قضايا راهنة

بعد ماضٍ مضطرب،،، بوادر إجماع على مستقبل مُتَّزن لكُرد سورية

غالباً تكون الشراكة غير واردة بين أي قوى متخاصمة عندما يتعلق الأمر بأهداف ونوايا مختلفة، لكن أحياناً تقتضي الضرورة الإجماع بينها على رؤية موحدة لتخفيف حدّة الهزات الحاصلة، وتحقيق مصلحة مشتركة، وهذا ما تسعى إليه مؤخراً القوى الغربية في سورية حول اعادة تأهيل العلاقة مع كُرد سوريا، وبدعم من كافة الخصوم (ما عدا تركيا)، فالتحول السريع على الحدود السورية التركية على مدى الأشهر الماضية، وضع الكُرد وحيدين في مواجهة مصيرهم، سواء من تركيا أو تنظيم الدولة الإسلامية وخلاياه، لكن بعد مراجعة بعض الحسابات، يبدو أن الجميع أيقن أن استراتيجيتهم كانت غير سليمة، فوجدوا العودة إلى الكُرد مخرجاً من معضلة سياساتها في سورية، والطريق لتغيير المشهد الاستراتيجي للمنطقة بشكل كبير وفعال ويؤدي الى نتائج مرضية للجميع يمكن تحليلها كالآتي.

وساطة روسية
يبدو إن نية روسيا لحضور طويل الأمد في سورية، ألزمها بعلاقات مهمة وبشكل خاص مع الكُرد في شمال شرق سوريا، لدورهم الحاسم في مستقبل المنطقة؛ حيث ترى موسكو في الكُرد كطرف فعّال لدفعهم تدريجياً في أية محادثات مستقبلية حول التوافق السياسي والاستقرار في سورية.
فبدأ الروس بالوساطة بين المجلس الوطني الكُردي والادارة الذاتية، بهدف التوصل لحل وسطي يرضي تركيا والادارة الذاتية؛ بالإضافة إلى إجراء تفاهمات مع النظام السوري، وهي محاولات تجري ضمن خطة للحفاظ على وجودها ضمن شرقي الفرات، من خلال توحيد الصف الكُردي، فما تحاوله موسكو هو استباق للأحداث واستغلال هذه المحادثات، لتحقيق نوع من التوازن في سوريا بما لا يتعارض مع مصالحها، كونها مناطق مستقرة، وتفيد في رسم ملامح مستقبلية ترضي أي طرف يحاول إنهاء الحرب.
ومن ناحية أخرى يبدو التغيير السريع للخطاب الروسي تجاه الكُرد جاء في مسعى منها لإلغاء العقوبات المعادية لروسيا، كالعقوبات الغربية، بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، وحرب شرق أوكرانيا، ومسألة الجاسوس الروسي (سيرغي سكريبال وابنته) في المملكة المتحدة، وتصويت الكونغرس الأمريكي بتشديد العقوبات المفروضة عليها. لذا ترى روسيا أن التعاطف مع الكُرد من خلال دعواتها بإشراكهم في مفاوضات جنيف حول مستقبل سوريا، واستمرار فتح مكتبهم التمثيلي في موسكو، ماهي إلا محاولات لجذب التعاطف الأمريكي والغربي لإلغاء العقوبات وحل المسالة السورية. فقوات سوريا الديمقراطية هي من تأسيس الأخيرين وتحظى بدعم وتأييد واسع من بعضهم وجزئي من الآخر.

دعم أمريكي مستمر
على الرغم من الانسحاب الجزئي المهين للقوات الأمريكية من شمال شرق سورية، لكن لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لا تزال لديها الخطط في المنطقة، فالهدف الأمريكي يقضي بالبقاء في سورية، لتحديد أي نتيجة سياسية فيها. لذا فتواصل الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، من حيث بناء القدرات والمهارات القتالية، لا يكفي لدعم وجودها في المنطقة، فلا بد من إيجاد مخرج سياسي آخر، وهو دعم الكُرد سياسياً، وادخالهم في أي عملية تفاوضية سواء في الدستور أو أية محادثات أخرى، بما يضمن دورها كشريك فاعل في مستقبل سورية السياسي. فحماية حقول النفط وتمويل قوات سوريا الديمقراطية لمحاربة داعش، بحاجة إلى شرعية، وهذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة مع الكُرد في سورية، عبر توحيد صفوفهم كمشروع مُكمّل لما سبق، ويتضح هذا الإصرار من خلال الزيارات المتكررة لكل من “وليام روبوك” (نائب المبعوث الأمريكي الخاص إلى التحالف الدولي، وكبير مستشاري المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا) وفريقه في المنطقة لفترات طويلة، مما يؤكد جدية الولايات المتحدة لحل الخلاف بين الكُرد، وضمان مشاركة الإدارة الذاتية في أي محادثات تخص مستقبل سوريا السياسي.

