مقالات رأي

يهود قامشلي

يهود قامشلي

قراءة في تاريخ اليهود المعاصر في مدينة قامشلي

 

ولد النبيّ إبراهيم في جنوب بابل بأور، وغادر مع زوجته سارة وأبناء إخوته المنطقة، واتجه عبر الطريق القديم إلى هيت وعانة وماري العمورية والرحبة حتى وصل حرّان (أورفة الحاليّة)، فقد ولد لإبراهيم إسحق، ومن إسحق يعقوب (إسرائيل)، ومن يعقوب يوسف وأخوته الأحد عشر، جميعا في حرّان ومكثوا هناك عشرين عاما، وذلك بحسب الرواية التاريخيّة الدينيّة كما ذكرت التوراة.

إنّ جماعة يعقوب المسمّاة ببنيّ إسرائيل غادرت موطنها الأصليّ حرّان، حوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد، إلى أرض فلسطين ومصر واستقرّوا هناك, ورزق إبراهيم من زوجته هاجر بنت الملك كنعان ولده إسماعيل، ومات ابراهيم وعمره 190 سنة فدفنه إسحق وإسماعيل في حبرون في نفس المقبرة التي دفنت فيها زوجته سارة، وقد نادى ابراهيم بعقيدة التوحيد قبل حوالي 4000 سنة؛ أي قبل ظهور موسى بحوالي 700 سنة، حيث أنّ إبراهيم قد ظهر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد.

يقول ابن بطوطة: إنّ مولد إبراهيم في البرس (برس نمرود) أيام النمرود بن كوش، وينتمي إبراهيم الخليل إلى القبائل الآرامية. كان إبراهيم زعيما ذا مقامٍ سامٍ اجتماعياً ودينياً وسياسياً بين جميع بلاد الشرق ومن أصحاب المبادئ السامية والاستقامة والسيرة النبيلة.

ويعتبر ابراهيم من أمراء الناس في تلك المنطقة، حيث يقول ياقوت الحموي:

أنّ جدّ إبراهيم من أمّه قام بحفر نهر كوثا، وهو أول نهر أخرج بالعراق من الفرات، ويقول مونتوغومري: إنّ ما اتسم به ابراهيم الخليل من الخلق الرفيع وعزة النفس هو من صفات الإباء والاعتداد بالنفس التي يتصف بها الشيخ العربيّ، وقد دلّت التنقيبات التي أجريت في منطقة بابل أنّ تسمية أبراهام – أبرام وردت في عدد من الألواح البابلية في زمن سلالة بابل الأولى بصيغة (أبراما).

هل إبراهيم يهوديّ؟

لقد عاش ابراهيم قبل أن يعرف التاريخ جماعة يسمّون أنفسهم يهوذا بحوالي 1300 عام، وتسمية اليهود لم تظهر إلى عالم الوجود إلا بعد 2300 عام من هذا التاريخ، كما أنّ إبراهيم الخليل نفسه لم يظهر إلا بعد أكثر من ألفي عام من التاريخ نفسه، وكيف جاء اليهود إلى العراق؟ وكيف حوى العراق اليهود؟

لقد حوى العراق اليهود كأسرى وسبايا في زمن نبوخذ نصر الآشوري! وكان ذلك بعد إبراهيم الخليل بأكثر من 1300 عام, ولم يكن لهم وجود في العراق في عهد إبراهيم الخليل، أما موسى فقد تربى في البلاط الفرعوني في مصر أيّام الفراعنة، ثم أرسل نبيا إلى بنيّ إسرائيل في مصر، ويعيّن المؤرّخون تاريخ خروج النبي موسى وأتباعه من مصر إلى أرض كنعان فلسطين بحوالي 1290 ق.م.

لقد حدثت خلافات بين الموسويين بعد موت سليمان، تمخّضت عن قيام دولتين هزيلتين؛ الأولى في الشمال باسم مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة (سبسطية) والثانية في الجنوب باسم يهوذا وعاصمتها أورشليم. لقد كان لقيام الإمبراطورية الآشورية بين عامَي 626- 911 ق.م أثرها في تغيّر وجه الشرق، فقد حكم خلال هذه الفترة 15 ملكا آشوريا، وبلغت الإمبراطورية في عهودهم أوج عظمتها واتساعها، وضمت جميع أراضي الهلال الخصيب ومن ضمنها مصر.

وقد لعبت دورا رئيسا في القضاء على مملكة اسرائيل نهائيا وسبي سكانها إلى أماكن بعيدة، ثم غزا شلمنصر مملكة إسرائيل وغيره من الملوك الآشوريون مثل بلاسر الثالث الذي استولى على دمشق سنة 732 ق.م، وسبى أهلها وقتل ملكها (رصين)، ثم توجّه إلى فلسطين في زمن فقح ملك إسرائيل عام 739 –731 ق.م، وسبى اليهود إلى مدينة آشور، تاركا لخلف فقح الملك هوسع مدينة السامرة، ثمّ جرّد شلمنصر الخامس حملة تأديبية على إسرائيل فحاصر عاصمتها السامرة مدة 3 سنوات وقبل أن يظفر بالنصر النهائي مات عام 722ق.م.

إنّ مملكة إسرائيل التي قضى عليها الآشوريون كانت تتألف من عشرة أسباط على قول التوراة، وقد كوّن هؤلاء المسبيّون قرى بين السكّان الكرد، وبقوا منعزلين عن اليهود في فلسطين، وفي المناطق العراقية الأخرى غير المناطق الجبلية الكردية فقلّدوا الكرد في نمط معيشتهم، حيث صاروا يمارسون الأعمال الحقليّة الزراعيّة وتربية المواشي متمتّعين بحماية رؤساء ووجهاء القبائل الكردية ويؤدّون في المقابل لهم الجزية.

ومن المهم ذكره في هذا الصدد أنّ هؤلاء اليهود المسبيين لايزالون رغم مرور حوالي 2800 سنة على نفيهم إلى كردستان يتكلّمون فيما بينهم بلغتهم الأصلية (اللهجة الآرامية الساميّة القديمة) التي كانوا يحرصون كلّ الحرص على تهجير هؤلاء اليهود الكرد إلى إسرائيل من دون بقية يهود العراق، وذلك لأنّهم أصحّاء الجسم يمتهنون الفلاحة وتربية المواشي، فهم يصلحون أكثر من غيرهم من اليهود كأياد عاملة في الحقل.

وفضلا عن ذلك فهم لايزالون متمسّكين بديانتهم الأصلية، ولا يخشى منهم مشاركة العرب في شعورهم نحو القضية العربية، لأنّ لغتهم الثانية بعد الآرامية الأم هي الكردية، وقد أفلح الصهاينة في تهجير كلّ اليهود الأكراد من العراق إلى إسرائيل بالاتفاق مع الحكومة العراقية السابقة، ويؤيّد الباحثون نقلا عن هؤلاء اليهود الأكراد أنفسهم بأنّهم أحفاد اليهود الذين سباهم الآشوريون ونقلوهم إلى منطقة كردستان، وقد أيّد ذلك (بنيامين التطيلي الأندلسي) الذي زار وادي الفرات ومنطقة كردستان العراق، ووجد في رحبة الميادين ألفين من اليهود ويذكر أسماؤهم  ويقول: (الرحبة بلدة رحبوت النهر الواردة في التوراة على شاطئ الفرات يقيم فيها ألفي يهودي، وعلى رأسهم الربيون حزقية واهود واسحق ويستدير بالمدينة سور وهي واسعة الأرجاء جميلة الرواء محكمة البنيان حولها الرياض والبساتين) هذه الرحلة عام 569 هجري الموافق 1173 م، ويقول زريق البغدادي عن بنيامين ورحلته:

كأنّما هو في حلّ ومرتحل          موكل بفضاء الأرض يذرعه

وزار بنيامين التطلي الأندلسي العماديّة في كردستان العراق في القرن الثاني عشر الميلادي، وقال عن العمادية ( يقيم بها خمس وعشرون ألفا من اليهود، وهم جماعات منتشرة في أكثر من مائة موقع من جبال خفتيان من جبال كردستان، وهفتنون من نواحي أربيل ويهودها من بقايا الجالية الأولى التي أسرها شلمنصر ملك آشور ويتفاهمون بلغة ولسان الترجوم).

والترجوم هو اللغة الآرامية الشرقية التي مازال يهود كردستان يتكلّمون بها فيما بينهم حتى اليوم، وبينهم عدد من كبار العلماء، وكانوا يؤدّون الجزية للمسلمين، ويقول بنيامين التطللي الأندلسي أيضا:

وأرض نهاوند تبعد مسيرة خمسة أيام عن العماديّة تسكنها طائفة لا تؤمن بدين الإسلام يعتصم أتباعها بالجبال المنيعة ويطيعون (شيخ الحشاشين)، وهم الإسماعيليون من أتباع الحسن آل الصباح الذين استفحل أمرهم في القرن السابع الهجري واستأصلهم هولاكو، فهاجر قسم منهم إلى الهند، ويقيم بين ظهرانيهم نحو أربعة آلاف يهودي يسكنون الجبال مثلهم، ويرافقونهم في غزواتهم وحروبهم، وهم أشدّاء لا يقدر أحد على قتالهم وبينهم العلماء التابعون لنفوذ رأس الجال ببغداد.

وقد توصّل الدكتور غرانت المبشر الأمريكي الذي قضى عدّة سنوات في منطقة كردستان، وتجوّل في أنحائها العراقية والتركية والإيرانية، إلا أنّ أكثرية يهود كردستان هم من أحفاد السبايا الآشوريين، وأنّهم أخذوا بتعاليم السيد المسيح بعد ظهوره، وصاروا يعرفون بالنساطرة، نسبة إلى القديس نسطور أو التيارية بالنسبة لتسميتهم القبائلية.

وبقي الدكتور غرانت في أرومية، وأسّس عشر مدارس في القرى المسيحية في مختلف أنحاء المنطقة، ومدرسة داخلية للبنات في أرومية، وبعد دراسة عميقة لعادات هؤلاء النساطرة وتقاليدهم وطقوسهم الدينية واتصالاته بشخصياتهم الدينية والقبائلية وبخاصة اتصاله ببطركيهم الأكبر الذي كان مقرّه في بلدة (جولامرك) الواقعة قرب منبع خابور دجلة، توصّل إلى أنّ النساطرة القاطنين في كردستان هم أحفاد الأسباط العشرة المفقودة، الذين سباهم الآشوريون وأبعدوهم إلى مناطق آشور النائية، وهي المناطق التي ورد ذكرها في التوراة؛ أي صلح وخابور ونهر جوزان ومدن مادي، وتتوسّط هذه المناطق التي تشمل مساكن كرد العراق وايران وتركية مدينة نصيبين، وقد كانوا يهودا على رأي الدكتور غرانت عندما نفاهم الآشوريون إلى هذه المناطق الجبليّة النائية.

وبعد المسيح ومن المعروف أنّ الحواريين كانوا على علم بوجود الأسباط العشرة في تلك المناطق، وكانوا على اتصال مسبق بهم، وقد حافظ هؤلاء اليهود المتنصّرون على تقاليدهم وعاداتهم القديمة التي هي نفس عادات وطقوس ولغة اليهود القاطنين في تلك المناطق وقلّة منهم لم يتنصّروا.

ويرى الدكتور نيوزنر صاحب كتاب (تاريخ اليهود في بابل) أنّ الأدلّة التي أوردها الدكتور غرانت في دعم الرأي القائل بأنّ النساطرة هم في الأصل من اليهود الذين نفاهم الآشوريون إلى منطقة كردستان ثم تنصروا بعد ظهور السيد المسيح، تقيم حجة قوية مقنعة لتقبّل هذه النظرية والشخص اليهودي المتحوّل إلى النصرانية يعرف بـ(المين) لتمييزه عن بقية المسيحيين، وكان أول أسقف عيّن في أربيل عاصمة حدياب من اليهود المتنصّرين على يد المار أدي في أربيل.

ويقول الدكتور غرانت أنّ عدد النساطرة في منطقة حدياب التي كانت تحت حكم ملك يهودي خلال القرن الأول للميلاد بلغ مائة ألف نسمة، ويختلف يهود مدينة السامرة عن باقي اليهود في العادات والتقاليد والدين واللغة، فلغتهم الترجوم ويختنون أولادهم ويقيمون الحفلات من أجل ذلك، ولهم عاداتهم وتقاليدهم المختلفة عن باقي اليهود.

ولما فتح كورش الأخميني الفارسيّ بلاد بابل (537-538) سار في فتوحاته حتى احتلّ سوريا وفلسطين ومن ضمنها أورشليم، فسمح لمن أراد من أسرى نبوخذ نصر بالرجوع إلى فلسطين، وأعاد إليهم كنوز الهيكل التي كان قد أخذها نبوخذ نصر، وأمر بإعادة بناء الهيكل في أورشليم على نفقة بيت الملك، فعاد فريق منهم، ولكن الأقوام المجاورة من حوريين وحثيين وعمونيين وأدومنيين احتجوا على ذلك، وهدّدوا بالعصيان، فأصدر سمريدس خلف قنبيز الثاني سنة 522م أمرا بتوقيف عملية البناء، وكان كورش قد تزوج بأستير وسمح لليهود بتدوين التوراة.

لقد عاش اليهود عزّهم في زمن الفرس، لاسيّما في عهد كورش وسمريدس، حيث تصاهر الفرس مع اليهود، وسمحوا لهم بكتابة التوراة، وأصبح الفرس الأخمينين متهودين، وأصبح عامة الحكام متهودين على دين ملوكهم، كذلك توزّع السبي البابلي على مدن وادي الفرات، فكان نصيب رحبوت النهر (الميادين) ألفان 2000 من اليهود كما يقول بنيامين التطلي الأندلسي في رحلته ومنهم بيت (يهوذا وإسحق).

أما ماردين فلم يسكنها اليهود، ويقول أحد ابناء ماردين المقيم في القامشلي: يُحكى أنّ تاجرا يهوديا أراد السكن في ماردين، فجاء إلى أحد الباعة قائلا له: أعطني طعاما آكل منه ويأكل منه حماري وأتسلى به على الطريق، فناوله البائع (البطيخ الأحمر)، فغادر المكان قائلا: إنّ هذه المدينة لا تصلح للسكن والإقامة لنا فيها فغادرها.

واستوطن اليهود في مدينة نصيبين قبل الإسلام مع الأرمن والكرد والعرب والسريان، وعندما بنيت مدينة القامشلي في عشرينيات القرن العشرين توافد إليها المسيحيون والكرد والعرب واليهود وباقي السكان، واستوطنوها كمدينة حديثة، وسكن اليهود في قرى محيطة بالقامشلي في الثلاثينات مثل خزنة والعويجة، وأصبح لليهود حي كامل وسط مدينة القامشلي، ورئيس الطائفة (باروخ) فرج سامح – ومختار الطائفة سامح الياهو – ومجلس ملّلي للطائفة من أعضائه ناحوم أبو البير وعزيز شالو.

يقول الأستاذ  أنيس حنا مديواية: إنّ عدد عوائل اليهود في مدينة القامشلي 250 عائلة عام 1931، وأغلب بيوتهم من الطين، كما باقي بيوت سكان المدينة، وقد بنوا كنيس (معبدا) لهم يقيموا صلاتهم فيه قبل شروق الشمس متجهين لبيت المقدس، وتقدّموا بطلب لمديرية المعارف لإنشاء مدرسة لأبنائهم، فأنشأت لهم مدرسة عام 1947-1948 كان مديرها الأستاذ أنيس حنا مديواية وعدد طلابها80 طالبا منهم الطالبة (كرجو).

وكان الطلاب يجلسون على الأرض بدون مقاعد، وكان المعلم يجلس على فراش مرتفع ويعطي الدرس، أما المناهج فهي نفسها مناهج المعارف، لكن المدرسة أغلقت بعد عام من إنشائها؛ أي في عام 1948 بسبب الحرب، وانضم كثير من الطلاب اليهود للمدارس التي أنشأت فيما بعد مثل الحكمة وعربستان والقادسية. عاش اليهود في مدينة القامشلي سويّة مثل باقي الطوائف الأخرى من سريان وكلدان وآشوريين وعرب وكرد وأرمن وغيرهم.

ومنذ بدء استقرارهم في مدينة القامشلي، توزّعوا في حرفهم المتعدّدة، ونشطوا في التجارة، فكانت تجارتهم مع العراق (الموصل وعانة) يجلبون التمر والدبس والدخان والتوابل، وكذلك مع حلب ودمشق ونشط منهم (عزرا بن ناحوم بن إسحق) المعروف حانوته شرقا وغربا لدى العشائر العربية والكردية، وكان صادقا في تعامله وسلوكه وسمحا في بيعه، فالكلّ يستدين منه لنهاية المواسم، وكان بيته مفتوحا ينام فيه القادمون من جنوب الردّ والمناطق البعيدة من أبناء القبائل وخاصة المرضى، ومن تجارهم أيضا ديبو سبتو وأبو سيون وعزيز شالوم.

غادر مدينة القامشلي إلى أمريكا وباع حانوته بمبلغ ثمين خمس ملايين ليرة سورية في الثمانينات من القرن العشرين، واشترط على المشتري (السيد باسل حنا) أن يبقى اسمه (عزرا) على باب المحل، وكان له ما أراد لليوم، وقد بيعت الآرمة لوحدها بمبلغ 75 ألف ليرة سورية.

ومازالت حوانيتهم ذات الأبواب الخشبية لليوم بأسمائهم ضمن المصالح العقارية، وكذلك بيوتاتهم، ومنهم من عمل (صراف) ومنهم من عمل بمهنة المحاماة، ويذكر السيد أنيس حنا مديواية أنّ مدرسا يهوديا علم في مدرسة صقر قريش مادة اللغة الفرنسية واسمه (روبين) وكان مدير المدرسة حنا مديواية والد أنيس عام 1941 م، كما درس السيد حنا مديواية في مدرسة الكفاح التابعة للطائفة الكلدانية، وكان فيها مجموعة من الطلاب اليهود.

أنشأ السيد أنيس حنا مديواية الفرقة الكشفية والرياضية في مدينة القامشلي، وشارك فيها طلاب من الطائفة اليهودية، ومن عاداتهم وطبائعهم أنّهم لا يشعلون نارا أو إنارة قنديل أو شمعة أو ضوءا ليلة الجمعة أو السبت، لكنّهم يستعينون بجيرانهم لمساعدتهم، وذلك بسبب سبتهم وعرف عقيدتهم الدينية، وإن قدمت رأس السنة فإنّهم يبيعون المؤونة التي في بيوتهم ويجدّدونها في بداية العام التالي.

كان يأتيهم حاخام من مدينة حلب كلّ يوم ثلاثاء في كلّ أسبوعين مرة، ليذبح لهم الغنم أو البقر المجهّز من قبلهم وسكينه مكتوب عليها (بسم الله، الله أكبر) حادة الشفرة، فيسمّي ويمرّر السكين على مكان نحر البهيمة مرة واحدة لا تعاد ولا تتكرر، وإن وجد عيب في جسم البهيمة من جرس ماء على كبد الدابة أو شيء غيره فإنّهم لا يأكلونها، لأنّهم يتطهرون كثيرا في طعامهم ومأكلهم.

يقول الأستاذ أنيس: دخل مكتبة دار اللواء أحد رجال اليهود، وطلب من العاملة في المكتبة العهد القديم فباعته بقيمة عشر ليرات سورية، وحينما أراد الخروج وقف عند باب المكتبة فقطع العهد الجديد عن العهد القديم ورماه في الأرض فتبعته، لكنّه ولّى هاربا.

عاش اليهود في مدينة القامشلي مع باقي الطوائف بكلّ محبة ووئام وروح اجتماعية وألفة وسلام كانوا حاضرين دائما في المناسبات الاجتماعية من أفراح وأعراس للجيران من سريان ومسيحية وإسلام، وكذلك في الأحزان المناسبات العامة والخاصة تسهر عوائلهم وبناتهم ونساؤهم مع بنات الجيران دون تكلّف، وكأنّهم أسرة واحدة، ومن عاداتهم إذا تزوّج أحدهم، فإنّ العريس يبقى الليلة الأولى مع عروسته، ثم يعتزلها لمدة شهر (ثلاثين يوما عددا). وتعتزل المرأة أعمال البيت جميعها حتى الطبخ ولا تمتدّ يدها إلى أي عمل يخصّ جماعة المنزل حينما يأتيها الحيض، فهم يتطهرون من ذلك، وذكر لي أحد رجالات عشيرة الجوّالة من طي، أنّ رجلا منهم وقع أسيرا في حرب عام 1967 ووضع في مهجع يضمّ عساكر من مصر وفلسطين وسورية، فجاء السجان وكان شابا فسأل من منكم من سورية فرفعت يدي، وسألني من أيّ المناطق فقلت من القامشلي، فأكرمني وقدّم لي خدمات جليلة من لباس وطعام ومعاملة حسنة، وحين تبادل الأسرى كان اسمي أول القائمة، ولا يخدمون في القوات المسلحة السورية.

وقدموا خدمات تجارية نشيطة للمدينة بل كان سوق اليهود معروفا لدى أبناء سورية كافة والجزيرة خاصة وتجد حاجتك فيه دون تكلف، ومن أسمائهم ( عزرا – ناحوم – فرج – خلف – فيصل البيير) ومن أسماء إناثهم (عطية – زكية – ليلى – زهور – وردة – سعاد- سمحا – راحيل – لينا)، وإذا حلف أحدهم يقول بـ(طورا) والمقصود جبل الطور الذي كلّم الربّ منه موسى، ومن مخاتيرهم (سامح الياهو والقائم على الكنيس هو – أبو البير والحلاق ابن سامح ومنجد الأغطية اللحافات نيسان).

 


المصادر والمراجع:

– ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، تحقيق: محمد عبد المنعم العريان، مراجعة: مصطفى القصاص، ط1 (دار إحياء العلوم، بيروت، 1987).

– أنس حنّا مديوايه، القامشلي، ط1 (مطبعة اليازجي، دمشق، 2011).

– الدكتور أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، ط 2 (العربي للإعلان والنشر والطباعة، دمشق، 1990).

– الدكتور أحمد سوسة، ملامح التاريخ القديم ليهود العراق، د.ت (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001).

– بنيامين التطيلي، رحلة بنيامين التطيلي، ترجمة: عزرا حداد، ط 1 (الناشر المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى