مقالات رأي

ثقافة الفداء

آفيستا خابور وآرين ميركان خلّفتا ثقافة الفداء.

هما ليستا إرهابيّتان أو انتحاريتان ولا شهيدتان كما في المفهوم الإسلامي المشاع.

هما مضحّيتان وفدائيّتان في كلّ السياقات الإسلاميّة – العُرفيّة – الاجتماعية – الفلسفيّة – الأخلاقيّة – الوطنيّة – القوميّة…

 

في الفداء حياة

إنّ تاريخ البشريّة مليءٌ بنضالات الطبقات المظلومة والمجتمعات الثوريّة ضدّ الطبقات الظالمة. العبيد ضدّ الأسياد المستعبِدين، الفلاّحون ضدّ الإقطاعيين والعشائريين، البروليتاريا ضدّ البرجوازيين…

هذه الطبقاتُ صمدتْ وواجهت بشجاعةٍ، وأعطت مثالاً يُحتذى به حتى أيامنا هذه، ونضالها الطبقيّ كان أيضاً ضدّ المستعمرِين المستثمرين والمستغلّين.

إنّ شعوب كوريا، الصين، غينيا، موزمبيق، أنغولا، كمبوتشيا، وشعب فيتنام الشجاع، ونتيجةً للدماء التي بذلتها هذه الشعوب، والشجاعة المتفانيّة وطريق التحرّر التي عبّدتها، صارت مكانتها بارزةً وذا شرفٍ عند حركات التحرّر الوطنيّ العالميّة.

ضرورة ولادة جديدة لثقافة الفداء

المثقّف ( العربيّ، التركيّ، الفارسيّ، وحتى الكرديّ) في الوقت الحاضر لا يواجهُ أعباء الحاضر فقط، إنّما يواجه حضور الوجود بكافّة أبعادهِ الزمانيّة، فهو- والحالة هذه- يحملُ على كاهله أعباء هذه الأمّة التي توزّعت وانقسمت على نفسها في كافة العصور والأزمنة تجاهَ مختلفِ القضايا.

فهذا الحضور للأزمة، والشعورُ بحالة الانهيار الذي أصاب الأمّة طوال تاريخها، يحاول أن يجد له مُتنفّساً من خلال كلمات المثقّف.

كما أنّ هذا الحضور يسبّب للمثقف غُربةً خطيرةً، غربةً أمام الشيء وغربةً أمام نقيض الشيء وغربةً ثالثةً أمام الشيء ونقيضه؛ أي أنّ حالة الانقسام تنعكس أو تتجسّد في وعي ورؤيا المثقّف نفسه، إذ أنّ المثقّف لا يستطيع أن ينسلخ أو أن يعيش خارج التاريخ أو الوجود، فالوجدان في الوجود وفي التاريخ يسبّب قلقاً عميقاً للمثقّف، ويدفعه إلى محاولة إيجاد حلّ لكلّ التناقضات المتوارَثة.

إنّنا نعيش في حالة ولادةٍ وموتٍ مجّانيّة وحقيقيّة، ولكنّ الولادة والموت الحقيقيّ لا يستطيع أن يعي أبعادهما إلاّ المثقّفُ الثوريّ؛ الذي يستطيعُ أن يرى ما في أعماق بئر الشقاء الذي نعيشُ فيه.

إنّ حالة الجفاف الروحيّ والمادّي الذي يتجلّى في الطبيعة والوضع الإنساني يفرّ من خلال الكلمات والأشكال الأدبيّة، ويضع الأديب – الشاعر- المثقف أمام محنة الذي يكتشفُ كوكباً جديداً أو أرضاً بكراً لا تنطبق عليها كلّ المقاييس والنظريات المعقولة؛ أي أنّنا نعيش في حالة اللاوعي واللامعنى، ولكن دون بُعدٍ فلسفي وواقعٍ مادّي يحرّك هذا الشعور باللامعنى.

إنّ المثقف الأوروبي استطاع أن يعي مأساة وجوده ويجد الأبعاد الفلسفيّة كحالة اللامعنى التي يعيشها، لأنّ مسببّاتها واضحةٌ وظاهرةٌ للعيان، ولكن هذه الحالة في حياتنا تكاد تختفي وراء الأصداف والبهارج والضوضاء الكلاميّة، وهذا يقودنا إلى القول إنّ أدبنا ليس بأدبٍ مثاليّ ولا واقعي- بشكلٍ عامٍ طبعاً- أي أنّه لا يصوّر وجوداً معاشاً أو وجوداً متخيّلاً، وإنّما هو وجودٌ قائمٌ في اللغة وعلى الورق فقط!

العُنف الثوريّ في مفهوم ثقافة الفداء

إنّ الثوريّة العدميّة المُقاتِلة التي كان يجسّدها ويمتلكها ويحلّ بها وتحلّ به بطلٌ ثائرٌ مثلَ (تشي جيفارا) هي التي تجعل منه أعظمَ متفائلٍ في عصرنا، لأنّني أعتقد أنّ التفاؤل الحقيقيّ ينبعُ من ضفافِ اليأس العميق؛ أي رفضُ هذا العالَم المعقول واللامعقول، الواقعيّ واللاواقعيّ، والوقوف على حافّة الموت، لأنّ وقوف المثقّف الثوريّ على حافّة الموت هو الذي يصنعُ الأمل الحقيقيّ.

