مقالات رأي

ظاهرة الفساد في السياقين الاقتصادي والإداري

يُعدّ الفساد مرضاً مقيتاً، يصعب مقاومته، بعد أن يدخل في الجسد الإداري والمالي للدولة. لذلك لا بد من مكافحته وهو ما يزال في المهد، لأنه يصبح من الصعوبة بمكان معالجته ومحاربته، إذا ما تمدد، ونشأت له أذرع وشبكات وحلقات، قد تصبح عصية على العلاج قبل الحديث عن القضاء عليها. وفي سياق المشروعات الاقتصادية، فإن سيادة ثقافة الفساد تعد إحدى أصعب المعضلات التي يمكن أن تعاني منها هذه المشروعات خاصة، والبنية الاقتصادية ومكوناتها عامة. ذلك أن الفساد يرفع من التكاليف الكلية للاقتصاد الوطني، ويعيق تحسن وتطور الاستثمار العام والخاص ويرفع من تكاليفه، مما يقود إلى الإضرار بنوعية وجودة المنتجات من جهة وارتفاع أسعارها من جهة ثانية، فيلحق ضرراً حقيقياً بالقدرات الشرائية للأفراد، ويزيد من أعبائهم المالية والمعيشية.

وفي السياق الإداري، وما يزيد في الجوانب السلبية التي تفرزها ظاهرة انتشار الفساد، في المؤسسات الإدارية، هو فقدان الأفراد للثقة بتلك المؤسسات وبقدراتها الإدارية والتنظيمية، الأمر الذي يدفع بهم إلى اتباع المزيد من الأساليب الملتوية والتحايُلّية لتمرير معاملاتهم أو تراخيص منشآتهم وسواها، وبالتالي يُفتَح المجال واسعاً للمزيد من الفوضى الإدارية، وانعدام القدرة على المتابعة والرقابة والتقييم ووضع الخطط الاقتصادية المستقبلية السليمة، خاصة في الجانب الاستثماري والإنتاجي.

   ويتفق معظم الباحثين في هذا المجال، على كون الفساد هو استخدام الشخص السلطة الممنوحة له، لتحقيق مكاسب خاصة، وقد ينتشر في الجهاز الإداري والوظيفي، فيُنْشئ علاقات مشتتة في بنية المجتمع الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، لأن تأثيرات الفساد ليست آنية فحسب بل تتلقف الأجيال اللاحقة الفساد كظاهرة متغلغلة في بنية المجتمع، وبالتالي لا تستطيع فصلها عنه، ولن تراها غريبة فتتعايش معها، وبالنتيجة كل ذلك سيدفع باتجاه تفسخ النسيج القيمي والأخلاقي للمجتمع ويذهب بهيبة مؤسساته الإدارية والقانونية.

ولا يقتصر الفساد على عمليات الاختلاس أو استخدام النفوذ السلطوي لتحقيق مكاسب خاصة على حساب المنفعة العامة، بل تتعداها إلى قنوات أخرى غير ملموسة لا تقل آثارها عن تلك الأشكال الملموسة للفساد. فعندما يغيب التنسيق عن داخل الجهاز الإداري للدولة، وتعمل مؤسساتها بشبه استقلالية عن بعضها، يصبح رأس الهرم الإداري أو صاحب القرار الأول في أيةٍ من تلك المؤسسات قادراً على استخدام نفوذه دون رقابة أو تقييم، مما قد يحدث شرخاً إدارياً بين مؤسسات الجهاز قاطبة، قد تصل لمرحلة التعارض في السياسات والآليات التي يتم تطبيقها وتلحق بالنتيجة الضرر بالمجتمع.

جانب آخر في الفساد يتمثل بتعيين أشخاص لإدارة مؤسسات الجهاز الحكومي من أولئك الذين لا يملكون المؤهلات الإدارية والعلمية الكافية، والذين قد خرجوا للتو من “القمقم الاجتماعي” على حد تعبير الدكتور سامي الخيمي، وتأتي تلك التعيينات لكسب الولاءات أو خلق أتباع مريدين لهم لن يشكلوا في المستقبل خطراً إدارياً عليهم. وبالتالي تطبق مقولة الرجل غير المناسب في المكان المناسب، وهذا ما يلحق أضراراً حقيقية بالبنية الإدارية والقانونية لهذه المؤسسات، ويدفع باتجاه تحقيق المصالح والمنافع الخاصة لهم ولمن قام بتعيينهم، مما يؤدي إلى اتباع سلوكيات غير شرعية في مسائل المناقصات والصفقات التجارية من جهة، ومن جهة ثانية يُفقد المؤسسة وظيفتها الرئيسية التي وجدت بالأساس لتأديتها، فالكوادر الإدارية غير المؤهلة لن تستطيع القيام بعمل منتج حقيقي، ولا بتطوير المؤسسة، ودفعها باتجاه تأدية وظيفتها العامة الرئيسية كما أشرت.

الصورة الأوضح لحالات الفساد المنتشرة في البلدان المتخلفة، والتي نستطيع القول بأنها صور بدائية له، تتمثل في أنه يستطيع صاحب مشروع ما الحصول الموافقة أو الترخيص اللازم لمشروعه حسب الأصول، على الرغم من أن الأوراق والثبوتيات المطلوبة قد تكون ناقصة. أو عندما ترسي مناقصة تابعة لجهة عامة على أحد المقاولين نتيجة استخدام نفوذ معين، سواءً أكان سلطوياً أو مرتبطاً بعلاقات شخصية. وهذا مؤشر واضح على “كون الجهاز الإداري والقانوني الرسمي قد فقد وظيفته لصالح الجهاز الاجتماعي غير الرسمي، وبالتالي فقد أسيء استخدام السلطة والقانون من قبل أشخاص مخولين بها لتحقيق منافع خاصة، قد تكون على حساب العناصر الأخرى، كالتكلفة والنوعية والتوريد، وباقي الاعتبارات الاقتصادية والقانونية للمشروع؛ عند إعطاء الموافقة والتراخيص للمشاريع أو العقود، وبالتالي يمكن أن ترسي بعض العقود على أشخاص أو موردين أو مقاولين غير مناسبين، أو حتى توريد سلع غير مناسبة” كما وضحها الدكتور محمد فاضل الياسري في تقديمه ظاهرة الفساد.

وهنا يتم إعطاء الأولوية للتوريدات والمشروعات غير المجدية للاقتصاد والمجتمع، فتزيد من حالة الاستقطاب المجتمعي، نتيجة تحقق ريوع عالية للبعض غير مرتبطة بمستويات الإنتاج. كما سيؤدي ذلك أيضاً إلى ارتفاع معدلات البطالة، والفقر، بسبب تركز الثروة بأيدي تلك الفئة القليلة المتنفذة، والقادرة على استغلال الظروف الأنشطة الاقتصادية بمختلف جوانبها لمصالحها الفردية، مما يدفع باتجاه سيادة القيم المتفسخة، ويرسم لوحة أمام الشباب الصاعد، بأن الطرق والأساليب الملتوية المتعلقة بالفساد بطريقة أو بأخرى، هي التي تحقق لهم آمالهم المستقبلية، فيبتعدون عن بناء شخصيتهم العلمية المؤهلة صاحبة الكفاءة، والمتعلقة بفكرة ضرورة العمل والإنتاج لبناء مجتمع سليم. 

وتزداد المسألة سوءاً، عندما تسود وتتعمق ثقافة التعايش مع الفساد، واعتبارها جزءاً من ضرورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والارتقاء على السلم المجتمعي بدلاً من زيادة المستوى التعليمي، ومحاولة اكتساب الكفاءة والمؤهلات كما أشرنا، وهنا يقول رئيس زيمبابوي روبرت موغابي “كيف لنا ان نقنع الجيل الجديد بأن التعليم هو مفتاح النجاح، إذا كنا محاطين بخريجين فقراء، ولصوص أغنياء”.

عندها يصبح الفساد ليس فقط عائقاً في طريق تحقيق معدلات نمو عالية، وإنما مفشلاً لها بذات الوقت، لنغوص أكثر في وحل التخلف، ونبتعد أكثر فأكثر عن تحقيق التنمية المنشودة.

زر الذهاب إلى الأعلى