مقالات رأي

سوريا … السجون الثلاثة

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: سيّدي.

هذه الكلمة لا تستخدم هنا كما بين رجلين مهذّبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية!

هذان السطران ليسا افتتاحية مقال، ولا جملة قيلت في دولة متقدمة كـسويسرا، أو تحيةٍ يابانيةٍ مع انحناءة احترام، أو أي بلدٍ ديمقراطي كالذي نعرفه، كلمة (سيدي) هي علامةُ الذلّ التي لاحقت كل سوريّ.

والسطران السابقان هما عيّنة من آلاف السطور المختبئة في قوقعة مصطفى خليفة؛ الكاتب السوري الذي عُرف واشتهر بروايته: القوقعة (يوميات متلصص)، هذه الرواية الأكثر تصويراً لما حدث في سجن تدمر العسكري، لأن كاتبها بالأصل مخرج سينمائي عاد من فرنسا إلى سوريا ليخدم بلده، وهو مسيحي اتُهم بتهمة الإخوان المسلمين! في فترة الثمانينات من القرن الماضي. ولأنه درس الإخراج استطاع أن يصوّر مشاهد الرعب في السجن بطريقة تجعلك تعيش التجربة هناك؛ وكأنك لا تقرأ كتابه؛ بل ترى بعيني مصطفى خليفة نفسه.

كلمة (سيّدي) تعني منتهى العبودية، ليس فقط في السجون الرسمية والتي تعرف دولياً بسجن. لا .. بل في السجون الأخرى أيضاً.. حيث في سوريا – وفي عهد آل الأسد – هنالك ثلاثة سجون.

السجن الأول وهو السجن الرسمي، وهو ضيّق لا يتجاوز مساحته أمتاراً مربعة، وفيه ستتعرف إلى كافة أنواع أساليب التعذيب، والتي أحياناً لا تخطر على بال بشر، ومن جلادي تلك السجون من ابتكروا طرقاً جديدة في التعذيب في الفترة التي عاش فيها مصطفى خليفة وغيره الآلاف في سجن تدمر الصحراوي، وحتى في سجن صيدنايا السيء الصيت، ما عدا الفروع الأمنية التي كانت كفيلة بزرع الرعب في قلوب الناس لمجرد ذكر أسمائها.

((هنا جهنّم الحمراء كما تسمونها في دياناتكم.. لا تنتظروا الرحمة والرأفة منا، ولا من الله، لأن الله لا يدخل إلى سجن تدمر))

هذا كان خطاب الاستقبال في سجن تدمر، سجنٌ لا إله فيه سوى الجلادين! وقد سمع الخِطاب علي أبو الدهن كاتب رواية (عائد من جهنم) والذي اعتقل هناك، وقد قال حين خرج: ((أنا أنصح الناس بالتوبة، بالصلاة وبالعودة إلى الله عز وجل، أياً كانت ديانتهم، ومهما اختلف إيمانهم.. أقولها لأنني قد زرت جهنم؛ وعدت منها لأشهد العذاب، ولم يرُقني ما رأيت.))

ولا يسع المجال هنا للحديث عن وسائل التعذيب وما حدث، فمن يريد أن يعرف، ليعد إلى تلك الروايات الكثيرة التي كتبت عن خدمات السجون في سوريا. السجون الضيقة.

لكن هل هذا هو السجن الوحيد؟!…. لا أبداً. السجون في سوريا تأخذ بالاتساع حين التفكّر، ولكن ليس كل الناس ترى ذلك.

السجن الثاني في تلك السلسلة هو سجنٌ أكبر بقليل، وهو ما كان يسمّى بالجيش أو الخدمة الإلزامية، هذا السجن أقل إهانة وذلّاً، وإن كان يمكن تسميته ذلّاً وهواناً، لأن هذين المفهومين نسبيان، فمن يعيش في السجن الضيق سيعتبر ما يعيشه في خدمته العسكرية رفاهية!

هناك أيضاً ستتبعك لعنة (سيّدي)، حيث يعلمونك الكلمة بوطأة عبوديةٍ أخفّ مما هي عليه في السجن الصغير، لكنها تبقى حاملة في طياتها معنى العبودية، فالفساد المنتشر قد يعلمك أخسّ الأعمال من سرقة وغيرها، كانت الخدمة العسكرية مصنعاً للفساد؛ إن لم تحافظ على نفسك وقيمك، فالإكراميات والرشاوي وتسلط الضباط على العساكر، وامتهان الضباط العاملين للضباط المجندين، وقد رأيت بعيني ما كان يحصل هناك من إذلال للعساكر.

هو كان تجهيز للعساكر من أجل محاربة العدو، لكن في الحقيقة – وقد سمعتها بأذني من أكثر من شخص – كان العسكري يقول لو نشبت الحرب لكان أول شخص أقتله هو ضابطي المباشر!

إن لم يكن لك سندٌ (واسطة كما يقولون) في تلك البراري، فمصيرك أن تكون في أسوأ قطعة عسكرية، وأسوأ خدمة. كان يجب أن تبيع مبادئك كي تنعم ببعض الراحة هناك، وإن لم تفعل فأنت مغضوب عليك إلى يوم التسريح.

السجن الثالث في سلسلتنا، هو أكبر بكثير مما نظن، وهو عبارة عن خريطة كبيرة اسمها سوريا!، الخريطة التي كنا نرسمها ونتعلم تفاصيلها في المدارس ببراءة الأطفال، هذا هو السجن الكبير الذي يعيش فيه الناس، وحتى بعضهم لا يدري أهو وطن أم سجن!.

آل الأسد بنوا هذا السجن على مراحل مدروسة بدقة، خطوة بخطوة، منذ البدايات على أيام الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد، وحتى يومنا هذا، وكيف تم استبدال ثمانين بالمئة من الضباط على مدى أعوام قصيرة بضباط من الطائفة العلوية، وزج من رفع رأسه في السجن الصغير.

قد يشعر الخارج من السجن الصغير بحيثيات السجن الكبير بشكل أكبر من غيره، فهو يرى بطريقة أخرى، وقد يكون ما وصفه الكاتب مصطفى خليفة حينما رأى الناس بعد خروجه من السجن في يومٍ صيفيّ؛ هو نوع من الرؤيا التي لا يراها الانسان إلا إذا دخل السجن الصغير، ففي هذا يقول:

((لاحظتُ شيئاً لم أعهده في المدينة سابقاً.. الغبار.. الغبار يغطي كل شيء في المدينة، الطرقات، الشوارع، الجدران، الغبار الأصفر الناعم، أوراق الأشجار الخضراء.. التي كنت أعرفها سابقاً زاهية لامعة بخضرتها.. حتى وجوه الناس السائرين في الشوارع؛ والمتسكعين في الساحات وعلى الأرصفة.. مغطاة بهذه الطبقة الغبارية الصفراء.. يغسلون وجوههم، يجففونها، لكن الغبار لا يزول، يبدو ملتصقاً بالوجوه أو أنه من تكوينها!.. ويبدو الغبار واضحاً عند الابتسام، فالابتسامات على ندرتها – هذه الندرة تقترب من العدم حتى أنني شككت أن الناس في مدينتي قد نسوا فعل الابتسام – تترافق مع هذا الغبار، فإذا حاول شخص ما الابتسام، تبدو هذه الابتسامة شائهة.. ويبدو هذا الشخص قد كبر في السن عشرات السنين)).

هذا ما رآه مصطفى خليفة حين خروجه من السجن، وهذا ما كنت أراه أيضاً عند كل إجازة لي من الخدمة العسكرية. السجن الكبير الذي علّم الناس – كرهاً، أو طوعاً عن حماقة- أن يكون مأسوراً بفكر القائد الأمين، السجن الكبير الذي سموه فيما بعد: سوريا الأسد.

لو تكلّم هذا السجن لقال الكثير عن الاعتقالات، والإعدامات، والاغتصابات، والتصفيات، والبغاء، والسرقات، والرشاوي، والمافيات، وزبانية الأسد الذي عاثوا فساداً في البلاد.

حتى في هذا السجن؛ كلمة (سيدي) لها وقعها المُهين، فحينما تكون لك قضية معينة لدى الدولة قد تضطر لزيارة ضابط كبير في الدولة، وتنطق تلك الكلمة (سيدي) كي يتوسط لك في حل مشكلتك، ولا بد أن تكون كريماً في الدفع؛ في دولة – أحياناً- الرشوة فيها هي حلّ لمشكلة لا ناقة لك فيها ولا جمل!

التفاصيل كثيرة إن خضنا في عملية بناء السجن الكبير هذا، لكن من بعض الصفات المشتركة بين السجون الثلاثة هو وجود صورة الرئيس أينما رحلت، في السجن الصغير والأوسط والكبير. هي الأيقونة التي لا يجب أن تفارقك.

ومن طرائف ما حدث معي؛ أنني في إحدى السنوات؛ زرت جزيرة أرواد لأول مرة؛ مع بعض رفاقي، وحينما وصلنا إلى شاطئ أرواد فوجئتُ بتمثال لحافظ الأسد في مدخلها، قلت في نفسي وقتها: حتى هذه الجزيرة الصغيرة لم تسْلَم من أصنامك.!

سوريا.. هي سجون ثلاثة، وعيش في ظل طاغوت، وما يحصل في السنوات الأخيرة هو هدم لهذا السجن الكبير-كيفما كانت الطريقة- وصولاً إلى السجون الصغيرة، المهم في كل ما يحدث أن تلك السجون في طريقها إلى الزوال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى