مقالات رأي

الحاضر وتقديس الماضي

التراث/التاريخ شأنٌ بشريٌّ، صانعوه بشرٌ، ومحتواه الفكريّ نتاجٌ بشريّ، ولذا فإنه، بداهةً، يحمل طابع النقص، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال اعتباره ميزاناً كافياً لقياس صوابية التفكير والسلوك الحاضرين أو عدم صوابيتهما، فالاحتكام إلى حكم التراث/ الماضي في القضايا الحاضرة، يعني قتل الحاضر بجميع مفرداتهِ، فكراً وسلوكاً، ويعني إيقاف ساعة الزمن، ولذا فإنّ محلّ التراث في الحاضر ينبغي أن يكون الاستفادة والاحترام، وليس الحكم والتقديس.

لكلّ مرحلةٍ زمنيةٍ ظروفها، وشخوصها، ومتطلباتها، وسُلطاتها، وطرائق تفكيرها، وكيفيات حكمها في المسائل الرائجة بالصواب والخطأ، إضافةً إلى أنّ لكلّ مرحلةٍ مستحدثاتها وأسئلتها التي قد لا تكون باستطاعة مجمل المعارف والتجارب السابقة الإجابة عنها بصورةٍ منطقيةٍ مقبولة، وهو ما يعني أنّ عقلَ المرحلة يشكّل المرجع الرئيس لبحثِ أسئلة الحاضر ومتطلباته، من دونِ أن يعني ذلك إلغاء أهمية التراث ودوره، لكن يُفترض أن يقتصر هذا الدور على كونه تراثاً لا أكثر، وبغير هذا الفصل بين الأدوار يفقد كلّ من الحاضر والتراث معناهما وقيمتهما.

إنّ النظر بعين الناقد إلى التراث/ الماضي كنتاجٍ بشريّ، وإلى شخوص هذا الماضي كبشرٍ معرّضين للخطأ، يعدّ الخطوة الأولى في بناء العقلية الحاضرة التي يمكن أن تكون أساساً ناجحاً لبناء عقلية المستقبل، ومن دون النظرة النقديّة لهذا التراث، فإنّ المعادلة تتحوّل من مجرّد نتاجٍ بشريٍّ متراكم للاستفادة والعبرة إلى نتاجٍ مسوّرٍ بالقداسة التي لا تقبل النقاش بأيِّ شكلٍ من الأشكال، خصوصاً في المجتمعاتِ المتديّنة (الإسلاميّة تحديداً) التي لا تستطيع بسهولة فصل الدين عن التراث.

تشكّل هذه الصعوبة؛ أي الفصل بين ما هو دينيّ/ سماويّ وما هو تراثيّ/ تاريخيّ، إحدى أهم مشكلات الحاضر الإسلاميّ، وقد خلق هذا الخلط بين المحورين عقليةً غير قادرةٍ على توجيه أيّ نقدٍ لأيّ زاويةٍ من زوايا التراث المتعلّق بالدين، معتقدةً أن أيّ ضربٍ من ضروب النقد في هذا الشأن قد يستوجب عقاباً في يوم الحساب، كأن يتم نقد عالمٍ من علماء الدين أو نتاجاته واجتهاداته وشروحاته وتفاسيره، أو أن يتم نقد حقبةٍ إسلاميّة معينة، وكأن هذا العالِم وتلك الحقبة معصومانِ ومرتبطانِ بالوحي ربطاً مباشراً.

هذه العقلية التي تقدّس ما هو غير مقدّس، حوّلت الماضي/التاريخ الإسلامي إلى جزءٍ من الدين، بل إنّها- وفقاً لقراءة الواقع- تعيشُ هذا التاريخ بتفاصيله أكثر مما تعيش الدين نفسه، وهي نتيجةً لذلك لا تستطيع الإيمان بقدرة الحاضر على إنجاب عقولٍ إسلامية توازي قدرة عقولٍ ظهرت في العالم الإسلامي قبل نحو 600 عام، كما أنّها لا تستطيع الإيمان بتفسيرٍ جديدٍ لآيةٍ قرآنية فسّرها عالمُ دينٍ قبل قرونٍ خلت، فهذه العقلية متوقّفة زمنياً، وتحاولُ إيقاف مبدأ الاستمرارية، وكذلك إيقاف مطلقية النصّ القرآني، عبر تقيّده بمعنى أو تفسيرٍ محدّدٍ لا يقبل التجديد.

إنَّ هذه العقلية المخدَّرة والمخدِّرة في الوقت نفسه، تسعى بكلّ ما لديها من وسائل إلى تجميد الحياة عبر فرض سلطان الماضي/ حكم الأموات على الأحياء والحاضر، فهي تريدُ للموتى أن يشقّوا للأحياءِ طريقهم في فهم قضاياهم، ومعاملاتهم، وكيفية تعاطيهم مع حاضرهم، وإذا ما تعلّق الأمر بالمستقبل، فإنّها تطرح نموذجاً من نماذج الماضي على أنّه الأفضل والأصلح، وإذا ما طرح الحاضر إشكاليةً ما أو مسألةً مستحدثة، فإنّ هذه العقلية سرعان ما تلجأ إلى الماضي باحثةً عن سندٍ أو حديثٍ أو رأيٍّ أو شرحٍ لآيةٍ ما، بخصوص ما هو مطروح، وإن لم يكن السند موجوداً، فإنّ ما هو مطروح يصبح في عِداد التهميش والرفض والإلغاء.

فالحاضرَ بمختلف توجّهاته واتجاهاته ليسَ إلا «لغوا» في نظر أصحاب هذه الذهنية الماضوية، الذين يعيشون وهم امتلاك الحقيقة، فلا يستمعون إلى جديدٍ ولا إلى جديدٍ في قديم، كون العالم في نظرهم محسومٌ بأختام قدوة الماضي.. إنّهم -في الحقيقة- مشوّهو ومشوّهي الوعي، يحرسون لصالح الظلام والجمود، لا يثقون بالعقل ومنتجاته، يغرّدون لحقبٍ لم تعد موجودة إلا في أذهانهم، والحياة بالنسبة إليهم تسير نحو الخلف وليس الأمام، وبصيغة أخرى: لا معنى للأمام إن لم يكن خلفاً!، ولا معنى للحاضر إن لم يكن يرتدي عباءة الماضي ويتنفس برئتيه وينبض بقلبه ويمشي بقدميه.

بالتأكيد، منْ لا يسبح بحثاً ونقداً ودراسةً في ماضيه وتراثه لا يؤسّس لأيّ مستقبل، لكن في المقابل، منْ يقدّم نفسه كعبدٍ أو أسيرٍ لهذا التراث وشخوصه، فهو أيضاً لا يؤسّس لأيّ مستقبل، بل يقف عائقاً أمام حركة الحياة.. إنّ الحاضر المتقدّم هو نتاج دراسة الماضي ونقده، والمستقبل المتقدّم هو نتاج دراسة الحاضر ونقده، وبدون هذه الدراسة والنقد، لا أملَ في غدٍ أفضل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى