مقالات رأي

سأبيع زيتوني وأشتري مضادات الطائرات

سأبيع زيتوني وأشتري مضادات الطائرات، قالتها وهي في طريقها نحو المجهول, وهي تترك خلفها طفولتها، عشقها، مدينتها، وتترك زيتونها، حيث تجاعيد وجهها توحي كم تعبت لأجله، وكم من ربيع عمرها فدته لتلك الأشجار، وهي تسقيه وتعتني به كما اعتنت بـأبنائها.

وعندما يتحدّث الجميع عن النزوح ومصائبه وتأمين مكان آمن للجوء به، حيث قوافل النازحين الهاربين من القصف الهمجي للجيش التركي على مركز مدينة عفرين, المرأة الكردية ذات السبعين عاما تتحدّث عن المقاومة والوقوف بوجه الطائرات التركية التي انهمرت قذائفها على منزل الأم “هدية”، وشطرت جسد ابنها الأصغر الى قسمين، وهو الذي كان يدرس الدكتوراه، لكن الجروح البالغة في جسده لم تترك المجال لزملائه لمداواته.

مثل الأم “هدية” هناك الكثير من الأمهات اللواتي فقدن فلذات اكبادهن نتيجة هجوم الجيش التركي، والفصائل الموالية له على مدينة عفرين السورية, فهناك ما يقارب الثلاثمائة مدني كان آخر ما رأوه هي تلك القذائف اللعينة التي لم تفرّق بين بشر وحجر.

صاحبة أشجار الزيتون تمشي ببطء، ليس بسبب الأمراض التي في جسدها، وليس بسبب السنوات الكثيرة التي عاشتها, ولكنّها لا تريد الخروج, لا تريد الذهاب, تريد أن تملئ عينيها بأشجار الزيتون، ولكن الدموع كانت أسرع حين اجتاحت عينيها، وهي تنظر لتلك المدينة التي ماتزال الطائرات تحوم فوقها وتمطرها بقذائفها وأصوات الانفجارات تتوالى منها.

عند اقترابها من إلقاء النظرة الأخيرة على مملكتها الخضراء المغطاة بأشجار الزيتون، حيث الحديث عن العفريني والزيتون كالحديث عن عاشقين قضيا جلّ عمرهما وهم يكتشفان جمال بعضهم البعض, على قمة جبل ليلون المطلّ على المدينة تنظر لعفرينتها، قالت لامرأة أخرى تمشي بجوارها:

“منذ أن هاجَمنا الأتراك وبدئت الطائرات بقصفنا قلت لزوجي, أعلم أنّ أولادي لن يتخلّوا عن عفرين، وسيقاتلون حتى النهاية، وهم أقوياء بالقدر الكافي, لكنّ هذه الطائرات لا ترحم، ومن الصعب الوقوف أمامها، وأعلم أنّه لا توجد مضادات الطائرات عندهم، لذلك دعنا نبيع أشجار زيتوننا ونشتري لهم مضادات الطائرات… “.

هي البساطة التي تنهمر من هذه الأمّ، فهي التي لم تسمع بالاتفاقيات الدولية، وعقلها لا يستوعب أنّ الدول مستعدّة لقتل الآلاف لأجل عقد يحتوي عدة براميل من النفط, هي التي قضت عمرها كلّه بين تلك الأشجار، ربما لم تسمع بالغوطة أيضاً، لكنّها لا تعلم بأنّ زيتون عفرين استبدل بفاكهة الغوطة، ولا تعلم أيضاً بأنّ هناك الكثير مثلها خرج ويخرج من الغوطة, هي التي خرجت اليوم مجبرة محيّرة، فهي التي تُجبَر على النزوح وتحتار إلى أين تتوجّه، وكأنّ السبعين عاماً قد ذهب هباء.

الأم “هدية” وعشرات الآلاف من العفرينيين الذين هربوا من الموت باتوا اليوم يفترشون العراء, والشمس باتت تأكل من ذاكرتهم الممتلئة بقصص عفرين، وكلّهم أمل أن يعودوا يوما ما, لكن يوماً بعد يوم يرتفع صوت القصف وتقترب القذائف، ومعه يرتفع صوت شخير المجتمع الدولي وتقترب صفقات جديدة من عنق الشعوب، ولكن تبقى للمقاومة فصول أخرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى