قضايا راهنة

الارتدادات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية .. تداخلات وخسائر متبادلة

بدأت روسيا الاتحادية فجر الخميس، الرابع والعشرين من شباط /فبراير/ الفائت، عملية عسكرية في أوكرانيا، على خلفية مساعي الدول الغربية والولايات المتحدة لضم أوكرانيا لحلف الناتو، وهذا ما سيشكل تهديداً وجودياً ومباشراً لروسيا، بحسب ما صرّح به المسؤولون الروس.

سارعت الدول الغربية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، إلى اتخاذ خطوات سريعة لردع روسيا، عما تنوي القيام به، وبدأوا بفرض عقوبات اقتصادية مشددة على الإدارة الروسية، بهدف شلّ قدراتها على تمويل الحرب، وإضعاف اقتصادها، وتحميلها وبال قيامها بشن هجومها العسكري على دولة أوربية ديمقراطية، كما أشار إلى ذلك المسؤولون الأوربيون. وأياً كانت النتائج التي ستؤول إليها هذه الحرب فإن انعكاساتها الاقتصادية ستقود – لا محال – إلى خلق توازنات جديدة في أوروبا، تراعي المخاوف الروسية وهواجسها المستمرة من تمدد حلف الناتو باتجاه أراضيها.

في هذه الورقة، سنسلط الضوء على الارتدادات الاقتصادية لهذه الحرب على مختلف الأطراف، وقراءة المؤشرات الفعلية التي يمكن أن تؤول إليها نتيجة استمرار العمليات العسكرية، مع تبيان نقاط القوة والضعف لدى كل طرف، وانعكاس استخدام تلك النقاط ضمن حيز المواجهة الحالية بين روسيا والدول الغربية على الأرض الأوكرانية.

عقوبات بالجملة على الاقتصاد الروسي

لم يشهد التاريخ الحديث، أن فرضت الدول الغربية مجتمعة عقوبات اقتصادية بهذه الحدية والسرعة على دولة هي عضو في نادي دول العشرين، فقد فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوربي مجموعة كبيرة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، بهدف شل قدراتها الاقتصادية، وبالنتيجة العسكرية، لثنيها عن المضي في حربها ضد أوكرانيا، وجاء على رأس قائمة هذه العقوبات، توقيف العمل في مشروع نورد ستريم 2، الخاص بتمديد خط أنابيب الغاز عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا وعدد من الدول الأوربية الأخرى، إضافة إلى تجميد أصول البنك المركزي الروسي في الخارج، وتعليق عمل سبعة بنوك روسية داخل نظام سويفت العالمي، الذي يسمح بتحويل الأموال وعائدات التجارة بشكل انسيابي بين المصارف والبنوك المتوزعة في دول العالم، الأمر الذي قد يتسبب في منع روسيا من الحصول على عائداتها المالية من بيع النفط والغاز إلى الدول الأخرى.

واستهدفت هذه العقوبات، معظم مناحي الاجتماعية والثقافية في روسيا، ولكن بشكل رئيسي استهدفت الاقتصاد الروسي، وقطاعاته الرئيسية، وشملت هذه العقوبات تجميد الأصول الروسية في الخارج، شملت احتياطيات المركزي الروسي، ومنع تصدير احتياجات الإنتاج في قطاع الطاقة إلى روسيا، واستهداف قطاع الأسواق المالية الروسية، وكبريات الشركات والبنوك، وتعليق تصدير عدد من السلع والمواد المختلفة إلى روسيا.

وتستهدف هذه العقوبات الاقتصادية – بالأساس – الدفع بالاقتصاد الروسي نحو الركود، وإحداث حالة من الفوضى المالية والمصرفية داخله. لتجد موسكو نفسها مضطرة – حين ذلك – إلى استخدام مبالغ هائلة من احتياطيات البنك المركزي، البالغة 630 مليار دولار، وبعد فرض هذه العقوبات باتت حتى قدرة إدارة البنك المركزي محدودة في الوصول إلى كامل هذا المبلغ، بهدف إنقاذ القطاع المصرفي، وحماية الروبل الروسي من الانهيار.

حرب الطاقة وتأثيراتها

ما أن بدأ التعافي داخل الاقتصادات العالمية من مسألة انتشار وباء كورونا، حتى سارعت أسعار الطاقة بالارتفاع، نتيجة تزايد الطلب، وضعف إمكانات وصول الشحنات لمواقع الاستهلاك بالسرعة المطلوبة، وزاد من وتيرة هذا الارتفاع، دخول القارة الأوربية في فصل شتاء قارس، رفع من حجم احتياجات أسواقها لموارد الطاقة، لاستخدامات التدفئة، إلى جانب الاستخدامات الأخرى الصناعية والزراعية والخدمية. وتشير التقديرات إلى أن نصف معدل التضخم في منطقة اليورو، الذي وصل إلى مستوى 4.2% مع نهاية العام الفائت، سببه كان ارتفاع تكاليف الطاقة قبل بدء الحرب.

وإذا كانت الولايات المتحدة تتربع على رأس قائمة منتجي الغاز الطبيعي في العالم، إلا أن بُعدها الجغرافي يجعل من إمكانية إمدادها لحلفائها الأوربيين بالغاز عملية صعبة ومكلفة، إذا ما قورنت بتكلفة وآلية الإمدادات الروسية للقارة الأوربية.

تتمتع روسيا كثاني منتج للغاز الطبيعي في العالم، بأنها تمتلك احتياطيات ضخمة تتجاوز 47.2 تريليون متر مكعب من الغاز، تجعل منها أعلى دولة في العالم من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي لديها، تنتج منها 638 مليار متر مكعب سنوياً. تزود روسيا دول الاتحاد الأوروبي بنحو 26% من حاجتها في قطاع الطاقة، ونحو 38% من حاجاتها في قطاع الغاز[1]، وهذا ما يسجل لروسيا نقطة قوة واضحة في حال ما فكرت باستخدام سلاح الغاز ضد الدول الأوروبية، في أسوأ سيناريو يمكن أن تقوم به روسيا.

تجاوزت أسعار النفط حاجز المئة دولار، وشهدت أسعار الغاز الطبيعي ارتفاعاً، وصل إلى حدود 62% خلال اليوم الأول من الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي حال ما فكرت روسيا بقطع امدادات الطاقة عن الدول الأوربية، التي تعتمد على روسيا في تأمين 27% من احتياجاتها النفطية، وأكثر من 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، و46% من الفحم الحجري[2]، فإن ذلك سيصيب الاقتصادات الأوروبية بركود حقيقي، وتراجع في نمو الناتج المحلي، قد يصل إلى 4% حتى نهاية العام الحالي، وتخلق حالة من الفوضى والاختلالات الاقتصادية في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ويرفع من معدلات التضخم المرتفعة أصلاً، بعد انحسار انتشار وباء كورونا، ويوسع من دائرة التوقعات النفسية لارتفاع الأسعار لدى الوحدات الاقتصادية الرئيسية، الأمر الذي قد يتسبب باتخاذ البنوك المركزية إجراءات أكثر تشدداً حيال السياسة النقدية.

لعل المحفزات التي تقدمها الولايات المتحدة لحلفائها الأوربيين، للتحول عن مصادر الطاقة الروسية إلى مصدرين آخرين، تحتاج إلى المزيد من الوقت والإجراءات الاقتصادية والتجارية والقانونية، وإن تعطيل الإمدادات الروسية من الطاقة إلى أوروبا، سيكون كفيلاً بخلق حالة من الاختلالات الاقتصادية المتفاقمة داخل دول الاتحاد الأوربي، ستكون لها نتائج كارثية على اقتصاداتها، من ارتفاع في معدلات التضخم، وفقدان الوقود، وارتفاع أسعاره، وتراجع القدرة الإنتاجية للمعامل والمصانع، وتضرر القطاع الزراعي، وبالتالي تهديد الأمن الغذائي الأوروبي، والمزيد من معدلات البطالة، وبالنتيجة تراجع معدلات النمو الاقتصادي؛ كل ذلك سيخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، التي يمكن أن تقود إلى احتجاجات اجتماعية، لأنها ستؤثر على الوضع المعيشي للأفراد والعائلات الأوربية، التي بدورها ستلحق بالحكومات القائمة آثاراً سلبية، في سياق استمراريتها في الحكم، أو في سياق إعادة انتخابها لاحقاً.

لذلك، كان ملاحظاً تماماً أن العقوبات الاقتصادية طالت قدرة البنك المركزي الروسي على تحريك أرصدته الدولية، والعديد من البنوك الروسية الأخرى، الأقل مشاركة في معاملات الطاقة بين روسيا والدول الأوربية، حتى لا تنعكس تلك العقوبات مباشرة على واردات الطاقة الأوروبية، إضافة إلى أن دولة كألمانيا، التي تعتبر القوة الاقتصادية الأولى في الاتحاد الأوربي، تعتمد على روسيا في تأمين ثلثي احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وهي لذلك أمنت سيولة مالية كافية لتسديد فواتير الطاقة الروسية، بعد استبعاد روسيا من نظام سويفت العالمي.

آثار انقطاع عائدات الطاقة عن الموازنة الروسية

في السياق ذاته، وإذا ما ارتأت الدول الأوروبية الاستغناء عن إمدادات روسيا الطاقية إلى بلدانهم، والتحول إلى مصدرين آخرين، كقطر، والجزائر، والولايات المتحدة الأمريكية، وتخلي اليابان عن جزء من وارداتها الطاقية لصالح الدول الأوربية (وهو السيناريو الأمريكي المقترح لرفع الهيمنة الروسية عن الدول الأوربية في مجال الطاقة) على الرغم من صعوبة الاستغناء بشكل فوري، وعلى المدى القصير عن واردات الطاقة الروسية، ولكن إن حدث مثل هذا الأمر، فلا شك أنه سيصيب الاقتصاد الروسي بكارثة حقيقية، إذ تعتمد روسيا على عائدات الطاقة، لتمويل أكثر من 50% من موازنتها العامة، ولتأمين احتياجاتها من القطع الأجنبي، لتمويل مستورداتها من الخارج، وذلك من خلال تصدير النفط، كثاني دولة في العالم بعد السعودية (8.4 مليون برميل يومياً وسطي عام 2019)، وتصدير الغاز كأول دولة في العالم (260 مليار متر مكعب عام 2019)، وكثالث مصدّر للفحم الحجري في العالم بعد أستراليا وإندونيسيا[3]

إن انقطاع هذا الكم الهائل من العائدات المالية بالقطع الأجنبي عن الاقتصاد الروسي، سيدفع به إلى المزيد من المديونية العامة، ويصيب موازنته بعجز بنيوي، يصعب تعويضه من أية مصادر أخرى، الأمر الذي سيتسبب في تراجع قيمة الروبل، وفقدانه للمزيد من قيمته المتهالكة أصلاً، مما سيخلق محفزات إضافية للتضخم، ويدفع باتجاه تآكل الدخول للأفراد والمنظمات والحكومة معاً، ويُدخل الاقتصاد في حالة ركود اقتصادي حقيقي، تتراجع معه معدلات النمو الاقتصادي، وستكون له نتائج سلبية كبيرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

إذا ما أضفنا إلى هذا السيناريو، تداعيات العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى على الاقتصاد الروسي، والتي استهدفت بالدرجة الأولى تعطيل حالة التبادل التجاري مع روسيا، وشل حركة بنوكها وأسواقها المالية، فإن ذلك سيكون كفيلاً بتدمير الاقتصاد الروسي، وإدخاله في حالة الركود الاقتصادي، مع كل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.

وتبقى موسكو في هذه الحالة أمام سيناريوين، أحلاهما مر، فالإبقاء على تزويد الدول الأوروبية بالطاقة، في ظل استمرار عقوبات الأخيرة المشددة على روسيا لفترة طويلة، لن يكون أمراً مقبولاً بالنسبة للقيادة الروسية، وقد تستخدم عملية التهديد بقطع تلك الإمدادات، كوسيلة تجبر دول الاتحاد الأوربي إلى التراجع، ولو عن جزء من تلك العقوبات.

أما إذا فكرت موسكو بقطع تلك الإمدادات بشكل نهائي، كخيار ثاني، فالأمر سينعكس بشكل تدميري على الاقتصاد الروسي أولاً، وكذلك على اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي ثانياً، بسبب الاعتماد التجاري المتبادل بين الطرفينن وحاجة كل منهما للآخر؛ فمن جهة يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى الطاقة الروسية للتدفئة، ولتشغيل اقتصاداتها، ومن جهة ثانية تحتاج روسيا إلى المنتجات والمواد التقنية والتكنولوجية المتطورة من أوروبا، والعديد من مكونات الإنتاج الصناعي والسلعي لديها.

سيناريو قطع روسيا لإمدادات الطاقة

لا يشكل الاقتصاد الروسي أكثر من 2% من حجم الاقتصاد العالمي، مقابل نحو 45% التي يمثلها الاقتصادين الأمريكي ودول الاتحاد الأوربي مجتمعة، وعلى الرغم من ذلك، فقد تؤدي أية عقوبات اقتصادية صارخة بحق موسكو، إلى خلق فوضى مصرفية عالمية، وانكماش في الاقتصادات الأوروبية بالدرجة الأولى، يضاف إلى ذلك خلق حالة من الهلع داخل أسواق الطاقة العالمية، فيما إذا تصرفت موسكو وفق رد فعل سلبي، وقامت بقطع إمدادات الطاقة عن الدول الأوربية.

إن مثل هذا السيناريو إذا ما حصل، فإنه كفيل بإشعال أسواق الطاقة في أوروبا خصوصاً، وفي العالم عموماً، ستكون نتيجته ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار موارد الطاقة، وخاصة النفط والغاز، الأمر الذي سينعكس ارتفاعاً في مستويات أسعار مختلف السلع والمواد، وخاصة الغذائية منها، إضافة إلى ارتفاع أسعار الخدمات، وخاصة في قطاع النقل والمواصلات، وتكلفة التدفئة في القطاع المنزلي.

يعاني الاقتصاد العالمي، ومنذ بداية النصف الأول من العام 2021، من ارتفاع معدلات التضخم، بعد تداعيات أزمة كورونا الاقتصادية، الأمر الذي كان يهدّد بدخول معظم الاقتصادات العالمية إلى الوضع الانكماشي، بعد توجه معظم المصارف المركزية، وخاصة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والمركزي الأوروبي، إلى اتخاذ تدابير تشددية في السياسات المالية والنقدية، خلال الفترة الحالية، حيث كان من المقرر أن يرفع البنك الأمريكي معدل الفائدة بمقدار 25% نقطة مئوية، بعد ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية، لم تشهدها الولايات المتحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

وبالاستناد إلى ذلك، فإن أية خطوات تصعيدية من جانب الدول الغربية، من خلال فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وخاصة إذا ما وصلت إلى قطاع الطاقة، فإن من شأنها أن تدفع بمعدلات التضخم الاقتصادي العالمي نحو مستويات قياسية جديدة، ستصبح الدول الغربية – على أثرها – مجبرة على تطبيق السياسات الاقتصادية الانكماشية، وبالتالي تراجع في مستويات الاستثمار، والتوظيف، وحجم العرض الكلي، فضلاً عن ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبالتالي أسعار السلع والمواد الاستهلاكية.

الحرب الروسية الأوكرانية تهدد الأمن الغذائي الأوروبي

تشكل كل من روسيا وأوكرانيا معاً، سلة غذائية عالمية حقيقية، وخاصة في مجال تصدير القمح، حيث تحتل روسيا المرتبة الأولى عالمياً، بكميات وصلت إلى 32 مليون طن تقريباً عام 2019، في حين جاءت أوكرانيا في المرتبة الخامسة عالمياً، بكميات وصلت إلى نحو 14 مليون طن في العام نفسه. وبلغت مجموع صادرات البلدين من الحبوب، بكافة أنواعها، خلال العام المذكور حوالي 82 مليون طن[4]. يضاف إلى ذلك، بأن روسيا تصدر العديد من المعادن الخام، كالألمنيوم، والنيكل، وسواهم.

إن استمرار العمليات القتالية، وتشديد إجراءات العقوبات، التي تُفرض تباعاً على روسيا، سيؤدي – ولا شك – إلى نقص في إمدادات القمح والذرة، والعديد من أنواع الحبوب الأخرى، إلى الأسواق العالمية عموماً، والأوروبية خصوصاً، مما سيهدد الأمن الغذائي في أوروبا، نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، الأمر الذي سيصيب القدرات الشرائية للأفراد والعائلات، وحتى منظمات الأعمال الإنتاجية، التي تعتمد على الحبوب كمادة أولية رئيسية، كلها ستتعرض قدراتها للانخفاض، ويضع على كاهلها مزيداً من الأعباء المالية، سواءً في جهة الاستهلاكن بالنسبة للمستهلكين النهائيين، أو في جهة تكلفة الإنتاج بالنسبة للمنتجين.

وحيث تُعدُّ أوكرانيا “سلة الخبز الأوروبية”، فإن توقف الإمدادات منها إلى دول الاتحاد الأوروبي، سيرفع من أسعار العديد من السلع الغذائية الأساسية في أسواقها، ويدفع باتجاه زيادة الاعتماد على أستراليا، لتعويض النقص الذي سيحصل، ولكن ذلك يعتريه الكثير من المشكلات على صعيد سلاسل التوريد، وكميات الشحنات، وارتفاع التكاليف؛ هذه المشكلات القائمة بالأساس منذ بداية عام 2021، والتي تسببت بنقص العرض، وبالتالي أحدثت ارتفاعات مستمرة في الاقتصاد، وتسببت في رفع معدل التضخم داخل الاقتصادات العالمية، ومنها اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي.

البنوك الروسية ونظام سويفت العالمي

الآن، إذا ما تم استبعاد البنوك الروسية من نظام سويفت المالي، الذي يضمّ قرابة 300 مصرف روسي، ويستخدمه 11 ألف بنك في جميع أنحاء العالم، من أجل تحويل الأموال بسرعة وأمان، فإن ذلك كفيل بفلتان الأسعار على صعيد الاقتصاد العالمي، سيكون له آثار تضخمية عالية، قد تحدث استقطاباً اقتصادياً دولياً، من طرف يضم روسيا وشركائها من خارج المنظومة الغربية، ومن الطرف الآخر الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيون، الأمر الذي قد يحدث اختلالات بنيوية في هيكلية التجارة الدولية.

لذلك، لم يتم حتى الآن سوى تعليق عمل سبعة بنوك روسية داخل نظام سويفت، من دون قرار استبعاد أي منها، ولم تضم تلك البنوك كبرى البنوك الروسية، كغاز بروم بنك المسؤول عن التسويات المالية لصفقات تجارة الطاقة.

ما قد يستخدمه الأوربيون والأمريكيون ضد قطاع الطاقة الروسي، هو فرض عقوبات بعدم السماح بإمداد روسيا بالمستلزمات، والتقنيات، والأدوات الحديثة واللازمة للتعمير أو الصيانة المستمرة أو قطع التبديل، وهذا سيؤثر بلا شك على مستوى الأداء، وإنتاجية العمل في هذا القطاع الحيوي والهام لكلا الطرفين.

ما يعول عليه الغرب بشكل عام، هو أن حجم الاقتصاد الروسي لا يمثل نسبة عالية من الاقتصاد العالمي، والذي لا يصل إلى 2% فقط منه، وبالتالي يبررون عقوباتهم بأن ارتداداتها على الاقتصاد العالمي سوف تكون بسيطة وآنية، يمكن إيجاد بدائل لتغطية النقص في المجالات التي ستصبح فارغة بغياب القطاعات الاقتصادية الروسية عنها. ولكن هذا الكلام لا ينطبق أبداً على الاقتصاد الأوروبي، الذي يعتمد بشكل كبير على موارد الطاقة الروسية، والتي تشكل شريان أي اقتصاد كان، إضافة إلى أن آثار تلك العقوبات ستكون مهلكة للاقتصاد الروسي أولاً، كما أشرنا.

آثار التداخل الاقتصادي الروسي والأوربي

يمكن القول، بأنه، وبسبب التداخل الاقتصادي على الصعيد العالمي، ومستويات تقنيات الاتصالات العالية العالمية، وسيطرة الاحتكارات المالية على الاقتصاد العالمي، بتنا نشعر بحجم التكامل الاقتصادي الكبير بين دول العالم قاطبة، وإنّ تعرّض أية دولة لعقوبات اقتصادية، لن تكون ارتداداتها ستقتصر على تلك الدولة فقط، بل ستنعكس على العديد من اقتصادات العالم بشكل سلبي.

في حالة الاقتصاد الروسي، الذي يتمتع بمزايا نسبية كثيرة، منها توافر العديد من الموارد الاقتصادية الرئيسية، وقدراته الإنتاجية العالية في مجال النفط، والغاز، والفحم الحجري، والحبوب، وخاصة القمح، والكثير من المعادن الرئيسية، كالنيكل، والبلاديوم، والألمنيوم، والبلاتين، والحديد الصلب، والنحاس، التي تستخدم في العديد من الصناعات الأساسية في الاقتصادات المتقدمة، وضخامة المساحات الزراعية، وإنتاج المواد الرئيسية، المستخدمة في عملية صناعة الأسمدة في العالم، لذلك فإن الوضع سيكون مختلفاً من حيث ارتدادات هذه العقوبات على الأطراف التجارية المتعاملة مع روسيا، وحتى على صعيد الاقتصاد العالمي، وقد تبلغ هذه الآثار من القسوة ما يطيح بحكومات بعض الدول الغربية، بسبب الحالة الديمقراطية التي تعيشها هذه البلدان، على عكس دولة كروسيا.

خسائر اقتصادية بالجملة نتيجة الحرب

العمليات العسكرية نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، أحدثت حرباً أخرى على الصعيد الاقتصادي بين الدول الغربية وروسيا، والتي ستكون آثارها ليست بأقل كارثية من آثار العمليات العسكرية ذاتها، لأنها ستطال دولاً غير مشتركة في الحرب، ودولاً أخرى بعيدة، وأخرى فقيرة، ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية.

لن يخرج أحد من هذه الحرب رابحاً، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، فالعقوبات الاقتصادية على دولة كروسيا، التي لها تداخلاتها الاقتصادية مع معظم دول العالم، لن تقتصر آثارها على إلحاق الأذى بالاقتصاد الروسي، بمعزل عن اقتصادات الدول الغربية، لأن التحدي الأكبر هو تأمين موارد الطاقة داخل اقتصادات الدول الأوروبية، خاصة إذا ما علمنا أن سرعة تأمين بدائل للموارد الروسية، وخاصة على صعيد الطاقة، فيها الكثير من الصعوبات والمشكلات المتعددة، لأن قطر المرشحة لسد النقص في إمدادات الغاز إلى أوروبا – إذا ما استغنت الأخيرة عن الغاز الروسي – واصلة إلى حد التشغيل الأعظمي لطاقتها الإنتاجية في مجال الغاز، ومرتبطة بعقود والتزامات مع العديد من دول العالم، قد لا تكون قادرة على تعويض كامل النقص، مع الأخذ بالحسبان ارتفاع التكاليف المرافقة لعملية التحول تجاه قطر، أو أية دول أخرى. كذلك الأمر بالنسبة للمملكة العربية السعودية، والدور الذي يمكن أن تقوم به في سوق النفط العالمي.

إن تشديد العقوبات على روسيا، سيضر بشكل كبير بالاقتصاد الألماني بالدرجة الأولى، كأول اقتصاد ضمن منطقة اليورو، وبسبب حجم التعاملات الكبيرة مع روسيا، وخاصة في مجال واردات الطاقة، مثل هذا الأمر قد ينعكس بشكل مباشر على الاقتصاد الصيني، الذي يتميز بعلاقات وصفقات تجارية كبيرة مع ألمانيا، على صعيد الاستيراد والتصدير، وإنّ تضرر هذه العمليات سيكون له آثاراً وخيمة على الاقتصادات الأوروبية، لما يشكله اقتصاد الصين من أهمية عالية داخل الاقتصاد العالمي، وحجم اقتصادها الكبير.

هل من بدائل للأنظمة المالية القائمة في العالم

بات الكثير من المستثمرين حول العالم يبحثون عن ملآذات آمنة لأموالهم، خوفاً من تمدد الصراع العسكري إلى مواجهات بين أطراف أخرى، وخاصة روسيا ودول حلف الناتو، والتي إن حدثت ستكون مرشحة لاندلاع حرب عالمية ثالثة، لذلك فقد ازداد مستوى الطلب على الذهب، كأكثر الملآذات الآمنة، والذي شهدت أسعاره ارتفاعات متلاحقة خلال الأيام القليلة الماضية، كما ارتفعت قيمة الدولار، والجنيه الإسترليني، واليورو، في بورصات العملات الدولية، مقابل تراجع كبير في قيمة الروبل الروسي.

ما يمكن قوله أخيراً إن تأثيرات الحرب القائمة الآن، ستكلف الاقتصاد العالمي فاتورة عالية، سواءً على صعيد تكاليفها العسكرية المباشرة، أو على صعيد ارتداداتها الاقتصادية، التي لن تقتصر على طرفي الصراع، بل ستمتد إلى مختلف دول العالم. لأن هذه الحرب كشفت مباشرة على “أننا أمام أدوات مالية مؤسسية، لكنها مسيّسة، تتحكم فيها الولايات المتحدة الأمريكية، ما يدفع دولة كالصين إلى استكشاف أدوات بديلة، قد تمثل منافساً حقيقياً وقوياً لأدوات التنظيم المالي للدول الغربية، التي تمثل أحد عناصر القوة لديه في الاقتصاد العالمي”.[5]

[1] عبد الحافظ الصاوي – تعرف على سوق الغاز في العالم من الإنتاج إلى الاستهلاك – الجزيرة نت – 21/2/2022-

[2] European Commission (2022), “EuroStat: From Where Do We Import Energy?”

[3] British Petroleum (2022), “Statistical Review of World Energy 2021, 70th Edition”.

[4] Food and Agriculture Organization (2022), “FAOSTAT Database”.

[5] تشارلوت رولينج – أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز – جريدة الاقتصادية – الأزمة الروسية الأوكرانية تربك المشهد الاقتصادي العالمي 6/2/20222.

زر الذهاب إلى الأعلى