قضايا راهنة

الشَّمال المُزدحِم والشَّرقُ المتقلِّب والبقيَّة الهَادِئة

تتسارع عجلة الأحداث الدائرة على الساحة السورية عموماً، فمن شمال البلاد إلى جنوبها، ومن وسطها إلى شرقها وغربها، أحداث يومية، لا بد من إلقاء الضوء عليها، حتى يتسنَّى للقرَّاء والمهتمين والمتابعين، الاطلاع الدائم على الأحداث اليومية في الجغرافيا الكاملة للبلاد الممتدة على مساحة 185 ألف كيلومتر مربع، وليسهل للسادة القرَّاء تفصيل المشهد ومعاينته، كان لا بدَّ من تجزئة البلاد بناء على الأحداث المترابطة فيها، ليكون السرد بمثابة شريط مصوَّر كتابي، يُسهل على المهتم، السير في الجغرافيا دونما عناء، وبعيداً عن التشتت.

الشَّمال السُّوري

بقيت عفرين متصدرة المشهد في الشمال السوري، لتتوحد مع كامل الشريط الحدودي في سوريا، على مدار الأسبوع الأخير من الأحداث، فأعمال السلب والنهب واللصوصية، لم تهدأ لا في مدينة عفرين ولا في كامل المنطقة التابعة لها إدارياً، إذ عمدت فصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا، ومن خلفها القوات التركية، إلى تنفيذ عمليات نهب بدأت من الآليات والسيارات وانتهت إلى ممتلكات المواطنين الشخصية، من مصاغ وحلي وأموال وحتى مؤونة المنازل، ولم تكتف القوات التركية والفصائل بهذه العمليات، إنما عمدت في كل مرة إلى إلصاق التهمة بطرف دون الآخر، فكانت العمليات الفردية لإلصاق التهمة بالآخرين، عمليات دونية، هدفت لتلميع صورة الفصائل التي ظهر توجهها المتوافق مع التوجه التركي، عبر عمليات النهب آنفة الذكر، وفي الجزء الآخر من امتداد عفرين، وامتداد مناطق تواجد المسيطرين عليها سابقاً من وحدات حماية الشعب، كانت الأحوال المأساوية التي يعاني منها مئات آلاف المهجرين بفعل عملية “غصن الزيتون”، إذ أنه على الرغم من التجاء آلاف العوائل لبلدتي نبل والزهراء التي فتحت أبواب المدارس والمساجد “الحسينيات” أمام النازحين نحوها، والتجاء البقية إلى البلدات والقرى المتواجدة في القطاع الشمالي من ريف محافظة حلب، إلا أن آلاف النازحين بقوا يتجرعون المأساة مع من سكنوا بيوتً استاجروها أو افترشوا الخيم التي صنعوها لأنفسهم، في حين لم يكن الهلال الأحمر القادم من مناطق النظام السوري، بذلك الباذخ على المهجرين، وليس بالقادر على تأمين كل الاحتياجات، فكانت مساعداتهم شحيحة، لم تسعف المدنيين المهجرين جميعهم، فيما بقيت الأنظار الدولية شاحبة نحو زاوية سورية أخرى، قد تكون أسبابها الرئيسية في نجاح المروجين من المعارضة السورية لهذه البقعة التي اختار أحد الفصائل المهجرة منها، عفرين مكاناً جديداً للاستيطان، رغم عدم وصول أياً منها إلى الآن، إلا أن ما أشيع على لسان بعض من قوَّادها عن أنهم اختاروا عفرين وجهة جديدة بعد خاصرة العاصمة دمشق.

في غرب الفرات المقابل لعفرين على مسافة بعيدة منها، والمرتبط معها بمصير تركي تحضره السلطات التركية، كانت منبج هي الحدث الأبرز، إلا أن التعنت الأمريكي ورياحها القوية، مع التحضيرات العسكرية واستقدام التعزيزات من معدات وآليات، أدارت شراع تركيا إلى وجهة أخرى هي تل رفعت وقرى بمحيطها، ولكن السفينة التركية والتي تحمل على متنها المعارضين السوريين العسكريين، توقفت عند محيط البلدة، فرغم الصفقة الروسية – التركية على تسليم رفعت للأخيرة، إلا أن إيران وضعت العصي في عجلة العملية، ورفضت بشكل قاطع  -على المدى المنظور- تسليم تل رفعت، فكان الرفض قادماً مع صيحة من قوات سوريا الديمقراطية، بالرفض المماثل للانسحاب، واختيار القتال المباشر كوسيلة لتحقيق غاية البقاء في هذه المنطقة، إذ لا يرغب الإيرانيون بتقليل حصتهم من المائدة السورية، لصالح تركيا التي تتفق مع إيران في المحافل الدولية المتعلقة بسوريا، إلا أنها تتصارع معها على النفوذ ضمن الأراضي السورية، وللشمال بقية يتبع في الفقرات اللاحقة، فيما بقي التصادم مشتعلاً بين كل من حركة نور الدين الزنكي وفصائل أحرار الشام وصقور الشام من طرف، وهيئة تحرير الشام -المسمى الأخير لجبهة النصرة، على كامل الأرض الممتدة من الريف الغربي لمدينة حلب وحتى ريف إدلب الذي شهد قدوم عشرات آلاف جدد إليه من مدنيين ومقاتلين، عبر اتفاقات موقعة مع روسيا التي ساقت النظام إلى منطقة أبو الضهور في القطاع الشرقي من ريف محافظة إدلب، وأعادت القوات المتجهة هناك إلى الغوطة الشرقية، فكانت المحافظة التي عادت منها لغزو الغوطة الشرقية، وجهة للخارجين من الأخيرة، بعد هزيمة استعمل فيها الروس النيران بكثافة غير مسبوقة موقعين مع النظام أكثر من 7400 قتيل مدني وجريح خلال نحو 5 أسابيع من القصف، الذي بدأ في الـ 18 من شهر فبراير من العام 2018.

الجنــــــــوب السُّـوري

الهدوء سيد الموقف في أقصى الجنوب، فالمحافظات الثلاث الجنوبية تشهد هدوءاً فرضه اتفاق بين قوى إقليمية وأخرى دولية على الساحة منذ تموز من العام 2017، إذ أن الاتفاق الذي كانت أطرافه روسيا وأمريكا والأردن، حوَّل الجنوب إلى ساحة هادئة أفزعت الطائرات في الآونة الأخيرة هذا الهدوء، مع القصف المستمر والعمليات الهامشية المتبادلة، رغم الدعوات إلى فتح الجبهات، فكانت مهد الثورة السورية، أذناً غير صاغية لكل هذه الدعوات، إذ تتميز معارك الجنوب السوري بالتخطيط الفاشل، وتكررت الإخفاقات في الأعوام التي سبقت تموز من العام 2017، بسقوط خسائر بشرية في الساعات الأولى من المعارك، ما حوَّل إعلان معارك من طرف فصائل المعارضة السورية إلى ما يشبه عمليات الانتحار الجماعي أو استنزاف لطاقاتهم.

ليس ببعيد عن جنوب سوريا، وبالتحديد في العاصمة دمشق والغوطة الشرقية المحاذية لها، كان الأسبوع الأخير كارثياً على سكانها وتشكيلاتها العسكرية، فبعد السقوط المتتالي لبلدات ومدن الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، كان لا بد من اتفاق ينهي ما تبقى من مناطق، ولأن العملية العسكرية باتت مكلفة على النظام السوري وروسيا اللذين عرفا الحدود الدولية للمجازر، وحتى يتمكنا من مجابهة آلة المعارضة الإعلامية، فقد عمدا إلى مد بساط الشروط المسبقة، ليمشي فيلق الرحمن وحركة أحرار الشام الإسلامية وجبهة النصرة بمسماها الجديد “هيئة تحرير الشام” على هذا البساط، الذي كان أوله في الغوطة الشرقية وآخره في محافظة إدلب وقد يمتد في قابل الأيام إلى عفرين، فمضت القوافل واحدة تلو الأخرى لتخرج عشرات آلاف المقاتلين وذويهم، ومن أراد من المدنيين الخروج على خلفية رفضهم للاتفاق، وأعادت الاتفاقات المنفردة مع كل فصيل دون الآخر، غوطة دمشق إلى حظيرة النظام، فيما عدا دوما التي طبخ لها الروس وليمة على مقاسها، أشبعت جوع المعارضة وأبعدت يد النظام عنها، لتترك روسيا لنفسها أمر تأمين محيط دمشق، من باب المنة والفضل، فهي القائلة على لسان مسؤوليها الكبار، أنه لولا تدخل روسيا في الوقت المناسب لسقطت دمشق خلال أسبوعين، وبذلك ينتهي ملف الغوطة الشرقية، بعد أن خرج عشرات آلاف المدنيين نحو مراكز خصصتها سلطات نظام بشار الأسد وروسيا لإيوائهم، وبعد أن سيرت القوافل الضخمة واحدة تلو الأخرى على مدار الأسبوع، لتنهي وجود المعارضة السورية العسكرية في حرستا وكامل الغوطة الشرقية، ولتسحب قفل الأمان على بنادق جيش الإسلام الذي أبدا قبوله الكامل بالشروط الروسية فيما وراء الكواليس، بينما بقي صامتاً عن جمهوره وجمهور المعارضة السورية لا ينبس ببنت شفة، فتفاخر أمام معارضة الغوطة بأنه آخر المستسلمين في فسطاط المسلمين

الوسـط السُّـوري مع الغرب

يكاد يكون وسط سوريا هادئاً إلا من مناوشات جانبية، تحاول معارضة شمال حمص من خلالها، أن تثبت للروس أنها صاحبة المبادرة، والقادرة على الرد وإقلاق النظام في مدينة حمص التي يسيطر عليها، ورغم محاصرة المنطقة، إلا أن العمليات الميدانية التفاوضية تجري على قدم وساق، ولو بشكل غير معلن، فالمعارضة تعلن بين الحين والآخر أن هناك لجان منبثقة عن اجتماعاتها مع أعيان المنطقة والمؤسسات العاملة في المنطقة المحاصرة من حمص، هي المسؤولة عن التوافقات الميدانية والسياسية والعسكرية مع الروس، والتي تعود بقوافل إغاثة تدخل المنطقة بين الحين والآخر، وتذهب معظمها لصالح المستودعات العسكرية، التي توزع قسماً على المدنيين و تبيع آخراً وتعمد إلى الاستيلاء على البقية من باب حفظ احتياطات لعملية عسكرية مرتقبة، قد تخطط لها روسيا بعد الانتهاء من تأمين دمشق.

في حين لم يكن لحماة أي نصيب من العمليات العسكرية، واقتصرت الميدانيات فيها على عمليات قصف جوي وبري لقوات النظام السوري، التي تركز جل قصفها على بلدة اللطامنة المتاخمة مع كفرزيتا لمناطق تواجد قوات النظام السوري، فيما تبقى هذه الجبهة المفتوحة على إدلب والمتصلة معها، جبهة باردة إلا من عمليات استهداف يجريها كل من جيش العزة وجيش النصر وفصائل نشطة في المنطقة، في حين بقيت تخوم محافظة حماة مع إدلب، مكاناً ذو أهمية راهنة، فمنطقة قلعة المضيق هي الوجهة الرئيسية للحافلات المحملة بمقاتلي الغوطة الشرقية، واتفاقات تغيير البنية السكانية في سوريا بين روسيا التي احتلت الغوطة الشرقية وتركيا التي احتلت عفرين واستولت عليها إلى أجل غير منظور، بينما بقي الغرب الساحلي هادئاً إلا من استهدافات جرت بشكل متبادل بين فصائل المعارضة والحركات الجهادية المتمركزة في جبلي التركمان والأكراد وبين قوات النظام السوري حلفائها المتمركزة على مقربة منها في تلال تابعة للجبلين. 

شرق سوريا وجزيرتها وباديتها

لم يكن هذا الأسبوع بالاعتيادي في البادية السورية، وبالتحديد في أقصى شرقها، بل عاد تنظيم الدولة “الإسلامية” إلى النهوض من رماده، بعد أن صيرته الألاعيب الدولية التي هدفت إنهائه، من قائد لمساحة تعادل 10 دول من أشباه لبنان، إلى جيوب موزعة تبدأ من جنوب دمشق العاصمة، وتصل إلى التخوم الجنوبية لمحافظة الحسكة، المتلاصقة تماماً مع شمال دير الزور، فمقاطعتا الجزيرة والفرات لا تزالان مع حمص والعاصمة دمشق تحتويان على آخر المراكز لهذا التنظيم، الذي انتفض في توقيت مدروس، فكان الهدف الدولي المائل إلى مخطط مدروس يرمي لفصل الوجود العراقي العسكري الرسمي، عن الوجود العسكري لميليشيات هذا البلد والميليشيا الأخرى المتحالفة معه داخل سوريا، وهو الطريق الرسمي الذي قاد قاسم سليماني معاركه، لفتح طريق “المقاومة” من طهران إلى بيروت، بين الأم الإيرانية وطفلها اليافع حزب الله اللبناني، فمعظم البادية تأمن على نفسها في الوقت الراهن، وعودة تنظيم الدولة “الإسلامية” لن تكون بشرى، بل إن البوم حط على الحدود السورية – العراقية، فتحرك التنظيم في هذا التوقيت، المتزامن لزاماً مع استقدام القواعد الأمريكية في حقل العمر النفطي وشرق الفرات، سينجم عنه حرب جديدة، من المرجح وفقاً للمنظور من الأوضاع خلال الأيام الفائتة، أنه سيجسد مجدداً قوة التنظيم الضاربة، الذي من شأنه أن ينتزع البوكمال وشيئاً من الحدود السورية – العراقية لصالح تنظيم الدولة “الإسلامية”، وسيستدعي تحركاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وقوات التحالف الدولي، إلى التدخل وقطع دابره عبر عملية عسكرية ستنطلق من شرق الفرات المقابل للبوكمال وستمضي قوات التحالف والقوى المدعومة منها نحو شريط حدودي بعرض محدود من شأنه أن يفسح المجال أمام فتح ملف جديد في ساحة الصراع السورية، وهو صراع أمريكي – إيراني، والذي تحاول الأخيرة سد بواباته عبر تقارب مع القوات الكردية في منطقة شرق عفرين، من خلال تحالفات آنية لا يُعلم بأية صفقة جديدة ستسقط، هذا إن أبدى الأتراك موقفاً محتضناً للنهم الإيراني، وأبدوا كذلك رغبتهم في تنويم قيمة الصفقة في حسابات البنوك العسكرية والسياسية والمذهبية لإيران البعيدة، التي تقاتل في الداخلي السوري بدعوى حماية الوجود الشيعي -المحتضن إعلامياً للوجود العلوي-، إذ تسعى الولايات المتحدة من خلال القراءات في سطورها وما بين سطورها، إلى إنهاء الحلم الإيراني، وإيقاظ من هذا الحلم على واقع يكون بين مرَّين اثنين أحلاهما وجود لتنظيم إسلامي سني متطرف، وأسوءهما وجود أمريكي غير معلوم المصير.

المتغيرات قائمة، وتحرك إقليمي واحد وفق المصالح قد يطيح بكامل المعادلة، وينتج خليطاً جديداً، يسعى البعض فيه إلى عدم استقرار هذه البلاد، فالعام الثامن من الثورة التي صُيِّرت حرباً هو عام روماني بامتياز، تحاك المكائد فيه وتكون كل المراهنات المحلية رهن إشارة القوى الإقليمية والدولية، التي أبعدت بعضاً وأتاحت المجال لآخرين فاعلين بشكل أكبر للعمل ضمن منظومة الصراع السوري القائد إلى عراق من نوع آخر، لتكون الحرب ومفرزاتها أهم ما تلده هذه المكائد.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى