قضايا راهنة

وقع نتائج الانتخابات التركية على الداخل والخارج

إنّ نتائج التصويت لصالح تحالف الشعب في الانتخابات التركية لن تجنّب تركيا ما بعد الانتخابات الاضطرابات الداخلية، خاصة المتعلّقة بالقضيّة الكردية، وسجلّها الدموي في مجال حقوق الإنسان، كما ولن تستطيع تركيا التخلّص من مفرزات الانتخابات وأثرها المرتدّ، وذلك نتيجة الوضع المضطرب التي تعيشه الدول المجاورة لتركيا، كسوريا والعراق وإيران، ولن تشهد تركيا بموجبها قيام حكومة قوية مستقرّة تتمتع بصلاحيات واسعة تستطيع من خلالها إحراز أيّ تقدّم في السياسات الخارجية، سواء مع روسيا الضاغطة باستمرار عليها لكسب المزيد من التنازلات، أو مع الطرف الأمريكي الذي يدعم وبشكل علنيّ قوات سوريا الديمقراطية.
اللوحة السياسيّة الجديدة نتيجة هذه الانتخابات ستدفع بتركيا نحو مفترق طرق أحلاها بطعم العلقم، وذلك لأنّ تحالف الشعب الذي ضمّ حزبي الحركة القومية والعدالة والتنمية، دفع برجب طيب أردوغان لتجاوز عتبة50% القانونية، ومكّنه من الفوز بالانتخابات الرئاسية بنسبة 52.6% هذا الفوز لم يكن ليحصل عليه أردوغان لولا دعم الحركة القومية بزعامة بهتشلي، لأنّ الأخير لم يرشّح منافساً للرئيس التركي، بل طلب من قاعدته الانتخابية المشكّلة من القوميين والمحافظين والمتدينين التصويت لصالح أردوغان.
وأيضا قيام حزب الحركة القومية بإضافة أصواته البرلمانية البالغة نسبتها 11،7 في المائة إلى حصة حزب العدالة والتنمية البالغة 42,6 في المائة ليتمكن أردوغان بذلك من تشكيل ائتلاف يتمتّع بالأغلبية في البرلمان التركي، وبالمحصلة النهائية يكون حزب الحركة القومية هو الفائز الفعلي في هذا الانتخابات، وبالتالي سيتغلغل في مفاصل القرارات التنفيذية والتشريعية للدولة التركية بكلّ سهولة، والأهمّ من ذلك أصبح أردوغان الآن مديناً لهم كثيرا على هذا الإنجاز، مما سيجعل فرص القوميين الاتراك كبيرة بالحصول على مناصب حسّاسة وهامة، مقابل دعمهم المستمر لأردوغان في البرلمان، ومساعدته على إقرار التشريعات الرئيسية التي يسعى للحصول عليها، مما يجعل حزب العدالة والتنمية بزعامة رئيسه أردوغان مقيّداً بشكل كبير، وبين فكّي كماشة، إما الرضوخ لقوميّي الذئاب الرمادية، أو البحث عن إمكانية التعاون والتفاوض مع شركاء آخرين من الأحزاب السياسيّة المتواجدة في البرلمان، وهذا ما سيجعل استمرارية فترة الولاية الدستورية لأردوغان صعبة جدا.
وبالرجوع لجميع المراحل الانتخابية في تركيا نجد بأنّ جميع الحكومات المنتخبة والمدعومة أو المشاركة فيها من قبل حزب الحركة القومية انهارت بعد تعرّضها لأزمات مفتعلة من قبل الأخيرة؛ منها ممارسة الترهيب الجسدي ضدّ الطلاب والباحثين والناشطين والصحفيين اليساريين في نهاية الستينات وبداية السبعينات، وأيضا مشاركة جماعته المسلّحة تحت اسم الذئاب الرمادية ضدّ الانتفاضة الشعبية المطالبة بالحرية والديمقراطية فيما بين عامي 1977 – 1979، وأيضا الأزمة الاقتصادية والسياسية التي مرّت على تركيا بين عامَي 2001 و2002 ، وانسحاب حزب الحركة القومية منها، بسبب رفض الأخير على إلغاء عقوبة الإعدام، وعدم السماح بتداول اللغة الكردية، ومن ثم دعوته إلى إجراء انتخابات مبكرة في ذلك الوقت أوصلت حزب العدالة والتنمية للحكم.
فتاريخ الحركة القومية التركية ونظرته إلى السياسة مشحونة بالعنصرية وذات نزعة دموية وطموحات استبدادية، فعلى صعيد الوضع الداخلي أصبحت التصرّفات الدكتاتورية من قبل حزب العدالة والتنمية سيّدة الموقف، لذلك سيشجع القوميين بناء على ميولهم العنصرية تصرّفات أردوغان المناهضة للديمقراطية، وهذا ما بدا واضحا عندما عارض بهتشلي زعيم القوميين رفع حالة الطوارئ في 26 حزيران/يونيو.
أما بالنسبة للقضيّة الكردية فإنّ نفوذ الحركة القومية في هذه الولاية الدستورية سيكون أكثر هجوميا تجاه القضية الكردية، لأنّه غالبا ما ينفي حزب الحركة القومية وجود هويّة كردية في تركيا، بل لا يعترف بها، وهنا حكما سيطالب القوميون أردوغان باتخاذ موقف أكثر تشدداً فيما يتعلق بالقضية الكردية، واستبعاد الحلّ السياسي لهذا الملف، وربما يصرّ على اتخاذ إجراءات عسكرية أكثر صرامة ضدّ الكرد، ويمكن أن تطلق يد جناحها العسكري “الذئاب الرمادية” على الساحة، وهذا ما سيجعل الوضع الداخلي أكثر تعقيدا، كون القضية الكردية مترابطة فيما بين جميع أجزاء كردستان.
وبكلّ تأكيد ستكون تداعيات هذا الموقف المتشدّد تجاه الوضع الكردي سلبيا على حرّية الحركة لدى أردوغان الذي يحاول التوصل إلى تسوية ولو مؤقتة مع واشنطن، بخصوص منبج وغيرها من المناطق؛ كون الأخيرة اعتمدت وحدات الحماية “الكردية” وقوات سوريا الديمقراطية حلفاء أساسيين لها في محارية تنظيم داعش الإرهابي؛ لذلك سيحاول حزب الحركة القومية إجبار أردوغان للتخلّي عن موقفه من مسالة شرق الفرات، والمطالبة بالتصعيد في تلك المنطقة مما يجعل الخيارات مقيّدة لدى الرئيس التركي بعملية التفاوض مع الجانب الأمريكي، وبناء على هذه المعطيات ستكون ارتدادات هذه المطالبات من قبل القوميين سلبية على العلاقة التركية الأمريكية.
ومن جهة أخرى فتركيا اليوم منقسمة في علاقاتها فيما بين روسيا وأمريكا، فمن جهة يحاول اردوغان إرضاء الروس لضمان كسب أكبر قدر من الامتيازات التي تحدّ من التطلعات الكردية، إلا أن موقف حزب الحركة القومية معاكس تماما لتوجهات أردوغان، وتوضّح هذا الموقف في البيان الصادر عن القوميين الأتراك بتاريخ 27 نوفمبر 2015 عندما اتّهم رئيس حزب الحركة القومية التركي دولت باهجلي روسيا بـارتكاب مجازر بحقّ تركمان سوريا بذريعة محاربة الإرهاب مبديا دعمه للحكومة، من أجل الدفاع عن التركمان ومطالبا تركيا بـالدفاع عنهم حتى النهاية.
لذلك سوف يتشجع بهتشلي على تبنّي سياسة متشدّدة تجاه روسيا في البرلمان، أو عبر السياسية الخارجية، وهذا ما يتعارض مع مواقف أردوغان المنسجمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
فكلّ هذه الاختلافات في التوجّهات والمواقف، وفي رؤية الحلّ فيما بين بهتشلي وأردوغان سيجعل من الاثنين أكثر حذرا تجاه الآخر، ولكن من المعروف عن الرئيس التركي أردوغان بأنّه لا يقبل بالركوع لشريكه السياسي، ومثال على ذلك نجم الدين أربكان وفتح الله غولن وعبد الله غول وأحمد داوود أوغلو وميرال أكشنار، وهنا هل سيقبل أردوغان بهذا الإكراه السياسيّ من قبل حليفه بهتشلي؟ أم أنّه سيرفضه؟
فمن باب الافتراض وإن قبل أردوغان بهذا الإكراه، فهذا يعني اتخاذ مواقف أكثر حدّية وعدائية تجاه روسيا وأمريكا والقضية الكردية، وملف الديمقراطية وحقوق الإنسان وبالتالي فقدان أردوغان لشخصيته الرئاسية تكون نتيجتها دخول تركيا في بحر من الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية
وإن لم يقبل بهذا التسلّط السياسيّ من قبل حليفه، فحكما سيكون بمثابة طلاق سياسيّ سيدفع بالقوميين بالتصرّف بكلّ ما لديهم من قوّة سياسيّة لإفشال أردوغان في البرلمان وخاصة الملفات الاقتصادية، ومنها موضوع مشروع الموازنة التي تشكل العصب الحيوي لقوة أردوغان، وعسكريا ستسعى الحركة القومية عبر إطلاق يد جناحها المسلّح المسمّى بالذئاب الرمادية لإحداث فوضى داخلية تجبِر أردوغان على اتخاذ تصرفات أكثر صرامة تودي بدخول تركيا إلى حرب تصفيات داخلية.
ومن جهة أخرى كون تركيا دخلت مرحلة النظام الرئاسي، فسيتطلب التغيير في شكل الدولة التركيّة لتتناسب مع نظامها الجديد ولإجراء ذلك يتطلب تعديلات دستورية لعرضها على استفتاء عام.
وموضوع الاستفتاء يلزمه تحالف برلماني قوي لإجرائه، فهل سيتمكن الطرفان بالمحافظة على هذا التحالف بالرغم من اختلافهم في جميع القضايا التركية سواء الداخلية أو الخارجية.
وهنا كنتيجة حتميّة لهذه القيود والاحتمالات القاتلة، لن يكون أمام أردوغان إلا خيار واحد، ألا وهو الدعوة لانتخابات مبكرة، وهذا الطرح من المرجّح أن يأتي بعد نجاحه في إقصاء حليفه الذئاب الرمادية من الساحة السياسيّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى