اغتيال هنيّة في طهران وصعوبة قرار الرّدّ الإيراني
يعتبر اغتيال اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قلب العاصمة الإيرانية طهران أحد أكبر الضربات إيلاماً للنظام الإيراني، بعد تزايد وتيرة التصعيد بين إيران وإسرائيل على أعقاب هجوم 7 أكتوبر الذي شنته حماس على إسرائيل. وهناك أسباب عدّة تجعل وقع هذا الحدث شديداً على النظام الإيراني وعلى “محور المقاومة” على حدٍّ سواء. يأتي توقيت هذا الحدث في مقدمة هذه الأسباب، وهو حدوثه في أول أيام استلام الرئيس الإيراني الجديد مسعود پزشکیان مهامه بشكل رسمي، بعد أداء اليمين الدستوري الذي شارك فيه “الضيف العزيز” لإيران اسماعيل هنية.
السبب الثاني هو مجيئه بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على اغتيال القيادي الكبير في حزب الله، فؤاد شكر، والمستشار العسكري في الحرس الثوري الإيراني ميلاد بيدي، بغارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية، إذ يُعتبر شكر، أهم مؤسّسي حزب الله، وهو المستشار العسكري لزعيم الحزب حسن نصر الله، والمسؤول عن دقة ترسانة الصواريخ التي يمتلكها الحزب، وتعتبره إسرائيل المسؤول عن الهجوم على مجدل شمس، ومهندس العمليات العسكرية ضدها منذ هجوم السابع من أكتوبر.
أما السبب الثالث فهو مدى قوة هذه العملية الاستخباراتية، واختراقها الحلقة الأمنية الضيقة للنظام. هذه الأسباب مجتمعة، جعلت الحدث صدمةً كبرى تلقتها إيران في عقر دارها، وهي تشبه إلى حد كبير، وقع صدمة اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني بمسيّرة أمريكية في بغداد عام 2020م.
على الرغم من أنّ مثل هذه العملية المنسوبة للموساد الإسرائيلي تأتي ضمن سلسلة من عمليات مشابهة داخل الأراضي الإيرانية، فإنّها تتفوق على جميع هذه العمليات السابقة بما فيها عملية اغتيال محسن فخري زاده مهندس البرنامج النووي الإيراني عام2020م.
والسبب هو المكان الذي اغتيل فيه هنيّة، وهو مجمعٌ أمنيّ مخصص لضيوف الحرس الثوري شمال طهران، وقرب المكان الذي تم إطلاق الصاروخ الموجه منه، وهو بناءٌ مجاور لمقرّ إقامة هنيّة، وذلك بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فيما تتحدث أنباء حديثة عن مقتله جرّاء انفجار عبوة ناسفة تم زرعها سرّاً في المقرّ ذاته.
وعلى الرغم من عدم تبنّي إسرائيل لعملية الاغتيال بشكلٍ رسمي، فإنّ المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية ديفيد منسر، لمّح إلى مسؤولية إسرائيل عن العملية، عندما قال إنّ إسرائيل حققت نصرين كبيرين في آخر 24 ساعة، كما أشار إلى أنّ إسرائيل في حالة تأهّب قصوى.
يتضح من هذه العملية، عزم إسرائيل على جرّ إيران بشكل مباشر إلى حلقة الصراع الذي يدور بين إسرائيل ووكلاء إيران في المنطقة على شكل حرب استنزاف للقدرات الإسرائيلية، في سبيل كسر حالة التردد وعدم الرغبة التي تبديها الولايات المتحدة والدول الغربية تجاه فكرة المواجهة المباشرة مع إيران؛ إذ إنّ إسرائيل لديها قناعة تامة بدخول هذه الأطراف إلى جانبها في حال اندلاع هذه المواجهة الشاملة، وهي ترى أنّه السبيل الوحيد للخلاص من التهديد الإيراني المتجذّر، والخلاص من حلقة النار التي باتت تضيّقها إيران حول إسرائيل.
إضافةً إلى ذلك، كان هدف إسرائيل من هذه الضربة وتوقيتها، هو ضرب الاستراتيجية الإيرانية التي بدأت ملامحها تظهر مع تعيين الرئيس الإصلاحي پزشکیان، وهي تتمثل في إبداء اللين تجاه الولايات المتحدة والغرب، بعد المأزق الكبير الذي تجد إيران نفسها فيه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، وبالتالي فإنّ إسرائيل تكون قد قوّضت هذا التوجه، الذي لن يكون في صالحها في حال حدوث أيّ شكل من أشكال التوافق بين إيران والأطراف الغربية حول الوضع الإقليمي والملف النووي، لأنها تعتقد أنّ هذا التقارب لن يكون سوى مناورة جديدة من إيران لكسب المزيد من الوقت الذي سيتيح لها المزيد من التسلح ورسم استراتيجيات مستقبلية أكثر تعقيداً.
إنّ حجم وتأثير هذه الضربة التي باغتت النظام الإيراني وأربكته بشكلٍ كبير، يضعه في موقفٍ حرجٍ جداً، وسيدفعه إلى الردّ، ومحاولة فرض شكلٍ جديد من أشكال الردع في صراعها مع إسرائيل. فالهجمات بالصواريخ والمسيرات في نيسان/أبريل الفائت لم تحقق الردع المطلوب بالنسبة لإيران، حيث أعلن قائد الحرس الثوري حسين سلامي، بعد تنفيذ تلك الهجمات التي لم تخلف أضراراً تذكر في الداخل الإسرائيلي، أنّ الرد الإيراني من الآن فصاعداً على أي استهداف اسرائيلي للقوات والمواقع الإيرانية خارج حدودها سيواجَه بردّ من داخل الأراضي الإيرانية، لكنّ ذلك لم يحدث، واستمرت اسرائيل في تنفيذ العديد من العمليات ضد إيران و”محور المقاومة” في لبنان وسوريا، واليوم في داخل إيران.
لذلك، ستكون إيران مرغمةً على اتخاذ قرار الردّ الذي يبدو أصعب الآن، ويتطلب حسابات أكثر دقة، لتجنب ارتداداته الوخيمة عليها، وقد عكست ملامح خامنئي أثناء تأديته صلاة الجنازة على جثمان هنيّة في طهران، مدى حيرته وارتباكه في اتخاذ قرار قد يكون من أصعب القرارات التي يتخذها في حياته. فالرّد يجب أن يكون أكبر من ردّ “الوعد الصادق” الذي جاء عقب استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، وبالتالي فإنّ هذا الرّد -إنْ تم- يجب أن يُظهر جانباً أكبر من القوة، وقد يشمل هجوماً مركباً من الأراضي الإيرانية بالطائرات المسيرة والصواريخ، لكن هذه المرة بالتزامن مع هجوم مماثل من عدة محاور، مثل لبنان واليمن والعراق وسوريا، كما يتطلب هذا الرد وجود تأثير واضح يتعدى الجانب الاستعراضي، بحيث يعيد بعض الاعتبار لها وللجماعات الموالية لها، كما أنّ أسباب الردّ متوفرة أيضاً لدى حزب الله بعد مقتل شكر، وكذلك لدى الحوثيين بعد فرض إسرائيل قوة ردع جديدة عليها بقصفها ميناء الحديدة والضرر الكبير الذي ألحقته بجماعة الحوثي في اليمن. لكن السؤال الملحّ الذي يتبادر إلى الأذهان هو كيف سيتم التوفيق بين حجم ضربة كهذه وبين عدم إلحاق ضرر كبير بإسرائيل لتجنب تشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة وربما خوض حرب شاملة ضدها؟
في الردّ السابق لإيران كانت المعادلة الجديدة هي إظهار القوة من خلال قصف الداخل الإسرائيلي دون ترك أضرار وعدم إرغام إسرائيل على رد كبير، أما المعادلة الحالية فيجب أن تكون إظهاراً أكبر للقوة في قصف الأراضي الإسرائيلية مع وقوع أضرار وعدم إرغام إسرائيل على الردّ، وهي معادلة قد تبدو مستحيلة. لأنّ إسرائيل والدول الحليفة لها والتي ساعدتها في صد الصواريخ والمسيرات الإيرانية، قد لا تتمكن هذه المرة من صد تلك النسبة السابقة منها، في حال شارك حزب الله والميليشيات الإيرانية الأخرى في المنطقة في هذه العملية، وبالتالي ستكون هناك أضرار حتمية داخل إسرائيل.
إنّ هذا الردّ إنْ حدث، سيما وأنّ خامنئي أوعز به بشكلٍ صريح، سيكون ردّاً ينطوي على مخاطرة كبيرة، وفي حال إلحاق أضرار كبيرة بإسرائيل، سيدفع ذلك إسرائيل إلى الرد بقصف مواقع داخل الأراضي الإيرانية وفي مقدمتها المنشآت النووية الإيرانية بالتزامن مع فتح جبهات أخرى ستشمل لبنان وباقي المناطق التي تتمركز فيها الأذرع الإيرانية.
لكن حتى لو تم ذلك، ستحاول الولايات المتحدة والدول الغربية، الحيلولة دون تحول هذه الحرب إلى حرب شاملة مفتوحة بشتى السبل الممكنة، وفي حال الفشل في ذلك، قد تأخذ الأحداث مساراً أكثر تعقيداً تصعب السيطرة عليه، سيّما وأنّ الولايات المتحدة ستجد نفسها مرغمة على خوض هذه الحرب إلى جانب إسرائيل، ما سيقود الجميع إلى نتائج مجهولة لا يمكن التنبؤ بها. ولذا قد تكون الأنباء الأخيرة التي نشرتها نيويورك تايمز عن مقتل هنيّة بعبوة ناسفة، محاولة أمريكية- إيرانية، لإخراج إيران من مأزق الردّ الحتمي على إسرائيل الذي سيؤدي إلى تفجير الأوضاع في المنطقة وخروجها عن السيطرة، وإضافة ملف اغتيال هنيّة إلى ملف رئيسي و وزير خارجيته عبد اللهيان وبقائه طي الكتمان، وحصر الصراع بين إسرائيل وإيران ضمن قواعد اللعبة الحالية، مع الحفاظ على بصيص الأمل في التوصل إلى توافق مع إيران، دون الاضطرار إلى خوض حرب شاملة معها في ظل الظروف الإقليمية والدولية المشحونة والمعقدة.
وتكون إسرائيل هي الرابحة في هذه اللعبة، بعد تحقيق هدف كبير لها، وهو اغتيال هنيّة، مع عدم وجود ردّ إيراني، وأبعد من ذلك، ترك النظام الإيراني في دوامة التآكل من الداخل، نتيجة التصفيات الكبيرة التي ستحدث بسبب هذا الاختراق الأمني الكبير.