إنّ الهزيمة يُمثّلها الأناس المرضى والأنانيّون واللصوص والقتلة والمرتزقة، الذين يسقطون في العدميّة الميتافيزيقيّة مثل بعض أبطال دوستويفسكي، أمّا اليأس الثوريّ فيمثّله الأنبياء والقدّيسون والمُستلَبون، الذين تُسَدّ في وجوههم جميع الأبواب، ويدفَعون إلى حافّة الموت، وبما أنّهم لا يريدون أن يموتوا، وإنّما أن يصنعوا الحياة، فلابدّ لهم من الانفجار، وهذا الانفجارُ هو ما يُسمّى بـ (العُنف الثوريّ).

إنّ العنف الثوريّ مُبرّر ومشروعٌ أمام الثورات والثوريين، الذين يحاصَرون ولا يملكون أرضاً يقاتلون عليها، أو ينطلقون منها بلا معنويّة أو أصدقاء حقيقييّن، ولهذا فأنا أؤيّد وأؤمن بجميع أنواع العنف الثوريّ الذي يقوم به الفقراء، لأنّهم مهدَّدون بالفناء.

العنف الثوريّ له قوانينه الموضوعيّة، وهذه القوانين تتحكّم به ديالكتياً، وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الإرهاب والجريمة وبين العنف الثوريّ، فالإرهاب والجريمة يمارسها ويرتكبها الاستعماريّون واللصوصُ وعملاؤهم، أمّا العنفُ الثوريّ فهو عملُ الفقراء الإبداعيّ لتغيير العالم، ولمقاومة الإرهاب، وهو الردُّ الوحيدُ على الإرهاب.

آفيستا خابور وآرين ميركان خلفتا ثقافة الفداء، هما ليستا إرهابيّتان أو انتحاريتان ولا شهيدتان كما في المفهوم الإسلامي المشاع، هما مضحّيتان وفدائيّتان في كلّ السياقات الإسلاميّة، العُرفيّة، الاجتماعية، الفلسفيّة، الأخلاقيّة، الوطنيّة، القوميّة.

 

الفداء ثقافة أصحاب الحياة

هي عمليّة تضحيةٍ تربط الفداءَ بالمستقبل، هي حالةٌ روحانيّة مبنيّة على الإيمان بدورِ المخلّص الذي يرتقي بالدنيا من الظلم إلى العدل، ومن الوحشيّة إلى الإنسانيّة، ومن الهمجيّة إلى الاستقرار والأمان، وهو الفداء الذي يصنعُ الخلاص.

الفداء والافتداء والفادي أمورٌ لا تقتصر على شخص بعينه أو على جماعة بعينها، بل إنّ الفرد أو الجماعة المحدّدة قد تشكّل النموذج الأسوة لفعل الفداء الذي حينما يتحوّل إلى قيمة ثقافية ومعنوية فإنّه ينتشر ليشمل كلّ صاحب قابلية والتزام ومبادرة.

والأعمال “الشعائرية” بتقديم الأضحيات هي موقِظات لمن حكمت عليه الغفلة عن مسير الفداء، إنّ الفداء ثقافة أصحاب الحياة، ويحضرني هنا عبارةٌ للشيخ شفيق جرادي، في بحثٍ مطوّل له بعنوان (الفداء وثقافة التضحية والمقاومة) إذ يقول:

“يأتي مصطلحُ الفداء ليشكّل أمام الرؤية الإسلاميّة في علاقة الإنسان بالله والدّين والقضايا والعالم، كما والآخَر الفرد من الناس أو الجماعة، واحداً من المحاور المعبّرة عن الوجدان الإنساني تجاهَ الوجود والفعل الأخلاقي المُلتزم. ذلكَ أنّ هذا المصطلح عاصرَ حسب الرؤية الإسلامية تجربة إبراهيم عليه السلام، واليهوديّة يوم يبيت الذئب والحمل معاً، أو مع المسيح في عَوده الثاني، أو مع المهدي المنتظَر حسب المسلمين.

وحينما نتحدث هنا عن سجيّةٍ ثقافيّة شعبيّة اغتذت من القيم الدينية، فإنّنا لا نقصد بذلك اقتصار هذه الثقافة (الفداء) على الجماعة الدينية وحدها، لأنّ القيم حينما تترسّخ، فإنّها تتجاوز حدود الجماعات، ولو أردنا لهذا الموضوع أو المفهوم مثالاً حيًّا، فإنّ نموذج ثقافة المقاومة يمثّل خير نموذج، لما يحتضنه من تعدّدية مرجعيات دينية وأيديولوجية تلتحم مع ثقافة المقاومة والفداء لتغذّي هذه التجربة وهذه الثقافة بتعدّدية متنوّعة في المرجعيات ووحدة في السمات والسجايا الاستشهادية والفدائية المضحّية التي تشي بصنع مستقبل معقود على رجاء النصر ونور الأمل.. “.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى