قضايا راهنة

كسر العظمِ الإيراني بساطور روسيّة – تركيّة على وضْمِ الفُرات والبادية والجنوب

تختلط الأوراق على الجغرافية السورية، لإنتاج جديد، يحاول الخالطون من خلاله، فرض ضبابية على المستقبل السوري القريب، في محاولة للخروج بمعاليم أقلّ للمعادلة المطروحة، إذ أنّ كثرة الأيدي أثبتت فشلها في التوصّل لحلّ سياسيّ أو عسكريّ، وهذا ما شهدته سورية منذ العام 2011، فالروس والأمريكان تنبّهوا باكراً لهذا الأمر وعملوا على تقليص الأطراف، إذ أنّه وبعد أن كانت القافلة لا تسير إلا بوجود الجميع، ويتعطّل مسيرها لغياب هذا المعارض السياسيّ أو ذاك، أو تغيّب متعمّد لأي طرف عسكريّ عنها، جاءت الصيغة اللافروفية – الكيرية، أنّ القافلة سائرة، ومن أراد المشاركة فليلتحق بها، وإلا فمقولة علي عبد الله صالح “فاتكم القطار”، ستكون حاضرة في المعادلة السورية.
لم تكن صفقة جنوب العاصمة السورية دمشق، بالصفقة العابرة، بل كانت أساساً لتوجّه جديد، إذ كانت تهدف منذ ما قبل جنوب دمشق حتى، إلى أرضيّة لصراع جديد، طرفاها الأساسيان على أرض القتال هما تنظيم الدولة “الإسلامية” والإيرانيون وأتباعهم، فيما المستفيدون يقفون موقف المشاهِد، بل والمحرّك لكلّ هذه الأحداث السارية من جنوب سوريا وحتى شمالها، وصولاً إلى غرب نهر الفرات، وحتى لا نخوض في العموميات والتفلسف على طريقة بشار الأسد والنظام السوري، لزام علينا أن نوضّح المعادلة بمجاهيلها ومعاليمها، وأن تحكى الأمور على “بساط أحمدي”.

تنظيم الدولة “الإسلامية” غادر دمشق، بعد حملة عسكريّة تقصّد من خلالها النظام السوري والروس، تدمير الجنوب الدمشقي، ومنطقة “حرم المقامين”، لأمرين رئيسيين؛ أولهما معاقبة للفلسطينيين وعدم الانشغال بمطالب العودة إلى مخيم اليرموك وكامل جنوب العاصمة المدمّر، وثانيهما الوصول إلى قرار نهائي يتيح لعناصر التنظيم الخروج نحو البادية، التي يرى التنظيم فيها ملعبه الذي لا يغلب فيه، فكلّما جرى وأد مجموعاته فيها، خرجت أخرى لتشلّ النظام والإيرانيين وتفرض نفسها طرفاً قوياً في الحاضر الجاري، إذ جرى رفض خروج التنظيم نحو حوض اليرموك رفضاً قاطعاً، ولم يكن الهدف فقط تخفيف ضغط المعركة القادمة ضدّ جيش خالد بن الوليد الذي أسّسه أبو علي البريدي المقتول على يد جبهة النصرة -فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وإنما بهدف خلق صراع بين تكتلين يعتمدان الإسلام رؤية لهما، وهما تنظيم الدولة “الإسلامية” من طرف، والقوات الإيرانية بحرسها الثوريّ وميليشياتها الإيرانية والعراقية والأفغانية والسورية وصولاً لحزب الله اللبناني من طرف ثانٍ، وهذا ما تجلى في حديث الجنرال الروسي المسؤول عن ملف العاصمة دمشق وريفها، حين طرح الرؤية الروسية بوضوح عبر القول بأنّ على حزب الله والإيرانيين الابتعاد عن “حدود إسرائيل” والتوجّه لمعركة غرب الفرات، واليوم يجد هذا الخيار منفذه الواضح عبر أمرين رئيسيين؛ أولهما المعارك التي تدور منذ أيام بين التنظيم والإيرانيين والنظام على طريق طهران – بيروت، أو كما يحلو لمناصري الأخير تسميته “طريق المقاومة ضدّ إسرائيل”، وثانيهما كفّ اليد الإيرانية عن التوغّل في العمق السوري، باعتباره يؤثّر على حصة الحليفين الرئيسيين وهما روسيا وتركيّا.
التحرك الرُّوسي ضدّ إيران، بعد زيارات لكبار مسؤولي الحكومة الإسرائيلية إلى روسيا، جاء بإسناد خفي من تركيّا، التي تحاول التوصّل لنهاية صراعها مع القوات الكرديّة في الشمال السّوري، وبالتحديد في منطقة غرب الفرات، حتى النقاط الأخيرة لمشروعها السلطانيّ في جبال اللاذقية، والبحث عن حلول لهذا الصراع تجلّى في الاتفاق على منبج، والذي توضّح فيه الهدف التركيّ، عبر إصراره على عدم وجود وحدات حماية الشعب التي تشكّل عماد قوات سوريا الديمقراطية في غرب الفرات، ليتزامن هذا الاتفاق مع رقص تركي على الحبل الروسي عبر دفع لاتفاق يفضي بإنهاء تواجد القوات الإيرانية في شمال حلب، والذي تتواجد فيه بلدتان شيعيتان، هما نبّل والزهراء اللتين بقيتا محاصرتين لسنوات، إلى حين فكّ الحصار عنهما بعمليّة عسكرية كلّفت الإيرانيين مئات القتلى والجرحى، وحتى تثبت تركيّا وجودها، فقد أوعزت إلى الفصائل المؤتمرة بأمرها، بالبدء بعمليات عسكريّة ضدّ القوات الإيرانية وأتباعها وحزب الله اللبناني في شمال وغرب حلب، والثمن المدفوع لتركيّا هذه المرة، على دورها الرياديّ في العمليّة، ما هو إلا فتح الطريق البري الواصل من تركيّا إلى حدود الأردن، طريقاً واحداً لا موانع تشوبه.

البقعة الثانية التي أريد عزل الإيرانيين فيها، هي جنوب سوريا، وبالتحديد عند حدود الجولان، فإسرائيل التي تريد أن تحمي حدودها قبل أن تنتهي العمليات العسكرية في هذه المنطقة، طلبت من روسيا إبعاد الإيرانيين، وهذا ما تلاقى مع المصلحة الروسية في تقليل المتواجدين على المائدة السورية، إذ أنّ روسيا ومع تململ النظام بتحجيم الدور الإيرانيّ ودور حزب الله المساندين لها منذ بداية الأحداث على الأرض السورية، لوّحت بأنها لن تساند عملية عسكرية يتواجد فيها أطراف غرباء، واضعة نفسها بوضوح في صفّ أهل البيت السوريّ، وهي التي تتحدث دوماً عن أنها قوة جاءت إلى سوريا بناء على اتفاق مع النظام، إذ تعمّد من هذه الحجّة لممارسة نوع من المراوغة على دورها في سوريا، وكورقة ضدّ القوات الأمريكية التي دخلت الصراع السوري دونما طلب من النظام، الذي صرّح على لسان وزير خارجيته وليد المعلم، بأنّه “من أراد الاعتداء على سوريا فعليه أن ينسّق معنا”، ليطلّ المعلم بقامته مجدّداً ويتحدّث عن قاعدة التنف، كبداية لحلّ قضية الجنوب السوريّ، وما هذا في كواليس المشاورات الروسية – الإيرانية – السورية، إلا ثمن طالبت به إيران، بخروج التحالف الدولي من قاعدة التنف مقابل مغادرتها للجنوب السوريّ.

التعنّت الإيراني في تنفيذ الأهداف الدولية، دفع كلّ هذه الأطراف للضغط على إيران، وإحراجها أمام الرأي العام السوريّ والإيرانيّ والرأي الموالي لها، عبر دفعها للتنازل عن مكتسبات كبيرة، كان لتركيّا دور رئيسيّ في تحجيمها، حين التفتت إلى إزالة الخلاف المتشكّل بينها وبين روسيّا في أعقاب إسقاط طائرة روسيّة دخلت أجواءها في أواخر العام 2015، بعد أسابيع من دخول الرّوس على خط المشاركة العسكرية المباشرة جوياً وبرياً، فاليوم إيران باتت مع حزب الله اللبناني، وميليشيات عراقية وأفغانية وأخرى آسيوية، جيء بهم إلى سوريا، هي الأضعف في سلسلة القوى المساندة لنظام بشار الأسد، وهذا الإضعاف المتعمّد من القوى الإقليمية والدولية للدور الإيرانيّ، يتأتى من خلفيات خفيّة وأخرى ظاهرة، فعلى الصعيد التركيّ، مدّ الإيرانيون يد السِلم والتحالف غير المباشر، لعدو رئيسي لتركيّا في سوريا، ألا وهو القوات الكردية التي شكلت قوة عسكرية ضاربة، والتي برز دورها من خلال تشكيل وحدات عسكرية قوامها عشرات آلاف المقاتلين والعناصر، الذين أقلقوا تركيّا ولا يزالون، كما أنّ إيران عارضت التمدّد التركي في عملية “درع الفرات”، عبر استهداف جويّ لمناطق سيطرة القوات التركيّة وفصائل المعارضة السورية، والإبقاء على هذا الاستهداف حبيس كواليس العمل العسكري الخاص بها في سوريا، منعاً للتمدّد التركيّ من شمال شرق حلب نحو شرق المحافظة، في الوقت الذي كانت تنوي فيه تركيّا الوصول إلى حدود الرقّة من محور حلب، والذي كان مع نهاية العام 2016 وبداية العام 2017، يعمل عليه ويهدف إلى عرقلة العمل العسكري للقوات الكرديّة والدخول في سباق معها على الرقّة، فما كان من الإيرانيين إلا أن أقدموا على تنفيذ غارة جوية استهدفت مناطق التواجد التركي قرب الباب، في محاولة لكسب ودّ القوات الكرديّة، التي كانت تعمل قبل ذلك على مشروع ربط الإدارات الذاتية الثلاث ببعضها، من عفرين إلى كوباني والجزيرة، وهذا ما يرتبط بشكل وثيق في محاولة كسب الود الكرديّ في الداخل الإيراني، عبر إظهار فضل القوات الإيرانية أمام الشارع الكردي الثائر على حكومة طهران، لتعمد تركيّا إلى اللعب على وتر عودة العلاقات مع روسيا، والذي انعكس انقطاعها على المصالح الاقتصادية في الداخل التركيّ، باعتبار رجال الأعمال الروس من أهمّ المستثمرين في الاقتصاد التركيّ، إضافة لكسب الود الإقليمي من النظام السوري والدول المجاورة، التي بات يقلقها تأزم الوضع السوري، فعمدت تركيّا إلى إيجاد الحلّ البديل عبر طرح إمكانية إسكات المعارضة السورية عن مهاجمة النظام والروس، من خلال سدّ منافذ الشمال، وإيجاد آلية لجمع الفصائل تحت راية واحدة، بعمليتين رئيسيتين إحداهما “درع الفرات”، والأخرى “غصن الزيتون”، وخلق مرجعيّة عسكرية، ومصدر قرار واحد لكلّ المنضوين تحت راية هاتين العمليّتين، وهذا ما يمكن وصفه بكسر العظم الإيراني بالساطور التركية.

أما على الصعيد الروسي، فقد ضاقت الأخيرة ذرعاً بالتغلغل الإيراني في النسيج السوريّ، فعمليات التطويع بناء على مكافآت مالية، من قبل الجانب الإيراني، للسوريين، أرهقت الجانب الروسي، كما أنّ عملية تصعيد الفصائل السورية للعمليات القتالية بناء على الاحتراب السنّي – الشيعيّ، والمحاباة بين إيران وقطر في صفقة تغيير الخارطة السكانية المتعلّقة بشمال غرب دمشق عند الحدود مع لبنان، أثار حفيظة الروس، الذين يحاولون كبح الصراع في الداخل السوري المبعثر في الوقت المنظور، فبدأت روسيا منذ وقف عمليتها العسكرية بشرق سكة القطار في إدلب، والتحوّل عن الهدف الإيراني في فكّ الحصار عن الفوعة وكفريا، بالعزف على وتر جديد، وهو البحث عن مصالحها بشكل منفرد، في شمال ووسط وجنوب سوريا وغربها، بعيداً عن التواجد الإيراني الذي يؤجّج الصراع بناء على ما ذكر سابقاً، وهو الصراع الطائفيّ بين جانب المعارضة الإسلامية والمقاتلة السورية وبين الجانب الإيراني، إذ أنّ التحوّل عن كفريا والفوعة الشيعيّتين المحاصرتين منذ سنوات في إدلب، أحرج إيران وحزب الله أمام جمهورهما، باعتبارهما نصبا نفسيهما وصيّين على هاتين البلدتين، وعلى المزارات والمقامات المذكورة في العقيدة الشيعية، وتابعت روسيا إحراج إيران وحزب الله بكفّ يديهما عن معركة الغوطة، ومن ثم معركة جنوب دمشق، واليوم تحاول روسيا دفع إيران للابتعاد عن إحداث صراع غير محمود على حدود الجولان.

الإيرانيون اليوم لم يعودوا كما كانوا سنداً قوياً لنظام بشار الأسد، بل باتوا حطباً للنيران الموقدة في الداخل السوريّ، وقد تكون المرحلة القادمة، شرطة عسكرية روسيّة أو شيشانية، تجوب الحميدية ووسط دمشق، بعد مشاهد اللطميات المنتشرة بكثرة، والتي أثارت حفيظة السوريين السنّة، إلا أنّ إيران المتحضّرة لخروج هي مجبرة عليه لا بطلة، لحفظ ماء وجهها، لن تعمد إلى خسارة الحمّص في المولد السوري، بل سيكون القادم من المكتسبات على شكل صكوك مالية على يد شركات إعادة الإعمار، فالعائد الاقتصادي لإيران من ذلك، سيرضي الروس والإسرائيليين وسيغيظ تركيّا لوقت محدود، إذ أنّ الأخيرة لم تستطع التكتّم مطولاً على مشروعها الاقتصادي في الداخل السوريّ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى