مقالات رأي

الآلهة على عتبات السياسة

مقدمة

إنّ تاريخ الإنسان على هذه الأرض ، تاريخ حافل بالعبر والتجارب، وبالرّغم من تباين التاريخ من شعب لآخر ومن مؤرخ لآخر، فالتاريخ كما هو متعارف عليه: وجهات نظر متباينة، وأحياناً تكون متناقضة، وبالرّغم من ذلك فهناك خطوط رئيسيّة يمكن البناء على أساسها بعض المبادئ المتفق عليها، مستقاة من تلك التراكميّة في المعرفة البشريّة، وموضع حديثنا هو الدين والسياسة، وأيّهما الأقدم؟! الدين أم السياسة، وما العلاقة بينهما؟ ومن الذي يسيّر الآخر؟ لهذا نعود إلى تاريخ البشريّة لنناقش الإجابة على هذه الأسئلة.

 بدايات الدين والسياسة:

بدأ الإنسان مسيرته على هذه الأرض، صيّاداً بسيطاً يسعى إلى التقاط ما يسدّ رمقه لئلا يموت جوعاً، إذ كانت غريزة البقاء هي أول نواة للوعي البشري في تلك المرحلة، وفي مرحلة أكثر تطوّراً أمسى الإنسان يعي ضعفه مقارنة مع قوّة الطبيعة، فراح يستنجد بالقوى الخفيّة الكامنة في هذا الوجود والمحرّكة له، وبدأ يعبد الطبيعة، لا حبّاً بها، بل خوفاً منها على وجوده المهدّد من قِبل قواها، فقدّس السماء والأرض والجبال والأمطار والرعود والبروق وغيرها من قوى الطبيعة خوفاً، إذا فهذا يوصلنا إلى فكرة أنّ العبادة  كان لها الأسبقيّة في وعي الإنسان على السّياسة الّتي جاءت في مرحلة تليها.

السّياسة: السياسة هي وليدة الاجتماع، فعندما راح الإنسان ينضم إلى بني جنسه ويشكلون نواة المجتمع الذي نعرفه اليوم، وأصبحت العلاقات الاجتماعيّة تتعقّد شيئاً فشيئاً، وذلك بعد تحوّل الإنسان من صيّاد إلى فلاح.

ومع تطور الوعي البشريّ، دائماً ما تتعقّد العلاقات الاجتماعيّة، فتصبح هناك حاجة ملحّة لإنتاج طرق تفكير جديدة وأدبيات تواكب كلّ مرحلة من مراحل تطور وعي الإنسان، والسياسة ولدت من رحم الحاجة الاجتماعية إليها، كمثل غيرها من الحاجات، وبما أنّ الإنسان مفطور على حبّ الذّات وتبجيلها، أصبح لديه ميدان جديد لكي يبرز ذاته، ألا وهو: التّنظير وإيجاد الحلول للمشاكل الّتي تواجه مجتمعه، فالحكمة والّتي هي النواة الأولى لمختلف السّياسات، فالحكماء غدوا سادة المجتمع مع إهمال كبير للجانب الدينيّ الذي أصبح جانباً استثنائياً بعد أن قوي الإنسان باجتماعه بأبناء جنسه، ولم يعد يهاب الطبيعة أو يخاف منها كما كان في مسيرته الأولى، وراح الإنسان يروي غريزة الامتلاك من أرض أو حيوانات أو ما ينوب مناب العملات النقدية التي نعرفها اليوم؛ حبوب، ثمار، صناعات… يقايض بها ليحصل على ما ينقصه من أساسيات أو كماليات، وراح يستأثر بكلّ ما هو ثمين، وأصبح للرجل شريكة لحياته وللمرأة شريك لحياتها فتكوّنت الأسرة، ومن تكون الأسرة وتكاثرها جاءت العائلة، والعلاقات الاجتماعيّة تتعقّد وتتطور حتى تكاد تفلت الرّيادة الاجتماعيّة من يد الحكماء، والذين لم يرضوا بانصراف المجتمع عن حكمتهم وانشغالهم بالجانب المادي.

هنا يحيي الحكماء فكرة قديمة بأدبيات جديدة ليبقى المجتمع داخل عباءتهم، ألا وهي الدّين السياسيّ، وهم على ثقة من الخوف البشري من الطبيعة والمتأصّل بذاته، من خلال تاريخ مسيرته الأولى، وراح الحكماء ينفثون الروح في هذا الوحش النائم في أقاصي وجدان الإنسان، ليبعثوه بحلّة جديدة أكثر وحشيّة وهلعاً مما كان عليه في خرافات تلك المرحلة.

أصبح النهر يحتاج لعروس، والرّعد لأضحية، والمطر لتضرعّ، والحرب لإله….وهكذا أصبح هناك مجموعة من الآلهة، والحكماء تحولوا إلى رجال دين، وهم الوحيدون الّذين يتواصلون مع الآلهة، لتعود لهم الصدارة في المجتمع ويصبحوا الوسيط بين الشعب والمعبود، وهم المشرّعون والمنظّرون والأغنياء والوجهاء والأسياد.

ومع تطور المجتمع ونشوء المدن التي أنتجت الصناعات والمهن، حيث أصبح المجتمع أكثر وعياً، مما أدّى إلى إنتاج الحكومة كضرورة، والذي أصبح وجودها أعظم من وجود رجال الدين الذين راحوا يواكبون هذا التطور بفكرة جديدة، ألا وهي فكرة: الملك ابن الإله، واخترعوا فكرة أنصاف الآلهة، عن طريق ما يسمى مجمع العاهرات المقدّسات وهذه الفكرة هي: أنّ الآلهة قررت أن تمنح قوة إضافية للبشر عن طريق التزاوج مع البشر، ويكون ثمرة هذا التزاوج هو الملك الذي يكون نصفه إلهيّ، ونصفه بشريّ، فتكون له الكلمة العليا على المجتمع، فجمعوا أجمل الفتيات ووضعوهنّ في معبد، لكي ينزل الإله متى شاء ويجامع من يشاء منهنّ.

وراح رجال الدين يجامعون العاهرات المقدسات ويختارون من الأبناء الذين تنجبهنّ العاهرات المقدّسات من يرون فيه المميزات التي يرغبون بها فيتبنونه ويدربونه ويعلمونه، فيصبح تلميذهم المطيع ويقدّمونه للمجتمع على أنّه ابن فلان من الآلهة فيصبح سيّد المجتمع وعبدهم المطيع.

وعلى هذا الأساس مازالوا يقبضون على المجتمع بفكّي كماشة بالرغم من المعارضات والنزعات العقلانية التي واجهتهم،  وكانت السياسة موظّفة لخدمة السلطة الدينية في هذه المراحل، وفي مرحلة الأديان السماوية التي نعرفها، والتي قضت على كثرة الآلهة وأبقت على إله واحد، هنا بدأت الطامة الكبرى، وسفك الدماء على مذابح الرب، ليوظّف الخطاب الدينيّ لصالح الخطاب السياسيّ.

في هذه المرحلة تطوّر العقل البشري وقطع شوطاً كبيراً على مستوى المنطق والهندسة والرياضيات من جهة، ومن جهة أخرى أصبح الدين أفيون الشعوب، كما يقول كارل ماركس، وبهذا أصبح الشرخ واسعاً بين طبقات المجتمع، بين الأغنياء والفقراء، وبين العلماء والجهلاء، ففي بادئ الأمر (التبشير) اعتمد على الفقراء والجهلاء لنشر العقيدة أكثر من الاعتماد على الأغنياء والعلماء.

فالخطاب الدينيّ غالبا ما يكون موجّهاً إلى الفقراء، وغالباً ما يكون أتباع الأنبياء هم الفقراء والجهلاء الذين لديهم سرعة التصديق، على عكس الأغنياء الذين يخافون على مكانتهم الاجتماعية من تهديدات المجتمع البديل.

الخطاب الديني الإسرائيليّ (اليهوديّ):

عندما جاء موسى كنبيّ مرسل من الربّ لتخليص بني إسرائيل من الظلم الذي كان واقعاً عليهم من فراعنة مصر، واستطاع إخراجهم من مصر بمعجزات وخوارق تقصّها الكتب السماوية، وعندما مات موسى وهارون قبل دخولهم أرض الميعاد فلسطين، حيث قبر جدهم إبراهيم وجدتهم سارة، تغيّر الخطاب الديني وأصبح دموياً فجأة، على لسان رجال الدين الذين كانوا ورثة النبوة، فالملك هو نبي أيضاً.

را ح الخطاب الديني على لسان رجال الدين يوظّف في خدمة المشروع السياسي، حيث صار الخطاب الديني يحثّهم على قتل كلّ من يوجد في أرض فلسطين دون تمييز لإقامة الدولة الإسرائيلية بشرط أن يكون القتل والتهجير للشعوب الأخرى على شكل مراحل، لئلا تخلو البلاد من البشر فتفتك ببني إسرائيل وحوش الغاب، هكذا أوصاهم الرب بحسب رجال السياسة والدين في آن، كما أنّهم زرعوا فكرة شعب الله المختار في عقول شعبهم، وراحت المعتقدات الدينية تدعم المشاريع السياسية، ومازال الخطاب الديني في عقل اليهود يخدم الفكر السياسي حتى اليوم، فدولة إسرائيل التي نعرفها اليوم قائمة على هذا الأساس.

 الخطاب الديني المسيحيّ:

بعث عيسى نبياً يدعو إلى السلام والمحبة والتكافل الاجتماعي، ونبذ العنف والكره، وغاب عيسى فتغيّر الخطاب الديني على يد القيصر قسطنطين الذي اعتنق المسيحية، ولخوفه على عرشه من المعارضين أخرج ديناً يتناسب مع سلطانه، فقد قام بدمج الكثير من الطقوس الدينية الوثنية بالطقوس الدينية المسيحية، كي لا يدع فرصة لمعارضيه لمهاجمته لتخلّيه عن دين آبائه وقومه واعتناقه الدين الجديد، فأصبحت الحرب على الشعوب الأخرى حروب مقدسة حروب الرب، وهي في حقيقتها حروب سياسية توسّعية للهيمنة على العالم شعباً وأرضاً بتوصية إلاهية.

وحكم الشعب بالحديد والجوع بينما رجال الدين والسياسة ينعمون بالخيرات ويكنزون الثروات على حساب المجتمع الذليل، حتى بلغ الجوع والذل والعوز بالشعوب درجة الانفجار، وبعد ازدياد عدد المقاتلين في أوروبا وبعد أن اعتنق المسيحية شعوب كلّ من الفايكنج والمجر والسلاف، وأصبحت أوربا كلّها مسيحية، أصبح الجنود عبئاً على الملوك بسبب استقلال بعضهم بالرأي، وبسبب ضغطهم الكبير على الشعب، اخترعوا الملوك عن طريق الخطاب الديني على لسان البابا أوربان الثاني الحرب الصليبية، وكما أطلق القديس بطرس الناسك لسانه مخاطباً الشعب المسيحي والجند حاثاً إياهم على القتال، فكانت الحروب الصليبية التي أخذت صفة دينية وأصبحت تقتل باسم الرب، كما هناك حرب الكاثوليك والأرثوذوكس فتجميع جيش يقاتل خدمة الأطماع السياسية بمنطق وعقلانية شبه مستحيل، ولكن بخطاب ديني واحد يستطيع السياسي تجميع آلاف المقاتلين، وما عليه إلا الاستعانة بمنظر ديني.

حتى أوصلت السياسة الدينية المجتمع الأوربي إلى التطلّع إلى المستقبل بلا دين أو دولة، وجاءت الوجودية، والهبية، والفوضوية….كردّ فعل على الدم الذي سفك لأجل السياسة بجبة الدين.

 الخطاب الديني الإسلامي:

استطاع محمد أن يلمّ شمل شعب متناحر ويجعلهم شعباً واحداً، قوة سياسية لها شأنها بين الأمم وكان خطابه منذ البداية سياسيّا دينيّا، وطموحه هو أن يحافظ على رسالته بقوة تردع المتربصين بدينه، ولكنّه لم يتوقع أن يكون المقرّبون منه أول من يتناحروا على المكانة السياسية بعد وفاته فورا.

فقبل أن يدفن جثمانه في التراب، غلب الخطاب السياسيّ على الخطاب الديني، وتفرّقت الأمة إلى طائفتين، والطائفتان إلى طوائف متناحرة مكذّبة لبعضها البعض، وراح الخطاب السياسيّ يعقّد بساطة الدين، لكي يخرج الطرف المعادي من الملة، وراح علماء الدين كلّ يسعى إلى تكفير الطرف الآخر لكي يكسب شعبية على حسابه، وراح الشرخ بين الطوائف يتّسع بقدر اتساع الشرخ السياسي.

فلكلّ سياسيّ مشروع دينيّ يبدع له مذاهباً جديدة يوظّفها لخدمة مشروعه، والشعب لا يجرّ إلا عن طريق مخاطبة عواطفه من نافذة جهله، وعندما اكتشف الشعب حقيقة الدين المسيَّس في أواخر العصر العثماني، وأصبح الخطاب السياسوديني من التراث والفلكلور المملّ، جاء السياسيون بالخطاب القوميّ الذي أثبت فشله بعد أكثر من مئة مليون قتيل نحروا على مذابح القوميات، وبعد كلّ هذه التجارب المؤلمة يطلّ علينا من ثقب الربيع العربي: الظواهريّ والبغداديّ وغيرهم بلحاهم الطويلة وعمائمهم، يريدون أن يعيدوا للإسلام مجده الأول، خلافة على منهاج النبوة، يحرّكهم في الخفاء، خطاب سياسيّ أذكى من أن يعرفوا هم أنفسهم غايته ولا يتحقق إلا بتوظيفهم كأبواق توقظ المتعطّشين لخمرة الفردوس وحور عين الجنة ومفتاح هذه الأطماع هي العنف، أن يقتُل ويقتَل، ويدخلوا الجنة.

فخطاباتهم كانت كخطابات بطرس الناسك، ولكن الفرق أنّهم أدوات وليسوا فاعلين، لأنّ خطابهم كان دينياً صرفاً بدون تنظير سياسي، فالخطاب السياسي يطيل عمر الخطاب الديني، وكان هنا متواريا، فلقد لعبوا لعبة ليسوا مؤهلين للعبها فخسروا، ودمروا مجتمعات وأجيال، فقد جاؤوا من عصر ليس بعصرهم بساق واحدة وراحوا يتحدّون السياسة والعلم بخنجر صدئ، فنحن اليوم في مرحلة جديدة كلياً، حيث انقلب الخطاب السياسيّ على حليفه الخطاب الديني متخذاً من العلم حليفاً جديداً، وداقاً آخر مسمار في نعش حليفه القديم.

إذا: من خلال ما سبق نستطيع الإجابة على الأسئلة التي طرحناها في البداية.

الدين أقدم من السياسة، ولكنّه يفتقد حيويته بدون السياسة، فالسياسة هي التي تضخّ الشباب في شيخوخة الدين ليبقى قادراً على الاستمرارية، كما يشرع الدين للسياسة بتجاوز التابو وتذليل الصعاب العقائدية، ليصل إلى هدف ما، بصبغة دينية متلاعبا بعواطف الجمهور، مظهرا نفسه بالمدافع عن الدين، لكن الغاية هي الدنيا، فالعلاقة بينهما علاقة مصلحة يسيّر العلاقة ما بينهما.

خاتمة:

العلاقة بين الدين والسياسة، هي علاقة تآلف ووئام وتزاوج وإنتاج مصالح مشتركة، ولم يزل على هذا المنوال حتى قويت قبضة العلم فلكمت به الدين فأفقده وعيه، وراح الخطاب السياسي يخطب ودّ العلم مهاجماً الدين، ولكن ليست المصلحة الدينية بالراضخة والمستسلمة، فمازال لها في عالم الجهل جمهرة عريضة، تهاجم معها العلم والسياسة على حدّ سواء، منتجة فكرا سياسيا خاصا بها، أما الدين الحقيقيّ فلا وجود له، برأيي، وما هذه الأديان التي نعرفها إلا أديان أنتجتها المشاريع السياسيّة، فكل المذاهب أنشأتها السياسات، ولا يعرف الدين الصحيح إلا من عرف ذاته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى