مقالات رأي

الخيانة الدولية للكرد عفرين ليست الضحية الأولى

تتشابه ظروف ما حدث بعفرين مع الكثير من مراحل التاريخ الكرديّ الملىء بالخذلان والخيانة، من قبل القوي الدولية تجاه أيّ محاولة كردية للاستقلال أو إقامة أي مشروع خاصّ بهم، وكأنّ قدر الكرد أن يعيشوا بين قوي تحتلّ أراضيهم وأخرى تتاجر بهم وتتلاعب بحقوقهم.

مثّلت معركة عفرين حلقة جديدة من مسلسل الخيانة والتواطؤ الدولي ضدّ القوميّة الكرديّة، ذلك التواطؤ الذي لم يغب يوما عن سياسات الدول العظمى واستراتيجياتها فى التعاطي مع القضيّة الكرديّة على مدار تاريخها.

كشفت معركة عفرين التي تدخل شهرها الثاني أنّ نظرة القوى الدولية حتى الحليفة منها، أو التي ترتبط بعلاقات مع القوى الكرديّة كواشنطن وموسكو، وتقترب من الدونية أكثر من النديّة، فالعالم يحترم الدول، وليس الأقلّيات أو القوميات، وربما يكون أحد مآسي الكرد أنّهم بلا دولة فضلا عن كونهم بلا قيادة موحّدة.

تتشابه ظروف ما حدث بعفرين مع الكثير من مراحل التاريخ الكردي المليء بالخذلان والخيانة من قبل القوى الدولية تجاه أيّ محاولة كردية للاستقلال أو إقامة مشروع خاصّ بهم، وكأنّ قدر الكرد أن يعيشوا بين قوى تحتلّ أراضيهم وأخرى تتاجر بهم وتتلاعب بحقوقهم.

(الشعوب التي لا تمتلك دولة معرّضة دوما للمجازر والإبادة الجماعية) هذه المقولة منسوبة لعالم الإجتماع التركي إسماعيل بيشكجي الذي سجن حوالي 20 عاما بسبب مواقفة الداعمة لقضية الكرد.

تنطبق الكلمة بشكل كبير على القومية الكردية، فالكرد من أكثر الشعوب التي تعرّضت للإبادة والمجازر الجماعية، وهي أيضا من أكثر القوميات التي قامت بثورات شعبية وحركات استقلال ولكن لم يكتب لها البقاء، ولم تنجح أي ثورة كرديّة خلال القرن العشرين.

التضحية بالكرد

بتتبّع الموقف الدولي في التعامل مع القضيّة الكردية خلال القرن العشرين نجد أنّ المصلحة الغربية هي الحاكم للعلاقات مع الكرد، فالغرب يتقرّب من الكرد أو يسمح لهم بالوجود وفق ما تقتضي مصلحته، فإذا ما انقضت تلك المصلحة فلا مانع من السماح بإبادة الكرد واستئصالهم، وليس أدلّ على ذلك مما يجري الآن فى عفرين، بعد أن تخلّت واشنطن عن وحدات حماية الشعب حليفها الرئيسيّ فى مواجهة تنظيم داعش، فلم تمرّ سوى أسابيع قليلة على تحرير الرقة عاصمة داعش على يد وحدات حماية الشعب تحقيقا للمصلحة الأمريكية، حتى تخلّت واشنطن عن حليفتها وتركتها تواجه آلة الحرب التركية وحدها، دون أن تتدخّل لوقف الحرب التي تحصد المدنيين والأطفال.

الموقف الغربيّ من الكرد عبّر عنه الكاتب الإيراني حميد رضا جلائي فى كتابه “المشكلة الكردية” مشيرا إلى نظرية المصلحة التي تحكم سياسات الدول الغربية بعيدا عن أي مبادئ أو شعارات زائفة.

يقول جلائي فى كتابه: (برصد سلوك الدول الغربية نجد أنّه كلّما سارت حكومات تركيا والعراق وإيران في طريق “مصالح” الدول الغربية القويّة، دافعت هذه الدول عن مشروعات حكومات هذه الدول الثلاث في المناطق الكردية).

استراتيجية الكذب

مثّلت استراتيجية “الوعود الكاذبة” جزءا كبيرا من سياسة الغرب تجاه الكرد الحالمين دوما بالاستقلال عن طريق الدعم الغربي، وساعدت قلّة الخبرة السياسية، أو انعدام الوعي والحنكة السياسيّة لدى قطاع كبير من الكرد فى ابتلاعهم للطعم الغربيّ، فكان الغرب يلاعب الكرد بورقة الدولة الكرديّة، وحقّ تقرير المصير، وحقّ الكرد في وطن خاص بهم حتى ينفّذ الكرد المصلحة الغربية، وعندها تتلاشى كلّ الوعود.

مسعود برزاني الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق لخّص مأساة الكرد مع الإحتلال والقوى الغربية فى كتابه “البرزاني والحركة التحرّرية الكردية” بقوله: (إنّ الاستعمار البريطاني لم يكن صادقا أبدا فى وعوده بمنح كردستان الاستقلال).

كلام برزاني تؤكّده الوقائع التاريخيّة، فقد وعدت بريطانيا الكرد بإقامة دولة لهم في اتفاقية سيفر 1920م، وألزموا الحكومة التركية بالاعتراف بذلك، وحصل الكرد – وللمرة الأولى في التاريخ – على الاعتراف العالمي بالدولة، ولكن بريطانيا تجاهلت هذا النصّ وأخلفت وعدها للكرد ولم تذكر أي شيء عن حقوقهم فى الاستقلال وإقامة دولة فى اتفاقية لوزان 1923 التي وقّعت بين دول الحلفاء وتركيا.

تاريخ الخيانة

ويري المستشرق السوفيتي لازاريف فى كتابه “الإمبريالية والمسألة الكردية” أنّ الدور البريطاني ضد الكرد بدأ يظهر بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، إذ سعى الإنجليز لاحتواء ثورات الكرد بتقسيم كردستان بين تركيا والعراق، وإيران وسوريا، فعقد الإنجليز اتفاقيات بين الدول الثلاث الخاضعة للنفوذ البريطاني “تركيا والعراق وإيران”، لحفظ أمن الحدود، ولحصار الكرد ومنعهم من توحيد كردستان، ساند الإنجليز القوميين الأتراك، ودعموا أتاتورك لدوره في إلغاء الخلافة ومحاربة الشريعة والدين، ووقفوا ضدّ الكرد، وقاموا بدعم الحكومات العراقية التابعة لهم لإخماد ثورات الكرد بكلّ قسوة، ونفس السلوك فعلوه في إيران لمنع الكرد الإيرانيين من الثورة، والتواصل مع كرد تركيا والعراق.

وقدّم الإنجليز السلاح والدعم للحكومات التابعة لهم في الدول الثلاث، وساندوا جهودهم في التصدّي ورفض أيّ حركة لاستقلال الكرد، واضطرت للتدخّل بنفسها، واستخدام سلاح الجو الملكيّ لقصف الكرد في العراق، وعلى الحدود الإيرانيّة العراقية أكثر من مرة.

الخيانة الروسيّة

عمّق التواطؤ الروسيّ فى عفرين الجرح الكرديّ، بعد أن سمحت موسكو لأنقرة بالتدخّل العسكريّ بالمدينة، والمفترض أنّها تخضع لحمايتها، ويتواجد بها أفراد من الحماية الروسية، فالموقف الروسيّ لم يكن غريبا عن التاريخ السوفيتي فى التعاطي مع القضيّة الكرديّة، والذي اتسم في معظم فتراته بالتواطؤ والخيانة.

الاهتمام الروسيّ بالكرد قديم، حيث يعود إلى بداية القرن التاسع، عندما بدا لروسيا القيصرية أهميّة دورهم في حروبها مع الدولتين العثمانيّة والفارسيّة، وسعيها إلى توسيع مناطق نفوذها في ما وراء القوقاز، إذ نظرت روسيا إليهم دوما كمحاربين أشدّاء يمكن الوثوق بهم.

وقف الكرد إلى جانب روسيا في حربها مع الدولة الفارسية (1804 – 1813 و1826 – 1828) وكذلك في حربها مع الدولة العثمانية (1828 – 1829) وغيرها من الصراعات، لكن الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه التجارب هو تخلّي الروس عن آمال الكرد على مذبح مصالحها المشتركة مع هذه الدول، وفي التاريخ شواهد كثيرة، لعلّ أهمّها:

– قبيل الحرب العالمية الأولى وعدت روسيا القيصرية بإقامة دولة كردية وبنت علاقات قوية مع الكرد في إيران وتركيا، ولكن مع انهيار الدولة العثمانية وصعود نجم مصطفى كمال أتاتورك وتأسيسه الجمهورية التركية عام 1923 سرعان ما تخلّت روسيا عن الكرد، ودخلت في تحالف وثيق مع أتاتورك، الذي كانت مرحلة حكمه من أكثر المراحل دموية ضدّ الكرد، حيث قمع بشدة كلّ انتفاضة كرديّة طالبت الاعتراف بالكرد وحقوقهم في تركيا.

– تعتبر جمهورية كردستان الحمراء شاهدا على تاريخ الخيانة الروسية للكرد، حيث تأسّست في بداية عهد لينين يوليو 1923 وبإيعاز من رئيس الاتحاد السوفيتي نفسه، وكانت جمهورية حكم ذاتي تابعة لحكومة آذربيجان، استمرت لمدّة ست سنوات فقط، وكما بارك الاتحاد السوفيتي قيامها، كان هو أيضا وراء نهايتها، وتعرّض الكرد لسياسات عنصرية بشعة من قبل السلطات الآذرية، فمنعوا من التحدّث باللغة الكردية، من أجل صهرهم ضمن الأكثرية الآذرية، وتم هجير أكثريتهم إلى جمهوريات آسيا الوسطى وسيبيريا، ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم.

– تعتبر جمهورية مهاباد الكرديّة في إيران التي نشات عام 1946 شاهدا آخر على الخيانة الروسية للكرد، حيث نشأت بدعم مباشر من القوات السوفيتية التي دخلت عاصمة الجمهورية لتوطيد الحكم الكردي الجديد بقيادة قاضي محمد، لكن سرعان ما تخلّت روسيا عن الجمهورية الوليدة، وذلك بعد صفقات نفطية مع حكم شاه وضغوط بريطانية قويّة، وهكذا لم تصمد جمهورية مهاباد سوى 11 شهرا لتنهار بعدها على وقع دخول الجيش الإيراني عاصمتها، وليساق رئيسها قاضي محمد مع العديد من قادته إلى حبل المشنقة.

الخيانة الروسيّة للكرد امتدت من العشرينات حتى تسعينات القرن الماضيّ، حيث شهد عام 1992 إعلانا لولادة جمهورية لاجين الكردية برئاسة ويكيل مُصطفاييف في مدينة لاجين، وكالعادة لم تنجح الدولة وانهارت بسرعة، نتيجة لممارسات الحكومة الآذربيجانية، التي تلقّت دعماً مباشراً من الأتراك، جنبا إلى جنب مع الصمت الروسي والمحاولات الأرمينية للسيطرة على المنطقة.

سر الخيانة

يري عالم الاجتماع التركيّ إسماعيل بيشكجي (أنّ الكرد أمة بلا دولة، والهدف الرئيسي للاستعمار الدولي هو أن يحول دون تأسيس دولة كردية، الأمر الذي يسهّل الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية ولآبار النفط والمياه والمعادن الأخرى من ثروات كردستان).

كما يعتبر بعض المؤرخين أنّ هناك أسبابا عقائدية ودينية وراء الموقف الغربيّ الرافض في حقيقته لقيام أيّ دولة كردية، أو نجاح أي ثورة، واستدلّ هؤلاء على ذلك بالموقف البريطاني من ثورة الشيخ محمود الحفيد فى أوائل العشرينات، حيث تدخّل الإنجليز بكلّ قواتهم البرية والجوية لإخماد الثورة بالتعاون مع الحكومة العراقيّة، وطاردوا الرجل فى الجبال حتى أصابوه، ومن ثمّ نفوه إلى الهند.

أبعاد عقائدية

ويرجِع مراقبون هذا الموقف البريطاني من الشيخ الحفيد لخوف الإنجليز من الشيخ لتديّنه وكونه أحد أقطاب الطريقة القادرية وتأثّره بالخلافة العثمانية، وهذا الرأي ربما يتوافق مع نظرية الخلاف العقائديّ وحالة العداء التي يكنّها الغرب للكرد كما يراها عثمان علي، صاحب  كتاب “الحركة الكردية المعاصرة”.

ويري الكاتب أنّ كراهية قادة الغرب للكرد تفوق كراهيتهم لأيّ شعب آخر، فقد سمحت بريطانيا ودول أوربا بانفصال شعوب وأعراق كانت تابعة للدولة العثمانيّة، في الشام والخليج، وشمال إفريقيا، والبلقان وشرق أوربا، وتمّ الاعتراف بها والقبول بانضمامها إلى عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة بعد ذلك، ولكنّهم لم يقبلوا بتشكيل الكرد لأيّة دولة.

وبحسب الكاتب فإنّ التجربة التاريخيّة تؤكد أنّ الدول الغربية تتلاعب بالكرد وأحلامهم في إقامة كردستان الكبرى المستقلة، وثبت خلال قرنين من الثورات والانتفاضات الكردية أنّ هناك (فيتو) غربيّا ضدّ إقامة دولة موحدة للكرد على حساب التقسيم الذي تمّ إعلانه في سايكس بيكو 1916م عقب الحرب العالمية الأولى، وإنّ هدف إجهاض تلك الأحلام لا يخرج عن إطار الدفع بهم طوال الوقت للصِدام مع الدول القائمة لإضعافها.

ويرجِع الكاتب ذلك إلى أنّ هناك بُعد عقائديّ لا يمكن إغفاله في محدّدات استراتيجيات الدول الغربية، وهو أنّ الكرد مسلمون سُنّة، وجدّهم صلاح الدين الأيوبي قد أذاق الصليبيين الهزائم، وطردهم من بيت المقدس، فهذا الشعب المتمسّك بدينه وقياداته التاريخية الإسلامية جعل دول الغرب تقف في الخندق الكاره لهم، والرافض لحصولهم على حقوقهم مهما قدّموا من تنازلات، ومهما عرضوا من استعداد للدخول في بيت الطاعة الغربي.

ختاما

تبقى عفرين محطّة فى طريق النكبات الكرديّة، محطة يجب تجاوزها سريعا مع أهميّة أن نعي الدرس منها، فقد فضحَت عفرين الجميع، وأسقطت كلّ الأقنعة.

سقوط عفرين يجب أن يكون نقطة انطلاق لبداية جديدة يتناسي فيها الجميع خلافاتهم، لم يعد للكرديّ سوى ربّه وأخيه الكرديّ، فلا مجال للمزيد من الخلافات والانشقاقات، فثمة خياران لا ثالث لهما؛ إما وحدة الصفّ أو الموت.

 


المراجع:

– إسماعيل بيشيكجي، كردستان مستعمرة دولية، ترجمة زهير عبد الملك، د.ط (منشورات APEC للطباعة والنشر، 1998).

– حميد رضا جلائي، المشكلة الكردية، ترجمة: محمد علاء الدين منصور، ط 1 (مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، 2000).

– مسعود البارزاني، البارزاني والحركة التحرّرية الكردية، د.ط (دار آراس للنشر، أربيل، 2002).

– م.س.لازاريف، الإمبريالية والمسألة الكوردية، ترجمة: عبدي حاجي، ط 2 (دار موكرياني للبحوث والنشر، أربيل، د.ت).

– عثمان علي، الحركة الكردية المعاصرة، ط 3 (مكتب التفسير للنشر والإعلان، أربيل، 2011).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى