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، و”حراس الدين”، وغيرهم من التنظيمات الإرهابية في مناطق سيطرة الفصائل في كل من عفرين، وجرابلس، وسري كانيه (رأس العين)، وكريسبيه (تل أبيض)، بحسب ما أكده المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية، بتاريخ 6 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.

وتدخل هذه الخطوات، من قِبل تركيا على الأرض، ضمن مساعيها لإرضاء روسيا ووقف التصعيد في المنطقة، لأنها لا تزال تواجه صعوبات، كأنشطة العناصر المتطرفة الخارجة عن السيطرة، لذا تحاول تركيا نقل هذه العناصر من إدلب إلى جبهات المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية. كما أن دمج تلك العناصر الإرهابية مع فصائل المعارضة السورية، يوفر غطاء لهذه الجماعات، بحيث يصعب على قوات النظام السوري وروسيا استهدافها.

وما يرجح هذا المخطط، أنه وبالتوازي مع الاجتماع الذي عقده المسؤول الأمني التركي مع الفصائل في غازي عنتاب، اجتمع مسؤولون أمنيون أتراك مع مسؤولي “تحرير الشام”، وعلى رأسهم “الجولاني”، في منطقة “أطمة” في ريف إدلب، قرب الحدود مع تركيا، من دون أن تتسرّب أيّ معلومات حول ما تمّت مناقشته. غير أن مصادر “جهادية” مطّلعة أشارت إلى “أن سلوك الجولاني لم يتغيّر بعد الاجتماع، سواءً من ناحية حديثه عن ضرورة التمدّد في ريف حلب، أو حتى من ناحية الحالة الأمنية التي بات يفرضها على عفرين، عبر أذرعه الأمنية المنتشرة”. ما قد يعني أنه حصل على دعم تركي للبقاء في مناطق سيطرة الفصائل بشكل غير معلن. وبحسب تصريحات لمنشقين عن “هيئة تحرير الشام”، فإنه قد تم الاتفاق على أن “تدخل قوات تحرير الشام المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني السوري في ريف حلب تحت اسم قوات حماية القواعد التركية. لكنهم لا يريدون التحدث عنها، ويفضلون إبقاء الأمور سرية، لحساسية الموضوع، ولأن هيئة تحرير الشام تُصنّف “جماعة إرهابية”.

ويبدو أن أنقرة ما تزال تعوّل على “تحرير الشام” للعب دور “الفزّاعة” أمام باقي فصائلها المنتشرة شمالي حلب، واستخدامها كورقة ضغط على تلك الفصائل للاستمرار في الانضباط، والانصياع الكامل لتوجيهاتها، وخاصة بعد أن شهدت الأشهر الماضية، بعض محاولات “التمرد” على التعليمات التركية من بعض الفصائل الكبيرة التابعة لـ “الجيش الوطني”، وفي مقدمتها “الجبهة الشامية”.

وعلى خلاف ما يتمّ الحديث عنه، حول انسحاب “هيئة تحرير الشام” من منطقة عفرين، وعودتها إلى إدلب، تمكّن زعيمها “أبو محمد الجولاني” من فرْض نفوذه في المنطقة التي دخلها خلال بضع ساعات قبل نحو شهر، سواءً عبر نشْر قوّاته الأمنية في المدينة ومحيطها، أو عن طريق سيطرته على المعابر بالشراكة مع “حركة أحرار الشام”، التي باتت جزءاً من “تحرير الشام”. وبهذا، أضحت الأخيرة على احتكاك مباشر مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، وفُتح أمامها طريق مباشر للحصول على النفط الذي يجري تهريبه من شمال شرقي سوريا إلى أقصى الشمال الغربي في إدلب، بدلاً من شرائها من الفصائل. ويبدو أن “تحرير الشام” تتهيأ لهذه المتغيرات عبر إجراءات جديدة حلّت بموجبها “شركة وتد” (إحدى أذرع الجولاني الاقتصادية)، واستبدالها بظهور مجموعة شركات بدأت بنقل النفط من مناطق سورية مختلفة إلى إدلب، في أعقاب إزاحة “الفيلق الثالث” (بقيادة الجبهة الشامية التي حاولت تشكيل جبهة مضادّة للجولاني) من المعابر مع مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بشكل خاص، الأمر الذي يعني حرمان “الجبهة” من أحد أبرز مصادر دخلها.

وتشير المعطيات بأن ما يجري حالياً؛ عبارة عن عملية إعادة هندسة اقتصادية وعسكرية، تتمّ بشكل هادئ للمنطقة التي تسيطر عليها “تحرير الشام”.

أسباب وأهداف الانقسام الأخير في صفوف “حركة أحرار الشام”

أعلنت خمسة ألوية وكتائب في “حركة أحرار الشام” (المقربة لتنظيم الإخوان في سوريا) في 8 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، عزل قائد الحركة “عامر الشيخ” المقرب من “هيئة تحرير الشام”، واستبداله بـ “يوسف الحموي” الملقب بـ “أبو سليمان” وتسميته قائداً عاماً للحركة.

واعتبر القائد المكلف بقيادة “أحرار الشام”، يوسف الحموي الملقب “أبو سليمان” عبر تغريدة نشرها على تويتر في 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، “أن ما حدث في التشكيل هو “عملية جراحية” أنقذت الحركة من الموت في لحظاتها الأخيرة، وأخرجتها من الحالة السريرية، التي أقحمها فيها قصر النظر، وسوء التدبير ممن كان قائماً عليها”.

فيما أبدى أبو محمد الجولاني دعمه الكامل للتيار المعزول، وذلك خلال اجتماع بينه وبين قائد “حركة أحرار الشّام” عامر الشيخ، بعد يوم من عزل الأخير. وعُقِدَ الاجتماع في مبنى الأركان بمعبرّ باب الهوى شمال إدلب، لمناقشة بيان عزل “الشيخ”. ويعيد دعم الجولاني – للتيار المعزول – الانقلاب الذي قاده نفس التيار سابقاً بدعم من الجولاني ضد قائد الحركة السابق “جابر علي باشا” إلى الأذهان، وتفكيك “مجلس الشورى” عام 2020، وحينها كانت “الحركة” تستعد لإجراء اندماج شبه كامل مع “الجبهة الشامية” (الفيلق الثالث حالياً)، الأمر الذي استفز “هيئة تحرير الشام”، خشية أن يتشكل في المنطقة كيان فصائلي منافس لمشروع “الجولاني”، لأن الفصيلان المقبلان على الاندماج هما أكثر خبرة وقِدماً وانتشاراً وقوة في “الجيش الوطني” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، وهو ما دفع لتسريع عملية الانقلاب بتوجيه تام من جانب “حسن صوفان” المقرب من “الجولاني”.

ونفس السيناريو يكرره الجولاني اليوم، بعد أن جمعت تركيا قادة الفصائل في مدينة غازي عنتاب التركية، وفرض “فرماناتها” عليهم، مما أثار مخاوف الجولاني من خروج “أحرار الشام” من تحت جناحه، واندماج كافة الفصائل ضمن كيان واحد، يكون منافساً للـ”هيئة” ومهدداً لوجودها، لذا سارع الجولاني إلى تعميق الانقسام في صفوف “الحركة”، وعرقلة أي محاولات لاندماجها مع الفصائل في كيان موحد، فمن جهة ضمّت قسماً من “الحركة” إلى “الهيئة”، ومن جهة أخرى تحاول أن تثبت لتركيا بأن مراهنتها على الفصائل و”حركة أحرار الشام” لتشكيل كيان موحد غير قابل للتطبيق بدون هيمنة “هيئة تحرير الشام”.

هذه الأحداث تشير إلى أن حالة الانقسام ستدفع بالحركة – التي استطاعت الحفاظ على هيكليتها- نحو الاقتتال بين تياراتها، على غرار ما يحصل بين باقي فصائل “الجيش الوطني”، لأن الخلاف الحالي لدى “أحرار الشام” تَحوّل في جوهره إلى نزاع على الشرعية والنفوذ، وسيغذي هذا الصراع تحريض كل من تركيا من جهة و”هيئة تحرير الشام” من جهة أخرى، إلى رضوخ “الحركة” – كما باقي الفصائل – بشكل كامل للأوامر التركية، وبهذه الصورة ستتمكن الأخيرة من فرض سطوة “هيئة تحرير الشام” عليهم.

من جهة أخرى، رغم أن تركيا تبدي دعمها للقيادات الجديدة لـ”الحركة” الرافضة للتعاون مع “هيئة تحرير الشام”، إلا أنها في الواقع راضية عن هذا الانقسام في صفوف “الحركة”، باعتبار أن هذه “الحركة” تُعتبر أكبر تيار إسلامي ضمن الفصائل السورية لا يزال يحافظ على تماسكه خارج إطار “هيئة تحرير الشام”، لذا لا ترغب تركيا في أن يكون هناك حركة تتمتع بالقوة، بحيث يمكن أن تشكل مركز جذب لكافة الفصائل التي ترفض تحركات “هيئة تحرير الشام” الأخيرة وسياسات تركيا الساعية للتصالح مع النظام السوري، وتتمتع بقدر من البراغماتية التي يمكنها التواصل مع بعض القوى الغربية، أو أميركا، وحتى العربية، للحصول على الدعم منها، دون الرجوع لتركيا، لذا تريد تركيا تفكيك كافة التجمعات القوية وإضعافهم، ومن ثم جمعهم بشكل منفرد ضمن كيان واحد، لا يخرج عن الأوامر التركية. بالإضافة إلى رغبة تركيا في أن تكون “هيئة تحرير الشام” المنافس القوي للفصائل و”حركة أحرار الشام”، لتلوّح لهم بعصا “الهيئة” كلما حاولوا الخروج من تحت العباءة التركية.

تصريحات تركية جديدة عن التواصل مع دمشق.. فما معطيات التقارب؟

إن التصريحات التركية حول المصالحة مع النظام السوري غابت خلال الآونة الأخيرة، لتعود مؤخراً على لسان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو في 7 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، الذي قال: “إن أنقرة ستقوم على رفع مستوى اتصالاتها مع حكومة دمشق إلى المستوى الدبلوماسي، في حال توفرت الأرضية المناسبة لذلك”. وبالنظر إلى آخر التطورات الميدانية، يمكن ملاحظة عدة مؤشرات حول التقدم في العلاقات، يمكن أن تمهد لرفعها إلى المستوى الدبلوماسي مستقبلاً، ومن بين تلك المعطيات:

أولاً- دعوات تركيا لإعادة توحيد الفصائل: يبدو أن عودة تركيا للحديث عن إمكانية رفع مستوى الاتصال مع دمشق إلى مستويات دبلوماسية في الوقت الحالي، جاء بعد اتخاذ تركيا إجراءات جديدة في مناطق سيطرتها شمال سوريا، وأبرزها تأديب تركيا لبعض فصائل “الجيش الوطني” التي كانت رافضةً للمصالحة والتطبيع مع دمشق. الأمر الذي دفع تركيا إلى إجبار تلك الفصائل على الرضوخ للمطالب التركية (عبر عصا “هيئة تحرير الشام”)، وهذا يشير إلى أن تلك الأحداث كانت بمثابة سيناريو من قِبل تركيا، لترتيب وتهيئة الظروف للعودة إلى الحديث عن المصالحة، عبر إجبار الفصائل على قبول التوجه التركي للتصالح مع دمشق، وما يؤكد ذلك هو ما تمخض عن الاجتماع الأخير في غازي عنتاب، والأسلوب الغاضب الذي تعامل به المسؤولون الأتراك مع قادة الفصائل.

ثانياً- تصريحات تركيا عن عودة نصف مليون لاجئ سوري طوعاً: لا يخفى أن من أهم أهداف تركيا في التصالح مع دمشق؛ هو حل ملف اللاجئين السوريين في تركيا. ويبدو أن هناك تطورات على المستوى الاستخباراتي بين البلدين، لإعادة اللاجئين السوريين، حيث قال نائب وزير الداخلية التركي “إسماعيل تشاتاكلي”، في تصريحات، الاثنين 7 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، “إن عدد السوريين العائدين إلى المناطق الآمنة التي أقامتها تركيا في شمال سوريا؛ بلغ 531 ألفاً و326”. ما يعني التوافق الاستخباراتي بين البلدين على إعادة اللاجئين.

وما يؤكد هذا التوافق، هو إلغاء النظام السوري شرط مراجعة الحاصلين على الجنسية التركية للأفرع الأمنية، ليتَجلّى جانبٌ من نتائج التقارب بين تركيا ودمشق في إطار “بناء الثقة”، سواءً من خلال إلزام تركيا الفصائل المسلّحة الموالية لها بفتْح أبواب المعابر بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة النظام السوري، أمام الراغبين في العودة إلى مدنهم وبلداتهم، ويتكامل ذلك الإجراء مع تشريع الباب أمام أهالي معرة النعمان في ريف إدلب للعودة إلى منازلهم، فضلاً عن تمهيد النظام الأرض لتسوية أوضاع الأهالي في إدلب وريف حماة وريف دمشق، بالإضافة إلى تَواصل تلك “التسويات” في كلّ من ريف حلب ودير الزور والرقة.

ثالثاً- استعداد رئيس “الحزب الوطني التركي” لزيارة الأسد: في علامة تفسر بشكل أوضح توجهات تركيا نحو التطبيع مع دمشق، تصريحات “دوغو برينتشاك” رئيس “الحزب الوطني التركي” الحليف لـ”حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، الذي أكد فيها “إنه يعتزم زيارة الرئيس السوري بشار الأسد قبل نهاية العام الحالي”.

وقال خلال اجتماع لحزبه، وبحسب ما نقلت عنه وسائل إعلام تركية قال: “سنذهب إلى سوريا مع صديقنا رجل الأعمال التركي “أدهم سانجاق” في الشهرين المقبلين، بدعوة من السيد بشار الأسد”. وأضاف: “دع الشاحنات تأتي. دع قوافل التجارة تأتي وتذهب. دع البضائع المنتجة هنا تصدر. سنحيي التجارة مع جيراننا. سنجري محادثات معهم”.

ويرجح أن يكون “برينتشاك” -إلى جانب الروس- حلقة الوصل بين دمشق وأنقرة في المرحلة القادمة، لتهيئة الظروف لمصالحة محتملة، وفتح العلاقات التجارية بين البلدين، وفتح كافة الطرق الرئيسية شمال غربي سوريا.

رابعاً- ازدياد استهداف المسيّرات التركية لمناطق الإدارة الذاتية: في تطور آخر يشير إلى دخول اتفاقية “أضنة” التي جرى تعديلها من قبل روسيا بين أنقرة ودمشق حيز التنفيذ، السماح للمسيّرات التركية للتوغل داخل الأراضي السورية لمسافة تزيد عن 30 كيلو متر، فيما كان اتفاقية أضنة السابقة تسمح لتركيا التوغل مسافة 5 كيلو متر فقط. وعليه، ارتفع عدد الاستهدافات الجوية التي نفذتها طائرات مُسيَّرة تابعة لتركيا على مناطق الإدارة الذاتية، مستهدفة هذه المرة القيادات الكردية، وحتى المدنيين والمسؤولين في الإدارة الذاتية. وهذا يشير إلى أن التعاون الاستخبارات بين البلدين وصل إلى مستويات متقدمة.

خامساً- دعوة “أحمد العودة” إلى إسطنبول: كشفت تقارير صحافية عن احتمالات من أن تكون تركيا تفكر في تطبيق نموذج “التسوية” في جنوب سوريا على مناطق الشمال السوري، “لتحقيق الاستقرار، وجعلها مهيأة لاستيعاب اللاجئين السوريين، الذين ترغب في إعادتهم”. وتطرقت تلك التقارير إلى ما وصفته بـ”استدعاء المخابرات التركية لقائد اللواء الثامن أحمد العودة، الذي يتبع فرع الأمن العسكري في درعا، والذي استبعد من مرتبات الجيش السوري، وسبق ومارس نشاطه لسنوات تحت راية الفيلق الخامس”.

ولفتت تلك التقارير إلى قيام “العودة” بزيارة مفاجئة إلى تركيا، وبأن سبب دعوته ربما يكون للاستماع إلى تقييماته حول التسوية في جنوب سوريا، التي أعادت المنطقة إلى سيطرة النظام السوري عام 2018.

وتصاعدت التكهنات حول زيارة “العودة” لإسطنبول، كونها جاءت بعد فترة قليلة من تغييرات في المناصب بالخارجية التركية، شملت المسؤولين عن الملف السوري، وتعيين “أردم أوزان”، الضابط المسؤول عن الملف الأمني في الشمال السوري، سفيراً لتركيا في الأردن.

التوقعات والتنبيه لمخاطر

في حال كانت تركيا جادة في رفع الاتصالات مع دمشق إلى المستوى الدبلوماسي والتطبيع الكامل، فهذا يرجح أن تدفع الفصائل بعد توحيدها ضمن قيادة مركزية تديرها الاستخبارات التركية إلى إجراء المصالحات والتسويات مع النظام السوري، أو تتركهم لوحدهم في مواجهة روسيا والنظام السوري، وذلك مقابل أن تتعهد روسيا والنظام بمساعدة تركيا في القضاء على الإدارة الذاتية، وعدم إجراء أي محادثات معها يفضي إلى لاعتراف بها أو منحها الشرعية.

أما في حال لم تنجح خطط التطبيع مع دمشق، فستعمل تركيا على توحيد كافة الفصائل تحت قيادة “هيئة تحرير الشام”، والتي ستعمل لاحقاً على فتح ثغرات للهجوم على مدينة حلب، وأن موقع عفرين الاستراتيجي يشكل مساحة المناورة العسكرية المطلوبة لـ”الهيئة”.

ورغم كافة المعطيات التي تشير إلى وجود تقاربات على المستوى الاستخباراتي بين تركيا ودمشق، إلا أنه من المستبعد أن يكون هناك تطبيع كامل بين دمشق وأنقرة، قبل إقرار جدول زمني وآلية محددة لسحب تركيا قواتها من الأراضي السورية، وايقاف دعمها للمعارضة المسلحة والجماعات الجهادية على أقل تقدير. فالانسحاب سيكون ضمانة لالتزام تركيا بالاتفاقيات الجديدة مع دمشق إن حصلت، ولكن المؤشرات تشير إلى أن تركيا لا تبدي أي نية للانسحاب، وهي ترغب في إبقاء توزيع السيطرة على الوضع الحالي، لذا لا يمكن لدمشق الوثوق بسياسات أردوغان؛ لإدراك دمشق أنه بدون تحقيق تركيا لهذين الشرطين، لا يمكن قطع يدها عن سوريا، والنظر إلى تركيا كدولة جارة.

من الواضح أن تركيا حوّلت كافة الفصائل السورية – وحتى “هيئة تحرير الشام” – إلى “مرتزقة”، لم يعد مهمتهم محاربة النظام السوري أو أي طرف آخر، لا ترى تركيا فيها مصلحة لها، ما يعني أن مهمتهم ووجودهم بات مرهوناً بمدى تنفيذهم للأوامر التركية، والدفاع عن المصالح التركية داخل وخارج سوريا. لذا، تريد تركيا أن توصل لهم هذه الرسالة عبر دفع بعض الفصائل لضرب الأخرى وتفكيك بعضها، وتشكيل هياكل أخرى، وطرد قيادات وتكليف أخرى بدلاً منهم.

من المتوقع أن يكون هدف تركيا من اعتماد القيادة الجديدة لـ”حركة أحرار الشام” المعيّنة من قبل الكتل الخمس، وقطع التواصل مع من بقي مع “الشيخ” ونائبه أحمد الدلاتي الموالين لـ”هيئة تحرير الشام”، هو رغبتها في إعادة تعويم الفصائل والجماعات الإسلامية التابعة للإخوان المسلمين، بعد دمجهم ضمن قيادة وهيكلية جديدة وموحدة لإعادة الاعتراف الدولي بهم، وتقديمهم كمعارضة معتدلة، وكبديل عن قوات سوريا الديمقراطية، التي باتت أميركا تعتمد عليها.

وما يزيد من تعمق أزمة وانقسامات “أحرار الشام” في الوقت الحالي، هو غياب قيادة الحركة الكاريزمية بعد حادثة الاغتيال في 9 سبتمبر 2014 (اغتيل حسان عبود “أبو عبد الله الحموي” أمير “حركة أحرار الشام الإسلامية” ومعه عدد من قيادات الصف الأول)، والهوية الملتبسة لـ”الحركة”، التي كانت أحد الأسباب التي ساهمت بشكل أساسي في انهيار “الحركة” وتفككها، لأن هوية “أحرار الشام” تُعتبر ضائعة منذ نشوئها، فقد كانت تسعى لتكون حالة وسطية ومستقلة عن الحركات الإسلامية المعروفة كـ”الإخوان”، و”السلفية” و”التبليغ” و”حزب التحرير”، ولكنها أضاعت هويتها، وانقسم قادتها وألويتها إلى تيارات، كل منها تميل إلى جماعة مغايرة عن الأخرى.

وفي المحصلة، يبدو أن “الحركة” بصورتها التي عُرفت بها أصبحت من ماضي “الثورة السورية”، والصورة الجديدة لها ستحددها اتفاقيات وتفاهمات الأتراك والروس على الأرض. وعلى الأغلب، سيحاول الطرفان جعل طبيعة علاقات “أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام” كالعلاقة بين “الجهاد الإسلامي” و”حماس” في فلسطين، بحيث يكونان في صراع دائم، يدفعهما للارتماء بحضن من يحميهما ويقدم لهما الدعم، ويتخليان عن القضية الأساسية وهي محاربة النظام السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى