مقالات رأي

سياسة التوازن الهشّ لتركيا حيال الصراع الروسي-الأوكراني

شهدت تركيا سلسلة من الأزمات المتواصلة في العقد الأخير من فترة حكم حزب العدالة والتنمية، أثرت سلباً على شعبية الحزب الحاكم في الداخل التركي، وعلى سياساتها الخارجية مع الدول الإقليمية، بسبب سياساتها المتهورة، والقائمة على التدخل في الأزمات الحاصلة في المنطقة، وخلق المشاكل مع محيطها العربي (سوريا، وليبيا)، والإقليمي (الصراع في شرق المتوسط مع اليونان، وحرب أذربيجان وأرمينيا)، في محاولة منها لفرض أجنداتها، والحفاظ على مصالحها في مناطق الأزمات القائمة.

الحفاظ على سياسة التوازن لتركيا بين قطبي الشرق والغرب

تحاول تركيا الاستفادة من أهمية موقعها الجيوسياسي بين الغرب والشرق؛ وفي سبيل ذلك، لا تتوانى عن استغلال هذه الميزات التي تتمتع بها، من أجل المضي قدماً في مشروعها الإقليمي المتجدد، والمتمثل في “العثمانية الجديدة”، والظهور بمظهر القوة الإقليمية القوية، على غرار إيران، بالإضافة إلى اللعب على التناقضات الموجودة بين الغرب والشرق بشكل عام، وبين أمريكا وروسيا على وجه الخصوص، حيث قام أردوغان بسلسلة من الإجراءات المتعارضة مع  مصالح الغرب – خلال العقدين الأخيرين – في محاولة واضحة منه للتحليق خارج السرب الغربي والأمريكي.

كان شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الدفاعية الروسية (S-400) من أبرز خطوات تركيا الخطيرة المناهضة للغرب وأمريكا، رداً على رفض أمريكا بيعها صواريخ باتريوت الأمريكية، وهي الخطوة التي تم رفضها من قبل حلف الشمال الأطلسي (الناتو) وفي مقدمتها أمريكا، التي فرضت عقوبات على أنقرة، واستبعدتها من برنامج مقاتلات (F-35) الأمريكية. اعتبرت هذه الصواريخ بمثابة تهديد لطائراتها المقاتلة F-35، وللمنظومة العسكرية لحلف الناتو.

على المستوى الداخلي، قام أردوغان بتشديد قبضته على الداخل التركي أيضاً، سيما بعد الانقلاب المدبّر الذي قام به حزبه الحاكم، في محاولة منه للتخلص من معارضيه داخل حكومته، والانفراد في حكم البلاد، في سبيل تحقيق طموحاته التوسعية. حيث بدأ أردوغان بجملة من الإجراءات التعسفية، وقام بتغيير دستور البلاد، لتوسيع صلاحيات الرئيس، ومن ثم التحالف مع حزب الحركة القومية، حينما دعت الحاجة، من أجل تمكينه من الانتصار في الانتخابات، بعد تراجع شعبيته والتيقن من عدم استطاعته على تشكيل الحكومة بمفرده، ومن ثم إحكام قبضته على معظم مفاصل الحياة السياسية في تركيا، والانطلاق نحو تحقيق أهدافه في الهيمنة الإقليمية.

بيد أن سياسة الحفاظ على التوازن لتركيا، والمتمثلة في مسك العصا من المنتصف خلال الأزمة الأوكرانية الحالية قد لا تؤتي أُكلها؛ ويمكن الإشارة إلى ما ذكره المحلل السياسي الأمريكي، سيث فرانتزمان في صحيفة جيروزالم بوست، بأن “شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الدفاعية من روسيا، من جهة. وبيع السلاح لأوكرانيا، بما فيها طائرات بيرقدار (BT2) بقيمة 200 مليون دولار، قبيل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، من جهة أخرى” مثال واضح على تبني تركيا لسياسة التوازن هذه؛ بالرغم من موقف تركيا الرافض لقرار الضم الروسي لشبه جزيرة القرم، واعتراف روسيا الأخير بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين، مع تزايد مخاوفها من تعزيز النفوذ الروسي في حوض بحر الأسود، الذي اكتسب أهمية كبرى مع اكتشاف احتياطات ضخمة من الغاز، تقدر ب 540 مليار متر مكعب، والتي قد تساعد تركيا على تخفيض الاعتماد على الغاز الروسي، إلا أنها لا زالت تستخدم مصطلحات من قبيل ” العملية العسكرية الروسية” أو “الهجوم الروسي” في خطاباتها الرسمية. لكن، لا تستطيع تركيا المضي قدماً في تبني هذه السياسة؛ بالرغم من محاولتها في إظهار نفسها كطرف محايد، وعدم الانجرار إلى مواجهة روسيا؛ حيث استضافت لقاءً جمع بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونظيره الأوكراني ديميترو كوليبا، في العاشر من شهر آذار/مارس الجاري. إلا أنه لم يسفر عن بوادر حل لهذه الأزمة، مع إصرار موسكو على تحقيق أهدافها كاملة في هذه الحرب، التي أشعلتها مع أوكرانيا، مع العلم بأن أي تقدم في المفاوضات هو أمر مستبعد في ظل الدعم العسكري الغربي والأمريكي الذي يحصل عليه أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي، والإصرار الأمريكي على التعهد بالحفاظ على حق أوكرانيا في التقدم بطلب الانضمام لحلف الناتو.

عليه، يرى معظم المراقبين بأن تركيا في وضع لا تحسد عليه، ولا يمكنها الاستمرار في الحفاظ على هذا التوازن الهشّ. خاصة، في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشكيل اصطفافات وتحالفات إلى جانب طرفي الصراع. فضلاً عن موقع تركيا الاستراتيجي بالنسبة لطرفي الصراع، والمجاور لكليهما بحدود بحرية (البحر الأسود)، الأمر الذي سيجبر تركيا على عدم الوقوف في المنطقة الرمادية، مع تصاعد الأعمال القتالية، وعدم وجود بوادر حل تلوح في الأفق، بالرغم من الجهود الحثيثة في هذا الإطار.

 تدهور العلاقات الأمريكية-التركية  

في ظل إدارة بايدن، شهدت العلاقات الأمريكية-التركية توترات كثيرة، حيث طُردت تركيا من برنامج مقاتلات F-35 الأمريكية، وكان آخر الإجراءات التي أتخذت بحق تركيا هي فرض العقوبات على قطاع الصناعات الدفاعية التركية، وفقاً للمادة 231 من ” قانون مكافحة خصوم أمريكا”، والمعروف اختصاراً بـ (كاستا)، الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب عام 2017، رداً على شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية، بحسب بيان صدر من الوزارة الخارجية الأمريكية في نيسان/إبريل من العام الماضي.

على عكس إدارة ترامب، لا تحظى تركيا بعلاقات جيدة مع إدارة بايدن، بسبب سلوك تركيا في السنوات القليلة الماضية؛ بدءاً من تغيير طبيعة نظام الحكم في تركيا من نظام علماني إلى نظام إسلامي-إخواني في عهد أردوغان، وصولاً إلى “تهديد الأمن القومي الأمريكي، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، وتقويض جهود الدولية لمحاربة الإرهاب في سوريا” بحسب ما جاء في بيان للبيت الأبيض في تشرين الأول/أكتوبر 2021، بعد تمديد العقوبات المفروضة على تركيا من قبل الإدارة الأمريكية السابقة منذ 14 من تشرين الأول/أكتوبر 2019، على خلفية الغزو التركي للمناطق الكردية في سوريا،  ومحاربة قوات سوريا الديمقراطية؛ شركاء التحالف الدولي لهزيمة داعش في سوريا. ووصل الأمر بالعلاقات الأمريكية-التركية إلى حد وصف تركيا “بالخصم” على لسان بعض المسؤولين الأمريكيين.

عليه، فأنه من المستبعد انضمام تركيا إلى جهود حلف الناتو وأمريكا، في تعزيز العزلة على روسيا، والاصطفاف إلى جانب حلفائها التقليديين. وتجلى هذا الأمر بوضوح من جانب تركيا، بعدم انضمامها إلى مجموعة الدول الغربية وأمريكا، التي فرضت العقوبات على روسيا.

روسيا الحليف البديل لتركيا

في إطار سياسة التوازن التركية بين قطبي الشرق والغرب، والتغريد خارج سرب حلفائها التقليديين، طوًرت تركيا علاقاتها السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والعسكرية مع روسيا، في رسالة واضحة لأمريكا بوجود الحليف الاستراتيجي البديل لها. فضلاً عن ممارسة الضغط على أمريكا من أجل أخذ مصالح تركيا ومشاريعها التوسعية ” العثمانية الجديدة”، والتي تهدف للهيمنة على محيطها الإقليمي بعين الاعتبار.

لا تستطيع تركيا المخاطرة بعلاقاتها الجيدة مع روسيا، وخاصةً علاقاتها الاقتصادية والتجارية؛ فقد ارتفع حجم التبادل التجاري مع روسيا بنسبة 57% لعام 2021، مقارنة بعام 2020، إلى جانب مشاريع الطاقة الثنائية بين البلدين، ومن أبرزها، مشروع السيل التركي (Turkish Stream)، لنقل الغاز من روسيا إلى تركيا وأوروبا – أيضاً – عبر الأراضي التركية، حيث تعتبر روسيا المورد الأساسي لتركيا في تأمين احتياجاتها المحلية من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى توقيع اتفاق بين البلدين لإنشاء أربعة مفاعلات نووية في محطة (آكويو) النووية في ولاية ميرسين التركية، والمزمع افتتاحها في مطلع العام 2023.

لا توجد أية نية لتركيا للدفع نحو الإضرار بعلاقاتها مع روسيا، في ظل المعطيات الموجودة على أرض الواقع، والظروف الصعبة التي تمر بها تركيا على مختلف الأصعدة. خاصةً على الصعيد الاقتصادي، مع استمرار فقدان الليرة التركية لقيمتها مقابل الدولار، الأمر الذي انعكس على الأوضاع المعيشية للشعب التركي بشكل مباشر، وانخفاض دخل الفرد وقوته الشرائية، وبالتالي تزايد الاستياء الشعبي ضد التحالف الحاكم ” تحالف الشعب” في تركيا، بالإضافة إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، وحليفه حزب الحركة القومية، بحسب نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة في الشارع التركي، والذي أجراه مراكز بحثية تركية (أكسوي-ميتروبول).

بناءً على ما سبق، فإنه من المستبعد تخلي تركيا عن موقفها الرمادي والمحايد في هذه الصراع المحتدم بين الغرب والشرق، حيال الحرب الروسية-الأوكرانية، فتركيا أحوج الآن – أكثر من أي وقت مضى – إلى الإبقاء على علاقاتها مع روسيا في المستوى الحالي على أقل تقدير، لتفادي الأزمات الناجمة عن أي إضرار بهذه العلاقات، والتي قد تحدد مصير التحالف الحاكم في الانتخابات البرلمانية التركية المقبلة في العام القادم.

ولكن، هذا الموقف الرمادي الذي تبنته تركيا، وسياسة التوازن التي تتبعها في سبيل تحقيق الاستفادة القصوى من كلا طرفي الصراع، في خدمة مشاريعها التوسعية، وفرض هيمنتها على المنطقة، لن يكتب له النجاح، مع التصعيد الحاصل في الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تفرض على جميع الدول توضيح مواقفها حيالها، وخاصةً، الدول الأعضاء في حلف الشمال الأطلسي، ومنها تركيا، بحكم تجاورها مع كل من روسيا وأكرانيا بالحدود البحرية، عبر البحر الأسود.

لذلك، فإن تركيا في وضع محرج حقاً، وسنرى ما ستؤول إلى الأمور، التي غالباً لن تكون لصالح تركيا، مع إصرارها على التغريد خارج السرب الغربي والأمريكي. لذلك، أعتقد بأن تركيا لا يمكنها الاستمرار في تبني سياسة التوازن هذه مستقبلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى