قضايا راهنة

سوريا في ظلّ المتغيّرات والحلول الممكنة

مقدمة

يبدو واضحاً أنّ الوضع السوريّ لا يزال يسوده حالة اللايقين التي تتميّز بها مراحل الكايوس التي تميّز المنظومات المعقّدة، والتي تكون خطوطها البيانية متميّزة بالتعقيد والتغيّرات المفاجئة غير البسيطة.

كثرة العناصر الداخلة في التفاعل السوريّ واختلاف تأثيراتها وساحات هذا التأثير عمقاً واتساعاً يعقّد القضيّة ويجعلها معادلة كثيرة المجاهيل وصعبة الاحتمالات، مما يجعل إمكانية تحديد التوجّه وزمانه ومكانه ونتائجه أشبه بالمستحيل.

تتغيّر المواقع وتتبدّل وتزداد تأثيرات هذا العامل يوماً وتنقص آخر، ويغدو البلد كلّه فوق صفيح متحرّك يخلق بين العوامل فيكون الناتج تفاعلاً معقّداً أكثر من كلّ التطوّرات أحياناً.

وسط هذا الضباب الكثيف ورغم كلّ الصعوبات لابدّ من رسم خارطة طريق محتملة، ولابدّ من توجيه الأحداث – ولو كان ذلك صعباً لحدّ الاستحالة – باتجاه الخروج من الدوامة الفوضوية الدافعة نحو الفراغ والغرق والانفجار.

ربما يكون إعادة المعادلة إلى مكوناتها الأساسية بتجزئتها حتى الوصول بها إلى بناها الرئيسية طريقٌ معقولٌ نحو تفكيك التفاعلات المعقّدة إلى مجموعات التفاعلات الأساسية باعتبارها أصغر البنى المشكلة لهذا الكيان المعقّد المتحرّك في إطار الزمان والمكان، وليس هذا فحسب، بل لابدّ من استخدام كلّ النظريات التي تحمل في جوهرها- وإن نسبياً- جزءاً من الحقيقة العلمية ارتباطاً بظروف الزمان والمكان، دون تناسي كلَّ الأبعاد الرئيسية لهذه العمليّة.

موضوعنا هنا هو سوريا والتغيّرات الراهنة والاحتمالات المتوقّفة، سوريا التي تعي حالة الكايوس بأعمق أشكالها، وآفاق الانطلاق نحو الخلاص من مخاوف التشظّي والتلاشي الوطني والمجتمعي؛ كنتاج طبيعي لصراعات غير منتجة، لا بل مدمرة، نتيجة تضارب المصالح بين القوى الداخلية والإقليمية والدولية.

كبيرة هي اللوحة السورية الشاملة، مترامية الأبعاد لدرجة أنّ أطراف القضية وحدودها تكاد تكون أحياناً غير مرئية.

عفرين، تركيا، قوات سوريا الديمقراطية، النظام السوري، روسيا، والتحالف الدولي أجزاء من معادلة الوجود السوري الراهن.

 مشهد عفرين

المشهد السوري في عفرين كان قاسياً، والمشهد العفريني كان مقاوِماً أمام وحش دمويّ, وحرباً قذرة وسط صمت دولي مريب وصل حدّ الدناءة، التي لا يمكن استساغتها حتى وإنْ أدركنا أنّ العالم المتحضّر الراهن يندفع بالكليّة وراء مصالحه المادية، بمعزلٍ عن كلّ القيم الأخلاقية والإنسانية.

صحيح أنّ قوات سوريا الديمقراطية تلقت ضربة قاسية من كلّ القوى الفاعلة في سوريا بمن فيها حلفاؤها في التحالف الدولي- وإنْ بشكل سلبي وغير فعال- لكن الصحيح أيضاً أنّ (قسد) أثبتت قدرتها على المقاومة، وأكدت أنّ أيّة محاولة لتركيا لن تكون نزهة بسيطة، رغم كل التبجّحات التركية الملأى بالمكابرات، وأنّ المقاومة لازالت مستمرة، وأقلّها أنّها ستمنع تركيا وحلفاءها من الاستقرار في عفرين، وستمنع المعايشة الطبيعية مع الاحتلال، وستبقى جذوة الرفض للاحتلال التركي مستمرة، وهذا ربما سيتحمّله الروس والسوريون والإيرانيون أيضاً، وكلّ منهم لغايات تجتمع وتتشارك في الاستمرار في إرباك تركيا الأردوغانية الغارقة في حلفها الانتخابي، وتستخدم وجودها في سوريا لهذه الغاية.

ويبدو أنّ مسلسل الابتزاز الروسي لتركيا سيستمرّ طويلاً، وسيكون عالي الكلفة على تركيا التي بدأت أسهمها المرتفعة ولهجتها الحادة رويداً رويداً بالخفوت، تعبيراً عن أنّ العربدة التركية التي وصلت ذروتها في عفرين بدأت بالانحسار، بعد أن انتهى الصمت الدولي الأمريكي والفرنسي وغيره، مع العلم أنّ روسيا ترمي بالتأكيد إلى محاولة شقّ صفوف الناتو، من خلال جذب تركيا عبر تقديم ما تطلبه، وكانت عفرين أشهى الصفقات! وأعتقدُ أنّ تركيا تدرك أنّ أيّ تراجع في مواقفها مع روسيا سيكلّفها إخراجها من عفرين على أيدي القوات الروسية البراغماتية بشكل فظيع وحتى خطير، خصوصاً إذا أعدنا شريط الضربة الروسية لتركيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية وقَتل الطيار، مما أجبر تركيا على الانسحاب من كلّ الساحل السوري، وإجبارها أيضاً في بادرة لم يسبق لها مثيل على تقديم الاعتذار بالروسية منعاً لتركيا من تأويلها بشكل آخر وإمعاناً في تحقيرها.

حكومة أردوغان بوزرائها الأشبه بدمى موجهة، بدءاً من رئيس الوزراء، ومروراً بوزراء الخارجية والداخلية والدفاع وغيرهم، باتت لا تملك قيم الدولةِ، وباتت مستعدّة لبيع كلّ شيء من أجل هاجسيها الأساسيين؛ وهما الانتخابات وضرب الكرد، وهذه الأخيرة في هذه المرحلة هي لدعم مواقف أردوغان في الانتخابات، ولهذا تستخدم تركيا أكثر ألاعيب الحرب الخاصّة دناءة, ولسان حالها يكرّر مقولة: اكذب اكذب حتى يصدّق الناس، وهي تفعل ذلك حتى تصدّق هي كذبتها.

العربدة التركية التي وصلت لأعلى آفاقها بعد عفرين، حيث أرادت إظهار ذاتها على أنها القوة التي ستستمر في قمع الكرد في روج آفا استناداً للصمت الدولي، الذي كان صمتاً بطعم الموافقة في هذه الظروف، مما أدى لتنامي مطامع تركيا إلى حدٍّ خطير ظهر من خلال رغبات أردوغان التي صرح عنها، في رغبته الواضحة لعودة السلطنة العثمانية، وهو مراراً كرّر أنّ هناك في سوريا والعراق من ينتظرونه منذ مئة سنة؛ أي ينتظرون تمدّد الخلافة العثمانية من جديد.

هدّدت تركيا باجتياح كلّ المنطقة الحدودية، بدءاً من منبج وصولاً لديريك، وتخطتها نحو شنكال لتصل إلى قنديل، وبلهجة متعجرفة وحتى غبيّة، وكان أردوغان ولا زال يظنّ أنّه سياسيّ بارع، لتظهر حقيقته في أنّ كلّ مواقفه انتخابية، ولهذا أراد وسيحاول حتى نهاية الانتخابات الحفاظ على أجواء التوتر، على الأقلّ بعد أنْ فشل في تحقيق الخطوات التالية لعفرين والتي وعد بها، لكن جرت الرياح بغير ما أرادته سفن أردوغان.

الموقف الأمريكي في منبج كان واضحاً, وأيضا في منطقة شنكال، وبعد أن قرّر العمال الكردستاني سحب قواته حتى انتهت معها ذريعة الأتراك، وإنّ تركيا لم تتمكّن حتى الآن من التقدّم نحو تل رفعت، بسبب الضغط الروسي الذي يعطي مؤشرات أنّه لن يفتح الطريق حتى النهاية لتركيا، وأنّ سوريا هي حليف روسيا الأقرب، وقد تؤدي ممارسات تركيا في عفرين في النهاية لطرد تركيا منها، وتسليمها للنظام السوري، وسط ما تكبدته تركيا من خسائر في عفرين وتحوّل الأخيرة إلى عبء عليها.

المشهد السوريّ المتغيّر

الخريطة الواقعية الآن واضحة، ومناطق النفوذ- وإن كانت متداخلة وضبابية في بعض النقاط – إلا أنّها واضحة بين القوى وخصوصاً النظام وثلاثي الآستانة، والوجهة الآن كما يبدو هي نحو إدلب.

كلّ القوى الموجودة في سوريا باتت قوى كبيرة, النظام السوري وإيران وحزب الله، وما نسميّه بالقوى الرديفة. روسيا الداعمة للنظام، والتي تحاول بشتى الوسائل استمالة تركيا بعد سوء علاقاتها مع الغرب وأمريكا, ليست فقط بسبب القضيّة الكرديّة، بل لأسباب أخرى، تتعلّق بالمواقف الدولية وتوجّهات أردوغان، وغيرها من الأسباب، وأخيراً منطقة النفوذ الأمريكي وقوات قسد.

حجم هذه القوى وامتداداتها يرجّح عملياً عدم حدوث صِدام مباشر، لأنّ أيّ صِدام الآن لم يعد ممكناً، إلّا بالأصالة بعد أن انتهت إمكانية الحرب بالوكالة, وحتى إن حدثت بعض التوترات والاحتكاكات في بعض نقاط التماسّ كنهر الفرات, أو أطراف منبج وحول عفرين، لن تغيّر من هذه المعادلات، ولن تفضي إلى صِدام عسكري مباشر.

لكن في ضوء عقد قمّة الدول الراعية لآستانة, واستذكار الحملة الأوروبية الأمريكية ضدّ روسيا, والردّ الروسي عليها نتيجة قضية تسمّم العميل المزدوج سكريبال في إنجلترا, تظهِر معادلات تشبه معادلات الحرب الباردة قبل سقوط الاتحاد السوفييتي, ربما هي نوع من محاولات الضغط العالمي باتجاه روسيا، التي تريد إعادة اقتسام النفوذ، وبناء أحلاف تعدّدية الأقطاب.

لكن هنا على الساحة السورية ستكون هناك أولوية إدلب، المتزامنة مع إعادة طرح الحلّ السياسيّ من خلال ربما إبراز عمليّة كتابة الدستور، أو لنقل تعيين لجان وإقرار تأليف لجان لصياغة الدستور، بوضعها الخطوة التي يجب البدء بها لتحديد معالم سوريا المستقبل، وهذه الورقة ستستخدمها روسيا كورقة ضغط لإجبار أمريكا على التقدم نحو المشاركة في الحلّ السياسيّ.

من بديهيات الواقع السوري الراهن أنّه لا حلّ سياسيَّ إنْ لم يكن توافقياً ويرضي جميع الأطراف، أو على الأقل تقدّم شيئاً لكلّ طرف من أطراف المعادلة الإقليمية والدوليّة، مع عدم نسيان كون إسرائيل إحدى القوى الهامة في هذه المعادلة.

الأطراف كلّها لا تزال بعيدة عن التوافق حول أيّ حلّ سياسي، فلا النظام السوري ولا إيران ولا حزب الله ولا تركيا مستعدّة لأيّ نوع من التوافقات التي تتطلّب تنازلات كبيرة تنسجم مع الأحداث الكبيرة لتحقيق هذا التفاهم والتوافق, فالنظام يريد كلّ شيء ولا يتقدّم خطوة واحدة أبعد من مشروع دستور 2012م، وكأنّه يظنّ أنّ بإمكانه إعادة سوريا إلى المربع الأول، وإلى مرحلة ما قبل 2011م مستفيداً من انهيار ما تسمّى المعارضة والفصائل المسلحة وآخرها في الغوطة وستتبعها إدلب، وهو ربما يظنّ أنّه بإمكانه العودة لنقل الحكم وتكرار حالة أحداث 1982م للأخوان المسلمين.

متغيّرات اللوحة السورية في هذه المرحلة تظلّ تراوح مكانها في مشهد يبدو أقرب إلى الغليان الداخلي الذي يمهّد لتطور ما، ربما لا يزال بعيداً بعض الشيء، لكنّه قادم على المدى المتوسط والبعيد.

محور الآستانة المليء بالتناقضات التي ستصل في يوم ما إلى مستوى الصراعات التناحرية، لكنّها مغلّفة بابتسامات صفراء نظراً لتشابك المصالح من جهة، ولتشابك مواقفها بهذه الدرجة، أو تلك من القوى المواجهة لها، وأقصد هنا بالتحديد أمريكا، التي بدأت المواقف الفرنسية والبريطانية تتفاعل معها جنباً إلى جنب مع قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الوحيد لها على الأرض السورية، بعد أن فشلت كلّ تلك القوى بما فيها أمريكا وبريطانيا وفرنسا في إيجاد حليف مناسب، من خلال رعاية وتمويل العديد من الفصائل التي ظنّت أنّها ديمقراطية أو على الأقلّ معتدلة، بدءاً من “حركة حزم” و”فاستقم كما أمرت” و”عماد الدين الزنكي” و”فرقة الحمزة” و”الفرقة 30″ وغيرها الكثير.

القمة الثلاثية بين بوتين – أردوغان – روحاني، ورغم أنّ البيان النهائي أعلن عن تطابق في الرؤى حول وحدة سوريا وتطوير الورقة الدستورية، عبر تشكيل لجنة خاصة بالدستور تكون مشتركة وتحتلّ الأطراف، إلا أنّ مواقف الثلاثة أفصحت عن تناقضات واضحة في الرؤى هي موجودة أصلاً، أولها كانت مطالبة الرئيس الإيراني لأردوغان بالانسحاب من عفرين، واللافت أنّه طلب الانسحاب من عفرين فقط وتسليمها للنظام، ولم يتطرّق إلى مناطق مثل جرابلس والباب، وكذلك لم يتطرّق لتواجده على أساس آستانة في إدلب وريفها، وطبعاً لم يجب أردوغان على هذا الموقف ولم يرد عليه، وكأنّه أراد عدم إثارة هذا الموضوع الكبير في محاولة منه لتطويق ما كان يرمي إليه روحاني، وثانيها كان الموقف الروسي من القضية الكرديّة في سوريا، إذ أعلن بوتين طرحه أنّه ضد كلّ الإرهاب في سوريا، ومع انسحاب كلّ التواجد غير المشروع للقوى الأجنبية في الآستانة من سوريا، وكأنّما بذلك وجه رسالة خفية إلى التواجد التركي خارج إطار توافقات الآستانة في سوريا.

أكد بوتين أنّ الشعب الكردي هو جزء من هذا النسيج السوري، وأنّه لا يمكن لأيّ حلّ سوري أن يتجاهل حقوق الكرد ومشاركتهم في العملية السياسية، وهذا أيضاً صمت عنه أردوغان في امتعاض بدا واضحاً جداً، وهو الذي ارتبك ولم يتحدّث في هذا الموضوع رغم أنّه معروف بموقفه السلبيّ الحادّ من القضية الكردية في مثل هذه المواقف، على الرغم من أنّ حملته الانتخابية أيضا مستمرة.

مواقف ترامب هذه المرة أيضاً أربكت العالم كلّه، بإعلانه عن الانسحاب من سوريا قريباً، وأكثر ما أثار المخاوف هو تكراره “قريباً جداً جداً”، وبدأ العالم ينتظر جدية وحقيقة هذا التصريح “الترامبي” بامتياز، إلى أنّ اجتماع ترامب مع مجلس الأمن القومي أكد على أمرين: بقاء القوات الأمريكية في سوريا، وكذلك ضرورة انسحابها في يوم ما، وإن لم يكن قريباً فهو على المدى المتوسط.

مبرّرات الوجود الأمريكي حتى الآن لا ترقى إلى الحدّ الذي يدعونا أن نتوقّع بقاء طويل الأمد في سوريا حتى الآن على الأقلّ، وهذا كلّه مرتبط بالشقّ الثاني المستجدّ القابل للتجدّد من السياسة الأمريكية في سوريا، التي أعلنت من خلال ضرورة وقف المدّ والحضور الإيراني في سوريا، وهذه إذا كانت في الظاهر لتقليل الدور الإيراني في توجيه سوريا المستقبل، إلا أنّه ما من أحد يمكنه أن يجهل أنّ جوهره في النهاية يكمن في التزام استراتيجي وإيديولوجي ووجودي للولايات المتحدة في حماية إسرائيل وأمنها، حيث يتهدّدها بالتأكيد الوجود الإيراني-السوري-حزب الله بشكل جاد، وليس كما يروجه البعض ممن غرست الطائفية ونظرية المؤامرة في عقولهم وقلوبهم.

بالتأكيد يبحث ترامب عن أمور أخرى غير الانسحاب، مثل التمويل، وهذا ليس فقط تمويل بقاء القوات الامريكية، بل تمويل عمليات إعادة الاستقرار في سوريا وخاصة المناطق التي تخضع لنفوذ أمريكي، ومنع داعش من الظهور والعودة وأمور أخرى كثيرة.

لكن مما لاشك فيه أيضاً أنّ الإقامة الأمريكية في سوريا لن تطول كثيراً جداً، ولن تكون دائمة، والانسحاب سيحدث على المدى المتوسط والبعيد حتى وإن كان ذلك بعد سنوات، لأنّ إمكانيات البقاء اللامحدود معدومة، ولا أعتقدُ أنّ الاستراتيجيين الأمريكيين سيجازفون إلى هذا الحدّ، إلّا إذا تعرّضت المنطقة لموجة جديدة من الصراع الإقليمي الذي سيتحوّل إلى مواجهات عالمية حاسمة بين إيران ومحورها من طرف، والسعودية بالوكالة وبدعم دولي وأوربي وإسرائيلي من طرف آخر، حينها يكون للحديث مجال آخر وسيكون الكلام مختلفاً.

إذاً لابدّ من التحضير للانسحاب الأمريكي من سوريا، لكن أيضاً لابدّ من التأكيد أنّ أيّ انسحاب أمريكي بدون ترسيخ الحلّ السياسيّ في سوريا يعني عودة سوريا إلى المربع الأول، لا بل بشكل أسوأ، لأنّ المنطقة ستتحوّل إلى منطقة تجول وتصول فيها خيول المحور الآخر الذي سيعلِن انتصاره، وهذا سيعني التقدّم إلى الأمام مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ إسرائيل هي على بُعد خطوة واحدة من هذا المحور الذي لن يتمكن حتى الروس من ضبطه.

 كيف يمكن تحقيق التوافقات؟!

التوافقات تحصل عندما تتوافق المصالح، وإن كانت تتضمّن في جوهرها بعض التنازلات، خصوصاً أنّ عولمة القضية السورية جلبت معها عولمة المصالح الموجودة في سوريا، ولا يمكن تلبية مشاريع كلّ هذه القوى والدول المتصارعة على الأرض السورية, فالنظام يريد إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل 2011 وتركيا تجاوزت حاجز هاجسها القومي من الكرد بالدعوة للخلافة وتلبية نداء من يقول إنّهم إخوة لنا ينتظرون منذ مئة عام.

روسيا حصلت على الكثير، وأعتقد أنّها جادة في رغبتها في استقرار الوضع في سوريا, لكن يجب أن ندرك أنّ الحلقات العالقة بين أمريكا وروسيا كثيرة جداً، تمتدّ من سوريا حتى القرم وأوكرانيا وكوريا والصين وتايوان وغيرها.

التوافقات المقصودة هي ما يتعلّق منها بسوريا وبتحقيق الحلّ السياسيّ فيها, لكن يجب أن ننتبه إلى حقيقة أكيدة، وهي أنّ التوافقات المتعلّقة بسوريا، لا يمكن فصلها كلياً عما يجري خارج سوريا, وهنا المقصود هو رضاء وإرضاء كلّ الأطراف الفاعلة على الأرض، وهي سوريا وإيران، معها حزب الله، وروسيا وتركيا وإسرائيل وأمريكا, وهنا بيت القصيد ومربط الفرس.

كيف يمكن إرضاء كلّ هذه القوى المتناقضة المصالح مع احترام حقيقة لا يزال الجميع يؤكّد على ضرورتها، ألا وهي وحدة سوريا؟!

التوافق حول القضيّة الكردية وطبيعة الدولة السورية القادمة هي الأساس الذي لا يمكن تجاوزه، لا بل أنّها تشكل عقدة كبيرة, وهي الحقيقة حتى الآن، باتت عقدة أداء تسمّم التطور في سوريا والمنطقة, وتسمّم الحلّ السياسي، إذ يبدو أنّ العديد من القوى والدول تجد فيها خطراً محدِقاً، خصوصاً الدول الأربع التي تضم الكرد (سوريا, العراق, إيران, تركيا).

تكاد القضيّة الكردية في سوريا تشكّل لوحة مصغرة عن الصراع الدائر في سوريا، ونموذج حلّها حلّ لسوريا، فالقضيّة الكردية في سوريا، بالإضافة لكونها قضية شعب، وكونها قضيّة سوريا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القوات التي تضمّ ممثلين عن هذه القضية لا تزال تسيطر على حوالي ربع مساحة سوريا مدعومة من التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، التي أعلنت أنّها باقية أو تؤكد بقائها على الأقلّ في المدى المتوسط، ولا يمكن قطّ تجاوز الدور الأمريكي في الحلّ، لا بل يستحيل الوصول لأيّ حلّ في سوريا رغماً عنها، أو بدون مشاركة فاعلة حقيقية لها.

لابدّ للقضيّة الكرية أن تُحلّ في إطار سوريا الموحدة، وهذا يعني الوصول لصيغ دستورية مناسبة, لكن ذلك على ما يبدو يحتاج لموافقة تركيا التي وجدت في الكرد السوريين- بسبب تعاطفهم مع القضية الكردستانية – عدواً وخصماً يجب التخلّص منهم، وهو ما كان واضحا من موقفها في كوباني وعفرين، مع عدم نسيان أو تناسي مستوى دعمها المادي والمعنوي والعسكري واللوجستي لتنظيم داعش  في زمن صراعها مع قسد.

لا يمكن التكهّن بالحلّ كلياً، لكن بالتأكيد يمكن تحديد مقدّمات هذا الحلّ السياسيّ ومتطلباته التي تفترض أولا تشكيل قناعة عامة عند كل الأطراف على ضرورة الحلّ، وعلى أنّ الحلّ ممكن فقط بالتوافق بين كلّ هذه القوى ولو تطلب ذلك تنازلات من مختلف الأطراف, وهذا يعني بشكل آخر اعتراف الجميع بهواجس الجميع والعمل معاً بإدارة معينة لتأمين الحلّ.

إنّ توافق القوتين الرئيسيتين أمريكا وروسيا شرط أساسيّ للحلّ السياسيّ، لكنّه ليس الشرط الوحيد، إذ لا تقل أهمية الأطراف الإقليمية والنظام وقوات سوريا الديمقراطية عن أهمية القوتين المذكورتين.

كلّ مؤشرات الحلّ ومن كلّ الأطراف تؤكد على وحدة سوريا, وأكثر الإشارات صوابا ووضوحا، هي نحو ضرورة اعتماد صيغة اللامركزية في الحكم، والإيمان بالتعدّدية التي تمنح كلّ المكونات السورية حقوقها في وسط ديمقراطي ينتفي فيه التسلط والإنكار ويسود التلاحم والتفاهم والمشاركة على أساس وحدة الوطن المشترك للجميع.

يبدو أنّ الظروف الآن غير جاهزة للحلّ من قبل كلّ الأطراف باستثناء – قسد – لكن هناك إمكانية الدفع بهذا الاتجاه, وذلك إذا كفت الأطراف عن التوجهات السياسية نحو تشكيل محاور متناقضة, وإذا تمّ استبدالها بتفاهمات عبر صيغ دستورية حقوقيّة تضمن حقوق الجميع في وطن واحد.

 الحلول الممكنة

التحضير في المرحلة الراهنة للمستقبل بعد توزيع مناطق النفوذ في سوريا يحتاج للمزيد من العقلانية والمبادرة والتخطيط والاندفاع الذكي، خصوصاً بالنسبة للكرد الباحثين عن سوريا ديمقراطية يتمتعون فيها بحقوقهم المشروعة كشعب وكمكوّن سوري ذي هوية خاصة، مثله في ذلك مثل المكونات الأخرى العربية والسريانية والتركمانية…، دون الغرق في ثنائية الأقلية والأكثرية.

عامل الزمن مهمّ، وهذا يفرض الإسراع دون الوقوع في مطبات الاستعجال غير المبرّر، فلازال الكرد يملكون الوقت اللازم، خصوصاً أنّهم لديهم أوراقاً كثيرة وحلفاء وأصدقاء ومناصرين على المستوى الدولي، وعلى مستوى الرأي العام الدولي، كما أنّ رؤاهم السياسية ومطالبهم المجتمعية تملك من العقلانية ما يجعلها المشروع الوحيد المقبول حالياً بين كلّ السياسات المطروحة في سوريا، وسط غياب الحلّ المنطقيّ حتى في أطروحات النظام الراغب في العودة إلى ما بعد 2011 وربما التراجع حتى جوهرياً عن جوهر مشروع الدستور السوري 2012.

على الحركة الكردية وبعد ظهور حزب سوريا المستقبل أن تسعى لتطوير شبكة الشراكة الحقيقية العملية للمكونات جميعا، استناداً إلى تطوير تجربتها السابقة التي تعاني في هذا الإطار من خلق وظهور شراكات حقيقية.

مما سيوفر مظلّة سورية شاملة وجامعة تقطع الطريق أمام أصحاب الأفكار والمفاهيم الإنكارية القوموية والعنصرية المستندة في أساسها إلى القومية والتطرّف الدينيّ الداعشي، والأخواني.

ليس هذا فحسب، بل العمل الجاد والبناء مع التحالف الدولي ودفعه باتجاه لعب دور فاعل في العملية السياسية في سوريا، ليكون سنداً وضماناً حقيقياً لحلفائها في مرحلة وضع مخططات سوريا المستقبل وخارطتها، وتأمين استمرارية وترسيخ هذه اللوحة عبر توافقات دولية لابدّ منها في هذه المرحلة.

باتت الحقائق واضحة، ومن أطلقت على نفسها اسم المعارضة تحت يافطات كـ “الجيش الحر والائتلاف السوري والمجلس الوطني السوري وهيئة التفاوض” أفلست رغم كلّ غطائها السياسيّ، وعلى الدول الداعمة لهذه التشكيلات أن تدرك إفلاس هذه المنظومات بشكلها السابق والراهن وتستفيد من واقع قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لتشاركها كقوة قادرة سياسياً وتنظيمياً على فرض معادلة جديدة لصالح سوريا.

أي لابد من المساهمة الدولية الفاعلة لتصحيح مسار التفاوض السياسيّ مع النظام، ليس فقط بإشراك الكرد والإدارة الذاتية في رسم ملامح المستقبل السوري، بل والاستفادة من تجربتها وقوتها العسكرية والسياسية والإدارية في عمليات التفاوض السورية – السورية برعاية دولية متعدّدة الاتجاهات لطرح القضية بشكلها الصحيح وفي إطارها الديمقراطي السليم.

كل هذا ممكن عندما يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته التاريخية والأخلاقية تجاه الشعب السوري، بدءاً من إعادة الاستقرار بمعناه الواسع، ليس لإنقاذ سوريا وشعبها فحسب، بل لإنقاذ العالم من موجة إرهاب جديدة – قديمة، داعشية بحلّة جديدة ربما ستربك المنطقة والعالم مرة أخرى.

وإذا كان لابدّ من تقدير مواقف القوى المشاركة في سوريا موضوعياً، وعلى جناح السرعة وباختصار، فالمؤامرات تدلّ أنّ النظام بمواقفه الراهنة – على الأقل – ليس مهيّئا للتفاوض والتنازل أبدا، لا بل يتجهّز للانتقام وإعادة التاريخ للوراء من خلال محاولاته إعادة إنتاج نفسه في إطار المقاومة ومحورها وكأنّ شيئاً لم يحدث.

تركيا بموجتها الأردوغانية أوصلت تركيا إلى حافة الانفجار القومي الذي سيودي حتى بها إلى التهلكة، وهي لا تملك مواصفات القوة المشاركة بالحلّ، لكنّها تملك مقوّمات وإمكانات ضرب مشاريع الحلول الموجودة تحت ستار أمنها القومي والخطر الكردي المزعوم، وإن كان لا يخفى نزعتها العثمانية التوسّعية، وهذه المواقف تحتاج لإعادة ترتيب وتهذيب، وهو ممكن فقط من خلال التوافق الأمريكي – الروسي أولاً، والضغط على القوى الإقليمية والدولية والمحلية الفاعلة نحو السقف الديمقراطي المتميز لسوريا المستقبل، ولهذا فإنّ جهود صياغة الدستور تكتسب أهمية حياتية وتحوز على أولوية وأهمية استثنائية.

والحديث في التحضيرات يطول والاجراءات ممكنة، والوقت مناسب للبدء بها، لكن يجب أولاً وأخيراً أن ندرك ونعي أنّنا في مرحلة انتقالية حاسمة، ولم تصل التطورات بعد إلى نقطة اللاعودة، وأنّ ذلك يتطلّب جهوداً سياسية نوعية وبكلّ المقاييس، وهذه مهمة القادة وأصحاب القرار، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ موقف ماتيس وزير الدفاع الأمريكي حول تهيئة الظروف لحلفائهم في سوريا المستقبل قبل الانسحاب خطوة في هذا الطريق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى