مقالات رأي

داعش بين الواقعية والمؤامرة

لستُ من المؤمنين بنظريات المؤامرة، والتي يجعلُ منها العاجز مشجباً لتعليق عجزه أو فشله أو قِصرَ نظره عليها، بل إن ما يحدث على الأرض هي وقائع تجري نتيجة جملة من الأحداث، وتؤدي إلى نتائج معينة، سواءً أكانت سلبية أو إيجابية.

هل يمكن أن نعتبر رفرفة جناح الفراشة (تأثير الفراشة) مؤامرةً؟، لأن ذلك قد يسبب إعصاراً في أقاصي الأرض، أم أن هناك قوانين طبيعية تتحكم بالأرض، كِدنا أن نسميها فوضى عارمة، لولا أن العلم أثبت أن ذلك يتبع قوانين رياضية محكمة، يمكن تشبيه ما قام به “محمد البوعزيزي” من إحراق جسده، كرفرفة الفراشة التي تسببت في إعصار ما يسمى الربيع العربي، وهنا يكمن قانون التغيير الذي تتغير وفقه الحكومات، وتسقط نتيجته عروش الحكام.

هناك حتى اليوم من يعتقد أن أحداث الربيع العربي كانت نتيجة ً لنظرية المؤامرة التي دبّرها الغرب بليل، رغم أن الغرب نفسه تفاجئ بما حصل في تونس. لكن ما يمكن اثباته أن الغرب أخذ بطرف هذا الخيط (حريق البوعزيزي)، وبدأ يحرّكه حسب مصالحه، وكأنه كان ينتظر ذلك، الغرب ليس ذكياً جداً إلى حد إثارة حدثٍ هائل مثل ما يسمّى بالربيع العربي الذي أطاح برؤساء حكوماتٍ، لم يكن أحدٌ يتوقع أن يسقطوا تباعاً. كل ما في الأمر أن الدول العظمى بدأت بالتدخل كلٌّ حسب مصالحها، ولا شيء غير ذلك!

داعش هو كيان تأسس على إرث إسلامي متشدّد، وهو تنظيم مسلَّح يتبع فكر جماعات السلفية الجهادية، ويرجع تاريخ تأسيس هذا التنظيم الإرهابي إلى قائد تنظيم القاعدة في العراق “أبو مصعب الزرقاوي”، حيث أسس ما سمّي وقتها بـ”جماعة التوحيد والجهاد”، لمواجهة القوات الأمريكية التي عملت على إسقاط نظام صدام حسين الدكتاتوري في العراق عام 2003، مع تعاقب الأحداث في العراق وسوريا، استطاع التنظيم تطوير نفسه من خلال مختلف المراحل، حيث تمكن – من خلال احتلاله مساحات كبيرة في كلٍّ من البلدين – من تكوين قاعدة استراتيجية إرهابية في المنطقة، حتى بات سبباً رئيسياً لتعزيز “الإسلاموفوبيا” جراء بنيته الإيديولوجية وأساليبه الإرهابية.

وبحلول عام 2006 أعلن الزرقاوي، تأسيس “مجلس شورى المجاهدين” بغرض توحيد كافة الفصائل السنية المسلحة في العراق، إلا أنه قتل في نفس العام من قبل القوات الأمريكية، وحلّ مكانه “أبو عمر البغدادي”، الذي أعلن بدوره تغيير اسم “مجلس شورى المجاهدين”، ليكون “دولة العراق الإسلامية”، وحارب الفصائل العراقية السنّية التي لم توالِ التنظيم بعد توجيهه لها دعوة لمبايعة الكيان الجديد.

وباتباع التنظيم نهجاً انتقامياً متشدداً، باستهداف كل من ينتسب للجيش والشرطة العراقية، وقيامه بعمليات انتحارية تستهدف المدنيين في الأسواق، صدرت ردود أفعال ضدّ التنظيم، من قبل الفصائل الأخرى التي تقاتل قوات الولايات المتحدة فقط بصفتها “محتلّة“.

وفي هذا الإطار استمر “أبو عمر البغدادي”، في قتال الفصائل الأخرى في محاولة منه لإرغامها على مبايعة “دولة العراق الإسلامية”، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف التنظيم نتيجة الاشتباكات.

حلَّ “أبو بكر البغدادي” مكان “أبو عمر البغدادي”، عقب إعلان الولايات المتحدة، مقتل الأخير في عملية عسكرية للقوات الأمريكية عام 2010، وسارَ الأول على طريق سلفه في أعمال “الإرهاب“.

ومع تحوّل الأزمة السورية إلى حرب أهلية، انشقّ “أبو محمد الجولاني” (سوريّ الجنسية)، أحد مساعدي أبو بكر البغدادي، عن ما سمّي بـ”الدولة الإسلامية في العراق”، مع مجموعة من السوريين الآخرين وأسّس “جبهة النصرة”، داخل الأراضي السورية، لتنخرط في العمليات المسلحّة مع الفصائل الأخرى ضد قوات النظام.

من خلال السرد السابق لتطوّر هذا التنظيم الإرهابي يبدو جلياً أن داعش له فكرٌ وإيديولوجية تأسس عليها، وليس حالة طارئة قام بصناعتها النظام السوري أو التركي أو غيره، رغم أنه ساهم – بشكلٍ غير مباشر – في التغطية على جرائم الكيانات الأخرى نتيجة المجازر والقتل الدموي الذي قام به.

إن أفول نجم التنظيم، بعد أن دخلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى آخر معاقله في الباغوز عام 2019، واعتقال ما تبقّي منهم، لم يكن يعني أن القضاء قد تم بشكل كامل عسكرياً، بل تراجع التنظيم إلى البادية السورية الممتدة بين محافظتي حمص (وسط) ودير الزور (شرق) عند الحدود مع العراق، حيث تحصّن مقاتلوه في مناطق جبلية، هذا بالإضافة إلى ايديولوجيته القائمة، والتي كانت لا تزال تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يدافع عنها أنصاره بشراسة واضحة.

في شمال وشرق سوريا دخلت الأوضاع حالة من الرتابة المملة بعد الباغوز، خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانتصار العسكري على داعش.

يكتب “ريتشارد سبنسر” في صحيفة التايمز، قائلاً أن قرار الرئيس الأمريكي بسحب نصف القوات البرية الأمريكية الضئيلة والتي يبلغ عددها 2000، والتي كانت تساعد في حراسة منطقة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، كان من أهم العوامل التي ساعدت داعش على العودة مجدداً.

في نفس السياق، يقول “سبنسر” أدارت بريطانيا ودول أوروبية أخرى ظهورها، ورفضت السماح للإرهابيين أو زوجاتهم وأراملهم بالعودة إلى ديارهم لمواجهة المحاكمة، وسرَى الأمر على دول أخرى، بلغت الـ 50 دولة.

من ناحيتها، ساهمت تركيا في دعم التنظيم، سواءً بشكلٍ مباشر، أو عن طريق إضعاف قوات سوريا الديمقراطية، وذلك من خلال الاستمرار في مهاجمة واحتلال الأراضي التي تقع تحت سيطرة (قسد)، كما ساهم الروس أيضاً في الأزمة، عن طريق إفقار شمال شرق سوريا، من خلال استخدام حق النقض ضد مساعدات الأمم المتحدة عبر الحدود.

إن عملية الافقار والإضعاف التي قامت بها الدول الفاعلة في الأزمة السورية تجاه شمال وشرق سوريا انعكس سلباً على كافة مؤسسات الإدارة الذاتية، بما فيه العمل الاستخباراتي، والذي يقع على كاهله مسؤولية عدم القدرة على كشف مخطط داعش للسيطرة على سجن الصناعة، والذي راح ضحيته الكثيرين من الأبرياء.

كل ذلك ساهم – بشكل أو بآخر-  في العودة التدريجية للتنظيم المتطرف من جديد، عن طريق لملمة نفسه مرة أخرى، والتفكير في الهجوم على سجن الصناعة في الحسكة، لتحرير أنصاره، وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد. ولن ننسى أن بعض قوانين الإدارة الذاتية أيضاً ساهمت في ارتكاب هكذا جرائم، فإلغاء عقوبة الإعدام في منطقة غير مستقرة وغير معترفة بها دولياً، وتعيش على صفيح ساخن – رغم حضاريّته – إلا إنه يساهم في بقاء القتلة، وامكانية تحريرهم يوماً ما.

إن تطويق سجن الصناعة، والسيطرة عليه من قبل قوات سوريا الديمقراطية، لا يعني أبداً أن احتمالية تكرار ذلك لن يحدث، بل يجب البحث عن طرق بديلة لمكافحة الفكر الإرهابي، بعد أن أثبتت خطط التأهيل فشلها، وإن كان سجن الصناعة يحتوي على نحو 3500 سجين من عناصر وقيادات تنظيم داعش، فإن مخيّم الهول يُعتبر مدينة كاملة قائمة، أو دولة داعشية مصغّرة، ويضمُّ ما يقدّر بنحو 70 ألف شخص، من بينهم أكثر من 40 ألف طفل، ويتم فيه الكثير من الجرائم التي ترتكز إلى الفكر الداعشي، وآخرها مقتل مسعف في “الهلال الأحمر الكردي” على يد خلايا “داعش” داخل المخيم، حيث قام عنصران من “داعش” بالدخول إلى  النقطة الطبية التابعة للهلال في المخيم، عبر انتحال شخصية مرضى، وأطلقا الرصاص من سلاح مزوّد بكاتم للصوت، باتجاه الضحية؛ هذه الجرأة في تنفيذ الجريمة يقف وراءها الكثير من الأسباب، إحداها هي إلغاء عقوبة الإعدام.

الواقعية كثيراً ما تكشف الحقائق،  استفادت تركيا من منهجية داعش الفكرية في الكثير من مشاريعها في المنطقة، ومنها سوريا وتحديداً شمال وشرق سوريا، وأن هذا الحدث كان جزءاً من تلك الحقيقة التي تؤكد تورط تركيا في دعم داعش،وهذا يندرج على غيرها من الدول الإقليمية والدولية.

الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تعيش على صفيح ساخن، وبين مجموعة من الذئاب، كلٌّ يحاول أن ينهش بها من طرفه إذا سنحت له الفرصة، وهذا ما يوجب التيقظ التام، للوصول بالمنطقة إلى بر الأمان.

زر الذهاب إلى الأعلى