إجماع روسي أمريكي
يبدو إن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا مستعدان للعمل على تحقيق نوع من التوافق بين الأحزاب الكُردية في سورية، وهو ما أعرب عنه مسؤولون أمريكيون وروس في مناسبات متعددة على أهمية التمثيل الكُردي في أية محادثات تتعلق بمستقبل سورية فالمصلحة المشتركة تقتضي بتحقيق نوع من التوافق لحل بعض المشاكل العالقة (كالتدخل الايراني والتصرفات التركية) وايجاد حلول ترضي الطرفين.
فمنذ بداية الأزمة السورية تسعى ايران إلى ترسيخ نفسها في سورية، وخاصة في الجزء المحصور بين سوريا والعراق، عبر بناء قاعدة عسكرية كبيرة في البوكمال، لتأمين طريق بري بين طهران وسوريا‘ وهذا ما يتعارض مع الموقف الأمريكي. أما الموقف الروسي فيتعارض مع دور ايران الاقتصادي في سوريا، عبر نشاطها في المنطقة الشمالية الشرقية في سوريا. ونيتها لاحتكار شبكة الكهرباء في سورية، بتوقيع اتفاق لبناء محطة كهرباء في اللاذقية بقيمة 400 مليون يورو، وفي حمص ومدن أخرى، وهو ما لا يتوافق مع الهدف الروسي، فهي التي تمتلك محفظة كاملة للاستثمارات المستقبلية، وتتجه نحو تطوير حقول النفط السورية، والتي تسيطر عليها الولايات المتحدة وقوات سورية الديمقراطية.
لذا فالمصلحة المشتركة لموسكو وواشنطن تقتضي بتقويض النفوذ الايراني في سورية ككل، وهو المحور المشترك الذي يجمع بين الاثنين لتحقيق مصالحهما، ويبدو أنه لا يتحقق إلا من خلال تقوية الدور الكُردي في سوريا، عبر دعمهم العسكري لتقويض النفوذ الإيراني في المنطقة. وتمثيلهم الدبلوماسي في جميع المحافل، كرؤية مشتركة وموحدة لكافة الكُرد دون أي تبعية، فكانت الفرصة لإطلاق المبادرات الغربية ومن الطرفين بشكل خاص لتوحيد الصفوف تمهيداً للمراحل اللاحقة وكخريطة طريق لسوريا المستقبل.
بالإضافة إلى تقويض النفوذ الايراني؛ تبدو تركيا كحال إيران من القوى الرئيسية التي تحاول تثبيت وجودها في سورية، إلا إن محاولاتها اليائسة مع روسيا لإيقاف دعم النظام، والولايات المتحدة مع قوات سوريا الديمقراطية، جعلت علاقاتها تتناقض مع الاثنين، وتصرفاتها دفعت روسيا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والعربية، إلى الاعتقاد بأن تركيا أصبحت تبتعد كثيراً عنهم، وتشكّل خلل كبير لأي عملية تفاوضية في سوريا أو خارجها. فالدعم التركي في ليبيا لحكومة الوفاق من شأنه فتح جبهة جديدة مع روسيا ودول غربية وعربية، لذا فهزيمة جهود تركيا في ليبيا بالنسبة لروسيا لا تقل أهمية من جهود قبرص واليونان واسرائيل وفرنسا، وبعض الدول العربية كالإمارات ومصر في سوريا وشرقي المتوسط، كما أن فكرة تفويضها من قبل الولايات المتحدة لإنهاء أي صراع أو تقويض النفوذ الايراني أو محاربة التنظيم، أصبح وصفة لتفاقم عدم الاستقرار الاقليمي وزيادة تآكل النفوذ الاقليمي للولايات المتحدة.
فيبدو الإجماع نحو التقرب للكُرد أصبح الضرورة الأكثر أهمية من تركيا لإيجاد تسوية ليس للأزمة السورية فقط، وإنما لإعادة تشكيل العلاقات الروسية الغربية والروسية الأمريكية؛ وهذا ما يدفع الجميع إلى تقوية النفوذ الكُردي في سورية لإفشال أي جهود تركية والضغط عليها للموافقة على الأمر الواقع في شمال شرق سورية.

ترحيب دولي
سارعت العديد من الحكومات بإجراء حوارات متعددة، لاجتماع الأحزاب الكُردية، وبعضها استقبل وفود من أحزاب الكُرد في عواصمها منها روسيا وفرنسا، ودعوتهم إلى وحدتهم في كل مرة، الهدف منها كسب:
قوة مقاتلة أكثر فاعلية
رغم الخلافات بين القوة الغربية، فالجميع يرى في القوة المتشكلة في شمال شرق سورية فائدة بشكل كبير لخططهم في المستقبل، فروسيا ترى المقاتلين الكُرد، عنصر رئيسي وفعال في مستقبل الدفاع السوري، والولايات المتحدة وأوروبا تراها حليفاً جوهرياً للاستقرار في تلك البقعة الجغرافية، ومنع ظهور داعش؛ بالإضافة كحاجز رئيسي لإفشال أي مشروع إيراني في المنطقة.
لذا فالجميع يعترف بهذه الحقائق، وهذا ما يحاولونه الآن لإرساء وضع سياسي للكُرد السوريون، يمكنهم من الحصول على حقوقهم بما فيها إدارة مناطقهم، ويضمن وحدة الأراضي السورية.
دعم العملية الدستورية
الجهود الفاشلة للخطة الروسية لإنهاء الحرب عبر صياغة الدستور إنهار في اجتماعه الثاني خلال مؤتمر جنيف بحضور ممثلين عن النظام السوري والمعارضة، دون الوصول إلى أية أعمال مستقبلية. فالحماس الذي بُذل بشأن الدستور لم يكن بأوانه، كون اللجنة كانت تفتقر لتمثيل الكُرد، بالرغم من نسبتهم الكبيرة في سورية، كما إنهم لم يحضروا مؤتمرات استانا التي سبقت اللجنة الدستورية، فظاهرياً الكُرد الذين كانوا يمثلونهم هم من المجلس الوطني الكُردي، وهو جزء من ائتلاف المعارضة الخاضع للسيطرة التركية، أي إنهم كانوا يمثلون قوى المعارضة وليس الكُرد. لذا كان لا بد من القوى الغربية ما عدا تركيا، تجديد التعاون مع الكُرد، وخاصة الولايات المتحدة بإبراز مكانتهم القتالية، وتقوية دورهم على الجبهة الدبلوماسية، وتؤكد لتركيا أو أي قوى أخرى بفشل أية جهود دبلوماسية في سورية بدون الكُرد، وهذا التمثيل لا يتحقق إلا بتوحيد الصف الكُردي الكُردي، كجانب محايد في أي عملية دبلوماسية دون تبعية لأحد وتراعي مصالح الجميع.
خلاصة القول،،، إنه على الرغم من المشاكل التي تعرضت وتتعرض لها مناطق شمال شرق سورية، كالغزو التركي مؤخراً، واستفزازات من عناصر الدفاع الوطني، وخلايا التنظيم النائمة، وأزمة معتقلي ومحتجزي التنظيم، إلا إنها بقيت متماسكة ولم تنهار. كما لايزال للكُرد العديد من الأوراق السياسية والعسكرية، التي تظهر فاعليتها في أي صفقة أو عملية تفاوضية حول مستقبلهم السياسي في سوريا سواء مع النظام الحالي، أو أية قوة سياسية أخرى، لذا فالجميع يسعى جاهداً للتسابق نحو الحصول على هذه الورقة، سواء من طرف واحد أو بالمشاركة التي تقضي لمصلحة واحدة. وعليه يمكن تلخيص ما سبق حول سبب هذا الإجماع بعدة نقاط:
– إضعاف موقف تركيا الدولي.
– دعم تطلعات الكُرد من شأنه سيؤدي إلى تحالف أمريكي روسي (اضطراري).
– تمهيد الطريق لاتفاق دائم بين روسيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى في سوريا.
– الاتفاق الدائم من شأنه أن يؤدي إلى إبرام اتفاق سياسي في سورية.
– رغبة موسكو في عدم عودة انتعاش العلاقات التركية الأمريكية، والتي ستؤدي إلى جبهة موحدة ومناهضة لها في الشرق الاوسط. لذا دعم حلفاء واشنطن على الأرض (قوات سورية الديمقراطية) من شأنه أن يبعد تركيا عن الولايات المتحدة، وبالتالي توحّد الجبهة الأمريكية الروسية ضد تركيا.
– خطة تجنيد تركيا لمواجهة ايران، خطأ استراتيجي، فتمكين قوة امبريالية وغير ديمقراطية لمحاربة قوة أخرى، لن تؤدي إلا لتعميق مشاكل في الشرق الاوسط.
– ما سبق أعلاه يستدعي الحاجة إلى قوات محلية مساعدة لاحتواء التهديد الايراني وتهديد داعش، والتمرد التركي، واستقرار المنطقة؛ وهذا ما تراه الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية في (قوات سوريا الديمقراطية) كإجراء لتحقيق هذا الهدف عبر اجماعهم على استراتيجية جديدة تدعم إدارة المناطق التي تنشط فيها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى