دراسات

الأناركية في روج آفا… من إعادة التقويم إلى مزاولة الفعل السياسي

على الرغم من النكسة الأناركية المتجلّية في نموذج الإدارة الذاتية على مستوى مسار الثورة الروسية والإسبانية، وبعض التجارب العمليّة التي أجهِضَت تحت ضغط النظام الاقتصادي المركزي والسلطة السياسيّة المركزية لصالح جهاز الدولة والحزب الواحد، مثل ما جرى في يوغسلافيا سابقاً في زمن ديكتاتورية يوسب تيتو، لكن اضطر بعض النقاد أن يعترفوا بأنّ انتكاسة الإدارة الذاتية متبوعاً في التاريخ الأناركي بـ “لحظات فجائية” ستظهر مجدداً في المستقبل كلّما تورمت أجهزة السلطة والهرمية داخل مؤسّسات المجتمع، كأنّها عمليّة تشبه استنهاض الهمم وردة الفعل الغرائزي نحو لحظات إدارة الذات المجتمعي الحرّ.

هذه اللحظة الفجائية تمثّلت بصورة بارعة في ثورة مايو 1968 التي قادتها طلبة الجامعات والحركات النسوية وشباب العمال في معظم البلدان العالمية، وحملت معها تغيّرات كاسحة، إذا اشتركوا معاً في عامل السن والشعور بالاغتراب المشترك ضدّ النظام البرجوازي والأبويّة الذكورية الهرمية في المؤسسات الثقافية، فضلاً عن مساوئ الاشتراكية الستالينية المركزية. كانت لحظة الفعل المباشر ضدّ القوانين والنظام القمعي، ومقاطعة أرباب العمل وعزل الطلبة انفسهم عن المحاضرات في الجامعة، ثورة شبابية جماعية بلا رأس كما يقول دانيال غراين، حيث وضعوا حداً لمفهوم القيادات، والمكانة الاجتماعية التقليدية، تجلّت في ممارسة الديمقراطية المباشرة، وضرورة بناء المجتمع على رافعة الإدارة الذاتية عبر الحوار بين الآلاف وكيفية تواصل الجماهير مع بعضها البعض.


اقرأ أيضاً: 

بزوغ تاريخانية “الأناركية” قولاً وفعلاً

إعادة تموقع مكانة الأناركيّة في الثورة الروسية والاسبانية


صبِغت هذه الأجواء في عبارة مؤثرة على لسان دانيال غراين: “لقد ارتشف كأس الحرية حتى الثمالة”، وجرى تشنيع كلّ أشكال السلطة الهرمية، لتعاود ظهور لفظة الإدارة الذاتية إلى الواجهة بين الطلبة والعمال وباقي الشرائح الاجتماعية، صحيح أنّ ثورة مايو لم تسعى إلى تطبيق الإدارة الذاتية تماماً، برغم أنّها اقتربت من ذلك أو كادت أن تفعل، لكنّ الفكرة قد سكنت وعي الجماهير، وستعاود مجدّداً في خضم كلّ الثورات، وهو ما نلاحظه حالياً في نموذج روج آفا- شمال سوريا.

ثمرة جهود أوجلان

تبنّت روج آفا- شمال سوريا مفهوم الأمة الديمقراطية التي طرحها المفكّر عبدالله اوجلان والتي تستند في مفهومها على قاعدة الحرية والمساواة والتنوع بين الأمم والشعوب والفئات والطبقات أساساً لها في الشكل الإداري والذهني، في الواقع، يشير أوجلان من خلال مرافعاته الصادرة من سجن إيمرالي بأنّ تاريخ الإدارة الذاتية لم يكن مقتصراً على الغرب، بل هذا التاريخ موغلاً في الثقافة الشرق أوسطية جنباً إلى جنب مع السلطات المستبدة، ويتجسّد هذا التاريخ في بنية كونفدرالية القبائل والعشائر والطرق الدينية الصوفية والنقابات المحلية في المدن والتيارات الإثنية المختلفة التي لم تخضع لسطوة السلطات المستبدة منذ ظهور الحضارة السومرية على مسرح التاريخ وصولاً إلى بزوغ الدولة القومية المركزية، بل أنّ الثورة الزراعية التي شيدت في بلاد ميزبوتاميا والتي تدور  حول نموذج المرأة- الأم، مثّلت أقدم شكل التاريخ حول الإدارة المجتمعية.

لم يكتف أوجلان باقتفاء الآثار التاريخية لهذا النموذج، بل حاول أن يستلهم من التجربة التاريخية العصرانية، بغرض تعميق هذا النسق على المستوى النظريّ والعمليّ، ومن أجل ذلك وسّع آفاق البحث عن الحرية، ليحتوي على جميع التيارات الاجتماعية التي بقيت خارج ولاء الدولة المركزية القومية، فهذه القوى كما يشدّد أوجلان في المرافعة الخامسة المنشورة تحت عنوان” مانفيسيتو الحضارة الديمقراطية” قادرة أن تنشأ الإدارة المجتمعية التي تتشارك في الذهنية والثقافة وتوحيد مقوماتها في ظلّ المؤسّسات الديمقراطية، بحيث تشكّل الإدارة الديمقراطية وشبه الاستقلال السياسي، جوهر صيرورة الأمة الديمقراطية، وتتخذ من الأمة الديمقراطية بديلاً عن الدولة القومية.

من هذه الزاوية الشاملة سيتوجّه أوجلان إلى إعادة تقيم الأناركية مجدّداً ضمن التيارات الساعية إلى الحرية بمنأى عن نظام الهيمنة والخضوع، إذ يرجّح أوجلان كفّة رواد الأناركية على روّاد الماركسية التقليدية من جهة تحليل النظام الرأسمالي الذي ليس بوصفه احتكاراً خاصاً أو مجسداً في الدولة، وإنّما حداثةً لا تقبل المجتمعات التقليدية ونظامها الأخلاقي والسياسي والديمقراطي، وهو يؤيد حجة “الأناركية” التي تنشرح في تفكيك السلطة في الدولة القومية على الصعيد المادي والمعنوي، علاوة على انتقاد هذا التيار ظاهرة التمدّن والصناعوية المفرطة في إنتاجاتها التي تسيّرها الطبقة المحتكرة، كما وسعت الأناركية انتقاداتها في وجه السلطة، ليشمل كافة البنيات الاجتماعية داخل المؤسسات التي تزعم أنّها لا تعمل وفق إرادة الدولة المركزية.

بيد أنّ أوجلان يسرد بنفس الوقت، ملاحظات نقدية في غاية من الأهمية في تقيم” الأناركية” في مرافعته المعنونة بـ” سوسيولوجية الحرية”، وذلك من جهة العطب الذي رافق الأناركية في انعزالهم داخل البنية الطبقية الحداثوية نفسها، وعدم تطوير نموذج اقتدار الإدارة السياسية الحرة ضمن نموذج الحداثة الديمقراطية؛ أي أنّ الإشكالية بقيت في البديل المصاغ في مواجهة بنية السلطة والهيمنة والإدارة الدولتية البيروقراطية.

من هذا الإطار النظري المختصر، نسلّط الضوء على تجربة الإدارة الذاتية في روج آفا بناء على تصوّرات أوجلان النظرية، وضرورة تفادي العثرات التاريخيّة في حال تكريس هذا المشروع الذي بدأ الشروع به فعلياً في كردستان تركيا، قبل فترة انقلاب رجب طيب أردوغان على عملية السلام عام 2015، وهو يتمدّد ويتوسع في روج آفا- شمال سوريا حالياً.

فور انسحاب النظام البعثي من مناطق شمال سوريا، شرعت حركة المجتمع الديمقراطي” TEV DEM” في بناء مؤسّساتها الخاصة بنموذجها المطروح من حيث الإدارة السياسيّة والمجالس الشعبية والتشكيلات العسكرية للدفاع الذاتي، بل والاقتصاد الذاتي المكوّن على شكل الكومينات المحليّة في المدن والقرى، وتنظيم ذاتها اجتماعياً عبر مؤسساتها المحلية والمدنية، بدت تلك الساعات التي بدء الشعب بطرد النظام،  كصرح أوليّ في بناء النسيج الاجتماعي لهذا النظام المدشن، كانت لحظات شعبية تعبر عن النضج الشعبي، وليس ساعات الفوضى حسب دعاية السلطة المتمركزة ، سواء في البلاد أو خارجها، بل لحظات تشي بالمسؤولية الثورية الاجتماعية، وتسعى إلى بناء هويته السياسية عبر الفعل الجماهيري الشعبي في مواجهة اقتلاع ثقافة مستبدة ذات الطراز العرقي الفاشي، ربما من حيث الشكل الظاهري كان يتقاطع مع الحركة الثورية العامة في البلاد، لكن من حيث المحتوى والممارسة سلكت طريقاً مختلفاً من حيث الهدف العملي والنظري في اللحظة الحاضرة التي تسعى إلى بناء مستقبل مغاير عن الثقافة الهيمنة التي كرسها النظام البعثيّ.

في هذا المنعرج الثوريّ، يبقى السؤال الذي يلازم دوماً الثورات في كيفية انعتاق التحرّر من أجهزة التسلّط والهرمية والهيمنة أولاً، ومن ثم بناء النظام السياسي والديمقراطي والأخلاقي الحرّ ثانياً، وعادة ما تبرز دور الشريحة القيادية في توظيف دور الملهم للجماهير، أكثر من فرض التوجه المركزي الصارم الذي لا يتفاعل مع الناس ومشاعرهم، حيث تجد الشريحة الثورية الريادية في شمال سوريا اليوم نفسها أمام مهمّة تاريخية تتلخص في بناء مجتمع أخلاقي ديمقراطي في الشكل الفيدرالي المنشود، تكافح من خلالها بعدم تحويل الإدارة الممأسسة إلى سلطة تصب في قفص التنظيم المركزي الشديد.

ولأنّ الإدارة كفاءة مجتمعية تتطلّب الخبرة السياسيّة والتقنية معاً، من جديد نلاحظ انعكاس الرؤية الأوجلانية التي تعرِّف الإدارة بأنّها “العقلي المجتمعي”، فأوجلان يفصل بين الادارة الذاتية والادارة الغريبة الأجنبية من خلال تبيان الوظيفة، حيث يقول :” بينما تقوم الإدارة الذاتية بتنظيم القدرات الكائنة في طبيعتها الاجتماعية ومراقبتها، وبالتالي تؤمن سيرورة المجتمع، وتأمّن مأكله ومأمنه، فإنّ الإدارة الغريبة تشرعن نفسها كسلطة وتعمل على إغواء المجتمع المتسلط عليه لتقدر بالتالي أبعد تحويله إلى مستعمرة لديها”. من هنا فالإدارة الذاتية تتمتّع بأهمية مصيرية بالنسبة لمجتمع ما إذا ما أراد بناء النظم الديمقراطي السياسي.

جذور ثوريّة ثابتة

الثورة المجتمعية، هي الحاضرة والمستمرة في شمال سوريا بخلاف الدعاية التي تقول إنّ الثورة تلاشت في سوريا، وبطبيعة الحال ستواجه هذه الثورة صراعاتها الفكرية مع التيارات ذات التوجه اليميني السلطوي سواء داخل القوى المنخرطة في الثورة أو تلك القوى التي تقف ضدّ المشروع، حيث أنّ عناصرها الثوريّة تتهم القوى اليمينية بعرقلة الثورة ومشروعها تحت يافطة “مشروع طوباوي”، هذا الاتهام ليس أمراً جديداً، فجميع الحركات الأناركية اتهمت بالطوباوية، ولنفترض جدلاً ذلك! لكن أليس الخيال عنصرا تأسيسيّاً في عملية انتاج الحقائق الاجتماعية والمادية؟ كما يعبّر عنها ديفيد غروبر، كذلك بالنسبة لماركس الذي رغم بغضه للاشتراكيين الطوباويين، فإنّه كان يلامس في الخيال عنصراً فعالاً كخطوة أولية في عملية الإنتاج عندما أشار إلى خاصية فريدة لدى البشر: “أنّهم يستبصرون الأشياء أولاً، ثم يجلبونها إلى الوجود”، في حين يدحض أوجلان هذه الذريعة التي تكرّس الواقع القاتم بفعل نموذج الحداثة الوضيعية، بقوله: “الميتافيزيقية خاصية أوليّة للإنسان المجتمعيّ، فالميتافيزيقيا حقيقة إنشائية مجتمعية لا يقدّر الإنسان الاجتماعيّ على العيش بدونها، فإذا ما جرّدنا الإنسان من الميتافيزيقيا، فإنّنا نحوّله بذلك إلى حيوان بامتياز، أو نحوّله إلى جهاز حاسوب، ونعدم فيه خاصية الأخلاق والفن والجمال”.

يبدو أنّ الغاية من مواقف هؤلاء العدميين والذين هم أقرب إلى الميتافيزيقيين العلمويين هو نشر اليأس وبعدمية جدوى النضال المتمحور حول الإدارة الذاتية عبر تمزيق الخيال المجتمعيّ، هذه الذريعة واجهتها ثورة روج آفا- شمال سوريا، بحجة متماسكة عبر محاولة استعادة الذاكرة الاجتماعية، وهي أنّ الشعوب والأمم والأقوام والقبائل والعشائر وجميع الهويات الثقافية عاشت حالة من الاستقلال والاستقرار قبل العهد السلطوي والدولتي، مستندة في ذلك على منهجية تاريخية قدمها المفكّر اوجلان عبر مرافعاته.

من تبيان في المكان، يعزّز أوجلان من نظريته بغرض تجاوز المنطق الطبقي الكلاسيكيّ، فمن ضمن القضايا الاجتماعية المعقّدة في المنطقة وسوريا بطبيعة الحال، حيث تكمن قضية المرأة التي تعتبر من أعقد القضايا الاجتماعية وأكثرها إلحاحاً كضرورة تاريخيّة تتطلّب الحلّ.

ولو ألقينا الضوء على النشاط العمليّ في روج آفا، لتلمّسنا مدى قوة الحضور البارز للحركة النسوية في ثورة روج أفا – شمال سوريا والتي باشرت بتأسيس تنظيماتها الخاصة بها، لتساهم بفعالية كبيرة في إنشاء المجتمع الجديد عبر الانخراط في المجال النضاليّ والثوريّ، ولعلّ إلهام نضال المرأة في روج آفا- شمال سوريا، لفت أنظار الرأي العام العالمي من خلال مقارعتها لموجة الإرهاب التي تضرب المنطقة، وتستند المرأة في ذلك على خلفيّة فكريّة وعمليّة متماسكة، تؤكّد بأنّ المرأة المتحرّرة تعني مجتمعا متحرّرا بعيداً عن النزعة الليبرالية الاستهلاكية التي تزيّن المرأة في واجهة المؤسّسات الذكورية الناعمة، سيّما أنّ واقع الشرق الاوسط وممارسته لآلة العنف بشدة تجاه المرأة والقمع الشديد الذي تتعرّض لها كيانها الإنسانيّ، لا تحتمل هذه المقاربة الشكلانية الزائفة.

خاصّية الشمال السوري، تكمن في التجهيز المسبق للأزمة السورية بوضع أسس الثورة الاجتماعية عبر فعالياتها المحظورة، إذا يسلّط القيادي في حركة المجتمع الديمقراطي آلدار خليل، في كتابه المنشور مؤخراً “صفحات من ثورة روج أفا” الضوء على هذا التاريخ المنسيّ والمخفيّ بطريقة سردية موثِّقة.

ويكشف آلدار في متون هذا الكتاب مدى فعالية النموذج الأوجلاني الذي مهّد أرضيّة صلبة بغرض تحقيق إنجازات عمليّة ونظرية حتى قبل بزوغ ثورة روج آفا- شمال سوريا، بخلاف باقي المدن السورية التي عاشت التشتت والانقسامات وصراعات بين المذاهب والفصائل السياسية والعسكرية التي لم تكن بمستوى آمال الشعب السوري المنتفِض لأجل حريته، ولم تعِش الحياة السياسية المرجوة حتى قبل الثورة السورية، ومن عمق الأزمة السورية، كان مسار الشمال السوري معاكساً بحيث اتخذت رؤيةً مستقلاً بمنأى عن الانحرافات العميقة التي طالت باقي القوى السياسية السورية بسبب التشتت الثوري العفويّ الذي جرى تطويقه بالثورة المضادة من قبل الأطراف المحلية والدولية أمام نظام متماسك استبدادياً في مؤسّساته القمعية.

انطلاقاً من الشروط الخاصة بالواقع السوري وأزمتها المستفحلة، جرى تقويم الميراث الأناركيّ كإحدى أنماط ثورية تستلهم القوى الثورية المحلّية والعالمية وذلك من خلال انخراط الكثير من القوى والشخصيات الثورية التي تشارك وتعمل جنباً إلى جنب مع القوى الثورية المحليّة في مؤسّسات الدفاع المشروع والكومينات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، إذ يقول ديفيد غروبر صاحب كتاب” الثورة والإنسان والأناركية” والذي زار روج آفا- شمال سوريا:” منطقة الإدارة الذاتية تعدّ إحدى النقاط المضيئة للخروج من مأساة الثورة السورية”.

هواجس من النزعة السلطوية

أين تقع مكامن الخلل والعطب في الميراث الأناركي التقليدي؟ على ما يبدو أنّ الإشكالية تكمن في الجانب السياسيّ قبل الاقتصاديّ، وهنا سعى أوجلان إلى إعادة تقويم تجربة الدولة القومية عبر طرح البديل الثوريّ، من خلال نموذج الجمهورية الديمقراطية المتمّثلة في الأمة الديمقراطية، بحيث لا يستهدف هذا النموذج إلى هدم أجهزة الدولة ومؤسّساتها القانونية والتشريعية والأمنية والاقتصادية بطريقة ثوريّة حادة، بل يشدّد أوجلان معادلة” الدولة + الديمقراطية”، إذ يتناول أوجلان بصدد انتقاده للأناركية بأّنهم:” تخلّفوا في تطوير نموذجهم في الأمة الديمقراطية مقابل الدولة القومية، وهو نقد ذاتي يستوجب استدراكه”، فينبغي تقليم أظافر الدولة وأجهزتها القمعية لتبقى هيكلاً تنسيقياً توافقياً مع الإدارات المحلية سواء في الشكل الكونفدرالي أو الفيدرالي، بينما تبقى مشكلة تقليل من التفاوت الطبقي والهوياتي والعرقي والديني من أهم المبادئ المطروحة داخل مؤسسات الإدارة الذاتية في روج آفا، بحيث تستهدف إلغاء التراتبية والهرمية وإحلال خط الإدارة الأفقية عوضاً عن الحلّ التقليدي الأناركي الغربي الذي ينصّ على تبديل الأدوار بين السلطة والمجتمع من (الأسفل إلى الأعلى).

بناء على ما سبق، يغدو مفهوم الديمقراطية المباشرة التي تكون قادرة أن تعيش مع التمثيل السياسي البرلماني أو المحلي، وقد يكون هذا النموذج الأفقي هو الأقرب والأكثر قابلية لتطبيق الديمقراطية المباشرة في حاضرنا على الأقل، وما نشاهده من تدشين الكومينات في روج آفا وبناء الأنظمة الفيدرالية العامة ضمن ثنائية النظام ألية الانتخابات التمثيلية، وممارسة إرادة الأفراد ضمن المؤسسات المحلّية، يحاكي النموذج الإداري السويسري بطريقة تقنية أقلّ تطوراً بكلّ تأكيد، لكنّها ممكنة بما يناسب وضعية سوريا وشمالها وفق شهادات محلية ودولية من أجهزة الاعلام والمؤسسات المعنية في تطوير الديمقراطية، ولعل شعار دمقرطة الدولة وتدشين الإدارة الذاتية الفيدرالية في سوريا بمثابة خطوة متقدمة في تصحيح مسيرة أناركيّي الثورة الروسية والإسبانية.

بحكم أنّ التجربة لم يسدل عنها الستار النهائي بعد، فإنّ هواجس انزلاقها من أهدافها الجوهرية يبقى خياراً مفتوحاً، في شمال سورية لا يمكن إنكار دور القوى الثورية الطليعية في ريادة العملية السياسية والعسكرية والمجتمعية، لكن السؤال الذي نصادفه دوماً في هذه النقطة بالذات، بناء على أرشيف التجارب التاريخية المقارنة، هل سيتركّز دور هذه الشريحة في إلهام وتحفيز وتشجيع القوى الجماهيرية والمجتمعية لترسيخ هذا الشكل الإداري، أم ستغدو أداة مراقبة سلطوية مركزية في بنيتها التنظيمية والإدارية والذهنية؟!

يشير دانيال غيران الى نقطة هامة وخطيرة تتمثل في محاولات بعض الطليعيين من النخبة التنظيمية استغلال قدراتهم الفكرية ومواقعهم الادارية بشكل أناني وخاطئ، بالحلول محلّ الشعب والجماهير نفسها واستلاب إرادتها وشلّ قدراتها الفكرية ومبادرتها تحت شعارات مختلفة، وتفرض عليها هيمنة جديدة، ويؤكد على خطورة هذه الظاهرة وضرورة تلافيها لأنّها تعني استيلاب إرادة المجتمع.

في حين أن باكونين ومن بعده روزا لكسمبورغ ذهبا أبعد من غيران وشدّدا على أنّ “دور الطليعة ينتهي بانتهاء التناقض المعرفي بين العفوية الليبرتارية ( الجماهير) وبين الطبقة الثورية الواعية، وحينها الحاجة تفرض تشكيل هيئات تنفيذية لتحلّ محلّ القادة”، وهو ما يدشّنه أوجلان في نموذج الأفراد الأحرار في المؤسسات المجتمعية الكومونالية بعيداً عن الانزلاق السلطوي الأناني، وكذلك تضخيم من سطوة المجتمع المركزي الدولتي الاشتراكي.

وحسب باكونيين فإنّ :” القادة يجب أن لا يكونوا مرئيين؛ أي أن لا تكون السلطة ظاهرة، لا اسم ولا عنوان ولا قانون رسمي لها كي تخلو من مظاهر السلطة”.

كلّ هذا يؤكد ضرورة أن لا تنجرّ القوى الريادية والإدارة المأسسة إلى المواقف السلطوية، وتظلّ متمسكة باللوحة التي رسمتها عبر مشروعها في مرحلة معينة، تجنّباً لأيّ اختراقات تنخر الجسم الإداري أو تداعيات بيروقراطية مؤلمة، كما حدثت في الثورتين الروسية والإسبانية اللتين عانتا من التناقض بين ضرورة تسليم الادارة للمجالس الشعبية، وبين رغبتهم في الاصرار على التمسك بالحزب في المواقع القيادية العلنية الرسمية، ففي روسيا احتكر الحزب البلشفي كلّ مواقع القيادة والإدارة، بينما في إسبانيا عمل الاتحاد الوطني للعمل على تنظيم قلّة أيديولوجية واعية ضمن إطار نقاباتها المركزية، وفرضت بذلك الوصاية على تلك النقابات واستولت على إرادتها مما أدى لانتشار وسيطرة الطغمة الديماغوجية على مقاليد الإدارة ومن ثم السلطة.

تبقى الأناركية بطرازها التقليدي أو الحديث وإن تعرّضت لبعض التشوهات من حيث الممارسة، لكنّها تنصب في خانة التجارب الاجتماعية التي لم تغلق الأناركية أبوابها ولا نية لها بالانسحاب والتراجع عن مطالبها على المستوى المحلي والعالمي، وهنا نستعين بصورة متفائلة عند الناشط الساسي الأمريكي ديفيد غروبر من جديد “حان الوقت لنعيد الكنز المفقود، فلقد حقّقنا مكاسب جوهرية حتى ولو كانت جنينية ومثل هذه الانتصارات قد تبدو ضئيلة، لكنّها ضرورية للتحول الاجتماعي” على الرغم من صعوبة التطبيق العملي في الكثير من النواحي بسبب تضخم التراكم السلطوي والتاريخي والتقليدي بين المجتمع، تبقى الميراث الأناركي دافعاً موازياً لترسيخ الحرية وتجسير الهوة بين الحرية والتحرّر في بنية الإدارة الذاتية الكونفدرالية أو الفيدرالية، ومع توسيع المفكر أوجلان مفهوم الأمة الديمقراطية تتجلّى الشكل الواقعي العملياتي بصورة واضحة أمام نشدان القوى المتعطشة إلى الحرية بتحقيق الأمل الموعد على أنقاض المجتمعات التي تعيش في أحلك ظروفها في الشرق الأوسط وسوريا.

هنا في روج آفا- شمال سوريا، يطلّ علينا الأمل من الجديد رغم وجود رياح عاتية وخانقة في كلّ برهة زمنية.

 


تم الاستفادة من المراجع التالية:

  • ينظر بشكل عام مرافعات المفكّر عبد الله أوجلان، تجدها في الموقع الرسميّ، الأمة الديمقراطية لمؤلّفاته بتسع لغات (http://netewademokrat.info/ar/ar/).
  • – آلدار خليل، صفحات من ثورة الشعب في روج آفا، ط 1 (دار الشهيد هركول للنشر، ديرك، 2017).
  • الأناركية من النظرية إلى التطبيق, دانيال غيران, ترجمة عومرية سلطاني, الطبعة الأولى (تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، 2014).
  • يمكن الرجوع بشكل عام لكتابات ومؤلّفات كل من(ماكس سترينر، جوزيف برودون، ديفيد غروبر، غاستون ليفاس، إيما غولدمان، روزا لكسمبورغ) عن الأناركية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى