قضايا راهنة

بعد قمة طهران .. تموضعات جديدة في الشرق الأوسط

في ظروف استثنائية، وضمن سياق المصالح الجيوسياسية، عُقدت قمّة طهران بين فرقاء إقليمين، جمعتهم ضرورات التعاون في المرحلة الحالية، في مواجهة الأحداث التي تمر بها المنطقة والعالم، والتي لها تأثيرات – مباشرة أو غير مباشرة – على سوية هذا التعاون بين الدول الثلاث، وعلى مصالحها السياسية والأمنية، والذي كان مرشحاً لأن يصبح تعاوناً على الصعيد الاستراتيجي؛ حال دونه اختلاف الرؤى والمواقف الجيوسياسية، حول العديد من القضايا التي تمت مناقشتها في القمة، خاصة عندما تعلق الأمر بالقضايا والملفات الآنية والمتقاطعة، التي كانت سوريا وقوات سوريا الديمقراطية عنوانها الأبرز.

لن يختلف اثنان أن القمة جمعت ثلاث دول – روسيا وتركيا وإيران – لا تمتلك الرؤية الموحدة، حول أهم القضايا التي عقدت القمة على أساسها، ولكن على ما يبدو أن تلك الملفات الاستراتيجية تشكّل أهمية قصوى في المرحلة الحالية بالنسبة لهذه الدول.

ملفات ساخنة ومحورية حملها كل طرف إلى القمة

روسيا التي تغوص اليوم في حربها ضد أوكرانيا، ومن خلفها دول الناتو، تبحث عن شركاء إقليمين من الشرق، لتأمين أسواق بديلة لمنتجاتها، وخاصة عناصر الطاقة، وتحاول الحفاظ على شبه الحياد التركي تجاه هذه الحرب، أو في أقل تقدير ضمان عدم اصطفافها مع الحلف الغربي ضد روسيا، خاصة وأن الطرفين يجمعهما عدة ملفات سياسية في منطقة البحر الأسود، وأخرى اقتصادية استراتيجية، كمشروع محطة “أكويو” النووية، وخطوط أنابيب إمداد الغاز إلى أوروبا “ترك ستريم”.

أما إيران، فجُلَّ اهتمامها – واهتمام العالم بها – يأتي من زاوية ملفها النووي واستمراريته، إضافة إلى مشروع الهلال الشيعي، الذي تريد من خلاله فرض هيمنتها على دول المنطقة، بالتنافس المباشر مع إسرائيل. هذا من جهة، ومن الجهة الأهم محاولة الولايات المتحدة وحلفاءها باستمرار حماية أمن إسرائيل. من ناحية أخرى، تأتي معاداة النظام في طهران لإسرائيل، التي تعادي علناً ملف البرنامج النووي الإيراني، كل ذلك يدفع بإيران نحو استمرارية تقوية صلاتها وعلاقاتها الاستراتيجية القائمة أصلاً سياسياً واقتصادياً مع موسكو، التي تملك العديد من أوراق الضغط على الدول الأوروبية، وخاصة من الجانب الاقتصادي، ويقف في مواجهة سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، أو يتنافس معها على أقل تقدير. ويبدو أن ما يجمع الطرفين حول الملف السوري أكثر مما يفرقهما؛ إذا ما استبعدنا الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مواقع الإيرانيين، أو شركائهم على الأرض في سوريا.

تركيا، التي يشغلها بالدرجة الأولى – ويقض مضجعها – تواجد قوات سوريا الديمقراطية على حدودها الجنوبية، والتي تعتبر وجودها تهديداً للأمن القومي التركي، فإنها لا تدّخر جهداً في محاربة ومعاداة تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، التي يقودها الكرد السوريون. فأنقرة أرادت من هذه القمة جسراً لاجتياح مناطق كردية جديدة داخل الجغرافيا السورية، بهدف إجهاض تجربتهم الإدارية، وإحداث تغيير ديمغرافي فيها، مثل ما تقوم به في عفرين، وسري كانيه (رأس العين)، بعد احتلالهما. محاولةً الاستفادة من أوراق الضغط التي تملكها على الطرفين الآخرين، كالموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، وإبرام عقود اقتصادية واسعة النطاق مع إيران، قد تعوض جزءاً – ولو يسيراً – من خسائرها، جرّاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

 سوريا الغائب الحاضر في القمة

أظهرت الساعات القليلة قبيل انعقاد قمة طهران، أن الملف السوري سيكون حاضراً بقوة على طاولة المحادثات بين الأطراف الثلاث، وبدا ذلك جلياً بتواجد وزير الخارجية السورية في طهران، بالتزامن مع انعقاد القمة هناك، مما أثار الشكوك عن إمكانية حضوره بعض الاجتماعات المغلقة، ولو أن ذلك لم يظهر في الإعلام مباشرةً.

ومع التباين في أهداف كل طرف من الأطراف الثلاث من الأزمة السورية، أو المكاسب الاستراتيجية والجيوسياسية التي حققتها منها، إلا أنها كانت متفقة تماماً حول الوضع في شمال وشرق سوريا، كون روسيا تريد إعادة جميع الأراضي إلى سيطرة الحكومة المركزية، وكذلك إيران؛ وذلك لن يكون إلا بإنهاء سيطرة “قسد” على تلك المناطق، الأمر الذي يتفق مع هدف تركيا الرئيسي في القضاء على قوات سوريا الديمقراطية، وهذا كفيل بتغيير الكثير من المعادلات على الأرض.

إلا أنه – وبالنتيجة – لم يحصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مبتغاه، للقيام بعمل عسكري جديد، يفرض من خلاله واقعاً جديداً على الأرض، ويمتلك أوراق جديدة، قد يستخدمها حول ملفات أخرى، وفي مناطق أخرى، تلكم السياسة التي أرادها أردوغان منذ بداية الأزمة السورية، لكنها لم تأت أُكلها هذه المرة، التي يبدو فيها أن الرئيس الروسي “بوتين” يقرأ المشهد الحالي من زاوية مصالح روسيا الاستراتيجية، وإمكانية الضغط على تركيا، بإظهار معارضته للعملية العسكرية، التي تنوي الأخيرة القيام بها، ليضمن بقاءها بعيدة عن محور حلفائها في الناتو. لذلك يبدو أن روسيا حتى اللحظة لم تسمح لتركيا بالقيام بذلك كما فعلت سابقاً في عفرين، وفعلها نظراءها الأمريكان في سري كانيه (رأس العين)، وكري سبيه (تل أبيض).

القضية الكردية وملف الإدارة الذاتية بين جنبات القمة  

إن ما ظهر جلياً من سير القمة، والمحادثات التي جرت بين الزعماء الثلاث، أن القاسم المشترك الأهم بين وجهات النظر المتباينة، هو رؤيتهم حول الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وضرورة إنهائها، كونها إحدى تجليات القضية الكردية، مما يثير مخاوف الدول الثلاث تركيا وإيران وسوريا، ويجعلهم يتناسون الكثير من خلافاتهم الأخرى، وبالتالي فإن هذه القضية تؤجج المخاوف المشتركة لكل من أنقرة وطهران ودمشق، ضمن السياق التاريخي والسياسي، والذي يقض مضاجع جلّ السياسيين وأصحاب السلطة في العواصم الثلاث.

من هذه الزاوية، كان يمكن ملاحظة محاولات رأب الصدع بين كل من أنقرة ودمشق، وتصريحات المسؤولين السياسيين الأتراك، التي كانت تحوم – بالدرجة الأولى – حول هذه القضية، خاصة عندما أقروا بإمكانية التعاون السياسي مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، بعد كل سنين القطيعة تلك، وما جرى خلالها من أحداث، كانت العداوة فيها سيدة الموقف بين الطرفين.

لذلك، من الواضح أن أهم نقاط الاتفاق كانت حول الآليات والأدوات، التي يمكن استخدامها للقضاء على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، كمرحلة أولى؛ تمهيداً لضرب بنية القضية الكردية، التي حظيت باهتمام الدول الكبرى، وباتت حاضرة في المحافل الأممية والدولية، ويتم استقبال سياسييها في كبريات عواصم العالم، وأهم دوائر صنع القرار فيها، خاصة بعد إظهار الكرد الكفاءة القتالية العالية ضد أعتى تنظيم إرهابي عالمي في سوريا والعراق، الأمر الذي لم يرق لهذه الدول، وباتوا يستشعرون خطراً حقيقياً، دفعهم للتوجه نحو الجلوس على طاولة واحدة، بالرغم من كل التناقضات القائمة بينهم حول العديد من الملفات الهامة في المنطقة، وخاصة الأزمة السورية.

ظروف إقليمية استثنائية وملفات متشابكة

انعقدت القمة في ظروف استثنائية تعيشها المنطقة، والتي تشير معظم المعطيات السياسية والأحداث العسكرية إلى توجهها نحو تشكّل خريطة سياسية جديدة، قد تطيح بالكثير من الخطوط الحدودية المرسومة على الخريطة نحو شرق أوسط جديد، فجاءت هذه القمة كمحاولة لبلورة مواقف الأطراف المجتمعة تجاه الملفات والقضايا التي تواجه كل طرف منها على حدةٍ، والأحداث المتسارعة التي تشهدها منطقتي الشرق الأوسط، وشرق أوروبا، التي تخوض فيها روسيا حرباً ضروس -على عدة أصعدة – مع أوكرانيا، ومن خلفها دول الناتو، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى التوجه الأطلسي نحو اليونان، ومحاولة جعلها مركز ثقل جيوسياسي وعسكري في المنطقة، كبديل عن تركيا، وقد نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول “في مواجهتها مستقبلاً”، بعد انحياز أنقرة إلى جبهة موسكو وإيران، والمعادية للولايات المتحدة، والدول الغربية.

في حين أن تركيا ما تزال متمسكة بمكاسبها في سوريا، بل تريد خلق مناطق نفوذ جديدة فيها، وهذا ما لا يتوافق مع سياسات واشنطن الحالية في سوريا من جهة، ولا مع الأطراف المجتمعة معها (روسيا، وإيران) من جهة ثانية. كما بات أردوغان يستشعر الخطر المحدق به، وهو على أعتاب الانتخابات القادمة في البلاد، نتيجة السياسات الرعناء التي انتهجها سابقاً، حيال العديد من الملفات الإقليمية والدولية في المنطقة.

إذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء؛ سنلاحظ – وبشكل جليّ – أن حكومة العدالة والتنمية، وعلى رأسها أردوغان، حاولت من خلال الأزمة السورية فرض أطناب هيمنتها على المنطقة وخارجها، وذلك من خلال تسخير العديد من المجموعات الإرهابية المسلحة، التي حاربت – بالدرجة الأولى – تجربة الإدارة الذاتية القائمة في شمال وشرق سوريا، وبحجة حماية أمنها القومي. إضافة إلى أنها سخرت العديد من أطياف المعارضة، ومجموعات من الفصائل المتشددة، لمحاربة حكومة دمشق في شمال غربي البلاد، وفي وقت لاحق استخدمت تلك الفصائل في حروب خارج سوريا، عندما ساقتهم إلى ليبيا وأذربيجان لقتال الجهات التي تعارض سياسات تركيا.

من جهة ثانية، يمكن الملاحظة بوضوح، أنه في الحالة السورية، فإن البلاد مقسمة بين ثلاث مناطق نفوذ إحداها تتبع لدمشق، والأخرى تتبع للإدارة الذاتية الديمقراطية، والثالثة تقع تحت سيطرة فصائل المعارضة الموالية لتركيا؛ ناهيك عن المناطق التي تحتلها تركيا، والقواعد العسكرية لواشنطن وموسكو، المنتشرة في شرق وغرب الفرات، ومنطقة الساحل. وبالتالي تبقى قضية التقسيم الفعلي قائمة، وترتبط بمسألة زمنية طرح القرار من قبل القوى العالمية الكبرى.

أما طهران، التي تدعم النظام السوري إلى جانب موسكو، تتعرض قواعدها ومقراتها العسكرية، لهجمات مستمرة من قِبل إسرائيل، تلك الهجمات التي تغض موسكو الطرف عنها باستمرار، وهي إذ تظهر بأنها متفقة إلى حد ما مع موسكو، إلا أن الكثير من الاختلافات في الرؤى والمصالح والمسائل الجيوسياسية، تطفو على السطح دائماً. فموسكو عادت إلى الساحة الدولية من البوابة السورية، بعد وصولها إلى المياه الدافئة، أما طهران فعلاقاتها السياسية والاستراتيجية مع النظام السوري قديمة، وتريد استخدام الملف السوري كورقة لتحقيق أهداف تتعلق ببرنامجها النووي.

المنعكسات على مناطق شمال وشرق سوريا

أظهرت قمة طهران صوراً متعددة تتعلق بالحرب على “الإرهاب”، وقضايا الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، والملف السوري، الذي كان حاضراً بقوة على طاولة المحادثات. ولكن بين ثنايا القمة، العديد من الملفات التي لم تظهرها الصور المباشرة للمحادثات، فقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والتوترات على الحدود السورية التركية، وتحشيدات الجيش التركي، وموالوه من الفصائل المسلحة، وتهديدات أردوغان وأعضاء حكومته المستمرة لمناطق الإدارة الذاتية؛ كل ذلك كان كفيلاً بمناقشة العديد من الرؤى حول ملفات الأزمة السورية والتنسيق في بعض الملفات والقضايا التي تخص الدول الثلاث، ومن خلفهم سوريا.. والتي يبدو أن الكثير مما تم الاتفاق عليه لم يخرج بعد إلى السطح. المهم في الأمر هي عملية استمرار محاربة القضية الكردية في المنطقة بأيادٍ تركيةٍ كما كان يحدث في السابق.

لم تتوان تركيا عن تقديم العديد من التنازلات في هذه القمة لتمرير هدفها الرئيسي؛ وهو القيام بعملية عسكرية شمال شرق سوريا، إلى جانب أنها أرادت أن ترسل رسالة واضحة للولايات المتحدة وحلفائها أنها قادرة على بناء جبهة أخرى، طالما قد أغلقت واشنطن الأبواب أمامها قبل وبعد “قمة جدة”. لكن المهم في الأمر الآن، أن إيران وروسيا لم يدعا تركيا تحوز على مناطق نفوذ جديدة، على حساب قوات سوريا الديمقراطية، فالطرفان يحاولان استخدام ورقة قوات سوريا الديمقراطية وتركيا، للحصول على تنازلات منهما. خاصة عندما يلوحون لـ”قسد” بضرورة انتشار قوات النظام في الأراضي والبلدات التي تسيطر عليها، وإلا فإن التهديدات التركية قد تتحول إلى واقع، حيث بات الهدف من هذه الابتزازات التي تمارس ضد “قسد” واضحاً، فموسكو وطهران متفقتان على هدف رئيسي، وهو عودة كامل الجغرافيا السورية إلى سيطرة الحكومة المركزية، كون البلدان يتحكمان بمفاصل الدولة السورية الأساسية، ويكونّان معاً بنيانها السياسي والعسكري الأقوى، لذلك جاءت مواقفهما واضحة بعدم السماح لتركيا باجتياح الأراضي السورية من جديد -على الأقل- في الفترة الراهنة.

تركيا من جهتها لم تقتنع بما أرادته موسكو وطهران، وقدمت تبريرات، منها أن “اتفاقية 2019” لم تنفذ في بنودها الرئيسية، وهي انسحاب قوات سوريا الديمقراطية لمسافة 30 كم، لذلك جاءت معظم تصريحات القادة الأتراك في سياق متابعة العملية العسكرية وضرورتها، تحت حجج ضرورات حماية الأمن القومي التركي. ولكن يبدو أن المرجح هو تأجيل هذا العمل العسكري على الأقل في الوقت الحالي، في ظل معارضة جميع الأطراف، فالولايات المتحدة الأمريكية، ومعها قوات التحالف الدولي، ومعهم قوات سوريا الديمقراطية في شرقي الفرات، تعارض هذا العمل العسكري التركي، وأن أي تهور قد يؤدي إلى صدام مباشر معها في شرق الفرات. أما في غربه، فتتواجد روسيا، ومعها المليشيات الإيرانية، وخاصة في ريف حلب، وتل رفعت، ومعهم قوات النظام السوري، الذي انتشر عناصر منه على الشريط الحدودي مع تركيا، في مناطق منبج، وتل رفعت، وريفي كوباني وعين عيسى.

ولكن، يبدو أن تركيا التي اقتنعت – ربما – بتأجيل العمل العسكري، فقد وجدت ضالتها في مطاردة عناصر قوات سوريا الديمقراطية، باستخدام المسيّرات الحربية، وهو أمر بات يشكل مصدر تهديد حقيقي للأمن والاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا، لكنه ربما لا يثير حفيظة الدول صاحبة الهيمنة على القرار في سوريا، كالولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، طالما أنه لا يضيف على الخريطة مناطق نفوذ تركية جديدة.

الملفات الاقتصادية لم تكن غائبة عن القمة

كان للاتفاقيات الاقتصادية حضوراً قوياً بين البلدان الثلاث، ويبدو أن الرئيس “بوتين” يريد أن يثبت للغرب – يوماً بعد يوم – أنه قادر على الاستمرار في المواجهة والتحدي، في حربه العسكرية والاقتصادية في أوكرانيا، مع الولايات المتحدة، والدول الأوروبية المتحالفة معها، خاصة أنه اجتمع في طهران، وهي عدوة لواشنطن، ومع تركيا، وهي حليفتها في الأطلسي.

في الجانب التركي الإيراني، عقد الطرفان مجلس التعاون الاقتصادي رفيع المستوى، وقام الطرفان بتوقيع ثماني اتفاقيات، شملت قطاعات عديدة، كان أهمها الاتفاق حول تطوير البنية التحتية لقطاع الكهرباء بين البلدين، وضرورة رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي يبلغ حالياً 30 مليار دولار.

الحديث الأهم في الموضوع الاقتصادي، جاء عن إمكانية الاستغناء عن الدولار في المبادلات التجارية بين روسيا وإيران، وإحلال الروبل والريال بديلاً عنه، وهو الأمر الذي – إذا ما تحقق – سيُعد ورقة جديدة تضاف إلى أوراق الضغط، التي يمتلكها “بوتين” في مواجهته مع الدول الغربية، لأنها كفيلة بدعم قوة الروبل في الأسواق العالمية، والتخلي عن الدولار، علماً أن حجم التبادل التجاري بين البلدين زاد في عام 2021 بنسبة 81%  عن السنوات السابقة، وزاد خلال الربع الثاني من العام الحالي بنسبة 10%، حيث بلغ حدود 4 مليارات دولار على أساس سنوي.

النقطة الأخرى، كانت مسألة تجارة الحبوب، وإمكانية التوسط التركي بين روسيا ودول العالم، للإفراج عن 20 مليون طن من القمح المحجوز في موانئ أوكرانيا، وهي إحدى أوراق الضغط إلى جانب الأمن الطاقي، التي يمارسها “بوتين” في سياق الأمن الغذائي، ومحاولة زعزعته في الدول الأوروبية، والدول الأخرى في العالم، التي كانت تستورد القمح، كرد على جملة العقوبات التي فرضتها تلك الدول على روسيا. حيث تريد روسيا إيصال رسالة لتركيا – ولو أنها غير صادقة في ذلك – بأنها دولة محورية، وذلك أمام جملة التنازلات التي قدمتها تركيا في السابق، من خلال تخلّيها عن العديد من الجهات والفصائل التي كانت تعارض حكومة دمشق، وإظهار رغبتها في تسوية سياسية، أو – في الحدود الدنيا – تعاون سياسي معها، وهذا أمر لم يكن وارداً سابقاً، إلا أن التطورات الإقليمية والدولية في المنطقة، فرضت على أنقرة تغييراً لبوصلتها نوعاً ما، بعد التهميش الكبير لها، من قبل الولايات المتحدة، وتحرك واشنطن باتجاه القضية اليونانية، وإنشاء قواعد عسكرية هناك، وعقد “قمة جدة” مع المملكة السعودية، وتسع دول عربية أخرى، بدون دعوة تركيا إليها، فضلاً عن الاستمرار في دعم قوات سوريا الديمقراطية على الأرض، وهو ما يثير حفيظة تركيا، لدرجة الانزعاج التام.

أمام تلك المتغيرات والتنازلات، التي قدمتها أنقرة، رحبت موسكو – أثناء قمة طهران – بالوساطة التركية في سياق الإفراج عن كميات من الحبوب في ميناء أوديسا، الأمر الذي تم بالفعل في الأيام التالية للقمة، حيث أفرجت القوات الروسية عن ما يقارب من 27 ألف طن من الحبوب، كشحنة أولى، ستليها 27 شحنة لاحقاً، بموجب اتفاق عقد بين روسيا وعدد من دول العالم، وقعتها في إسطنبول في 22 تموز/يوليو الماضي، تحت مسمى “وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية”،  برعاية الرئيس أردوغان، في مشهدٍ حاول الرئيس الروسي أن يجعل أردوغان فيه مقتنعاً بمسألة حفظ ماء الوجه في الداخل التركي، ووزن سياسي على الساحة الإقليمية والدولية.

ختاماً

تظهر الأحداث الجارية، وانعقاد القمم في منطقة الشرق الأوسط، أنها ذاهبة إلى تموضعات جديدة، قد تبنى على أساسها محاور سياسية واقتصادية متعددة، سوف تكون البراغماتية عنوانها الأبرز. لكن بالمحصلة، كل ما جرى، يُظهر تعقد الملفات السياسية والجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الملف السوري، الذي تتعارض حوله الرؤى والمصالح، ليست الآنية فقط، وإنما الاستراتيجية. وبناءً عليه فقد ورد البيان الختامي فضفاضاً، غير محدد المصطلحات الرئيسية والمواقف، إلا أن القمة أظهرت ارتباط انعقادها الوثيق مع كل تلك الملفات والتطورات، التي حدثت وتحدث في المنطقة والعالم، وخاصة تلك المرافقة، والتي تأتي في السياق الزمني لانعقادها، كـ”قمة جدة”، والحرب الروسية الأوكرانية، والتحشيدات التركية على الحدود السورية، والأخذ والرد في قضية الملف النووي الإيراني، والصعوبات الاقتصادية التي تواجه كل من روسيا وإيران في مواجهة الولايات المتحدة، والدول الغربية.

بالنتيجة، لم تتوحد الرؤى والمواقف، حول العديد من القضايا المتشابكة بين الدول الثلاث، وخاصة في الملف السوري، والعملية العسكرية التي تريد تركيا تنفيذها شمال وشرق سوريا، بل أظهرت القمة تمسك روسيا بعدم حصول تركيا على مناطق نفوذ جديدة، وعدم السماح لها بتنفيذ عمل عسكري، يُحدث حالة من اللاستقرار، قد تضر بمصالحها، وأمن قواعدها في المنطقة، والمناطق التي تنتشر فيها قوات النظام السوري. لكن معظم التصريحات اللاحقة التي صدرت عن الرؤساء الثلاث، أو المسؤولين في الدول الثلاث، أكدت على إطار ثلاثي بينها، في سياق المصالح المشتركة، وتحسين التعاون الاقتصادي وتطويره، وهي قضايا استراتيجية، قد تكون أبعد من الملف السوري، الذي اتضحت فيه تماماً رؤى الحل لكل طرف من الأطراف الثلاثة حوله.

زر الذهاب إلى الأعلى