قضايا راهنة

ناغورني قره باغ: صراع قومي أم استراتيجيات إقليمية ودولية

لم يعد أي صراع ينشب بين دولتين يقتصر على القضايا الخلافية بينهما فقط، بل غالباً ما يخفي وراءه نوايا دول إقليمية ودولية؛ تحقيقاً لمصالح استراتيجية، أو لكسب أوراق ضغط جديدة؛ قد تحتاج إلى استخدامها في مناطق أخرى. فهل هذا هو الحال في الصراع العسكري القائم اليوم بين أرمينيا وأذربيجان حول أحقية إلحاق إقليم ناغورني قره باغ بأي منهما؟

في السياق، لا يقتصر الصراع العسكري اليوم على مواجهة بين الأرمن والأذريين فحسب، بل صراع مصالح يتمحور حول التنافس الجيوسياسي لأطراف متعددة تسعى إلى الهيمنة على منابع الطاقة في بحر قزوين ومنطقة القوقاز، وفي دول آسيا الوسطى، التي تورد إمدادات طاقة ضخمة من النفط والغاز إلى مناطق مختلفة في العالم، وتضم في أراضيها احتياطيات ضخمة منها. حيث يجري تنافس كبير بين القوى الدولية والإقليمية لإقامة مشاريع مشتركة مع تلك الدول بهذا الخصوص.

ورغم أن اقليم ناغورني قره باغ يقع بالكامل داخل الأراضي الأذربيجانية، إلا إنه قريب من الحدود الإيرانية والأرمينية، مما جعله مسرحاً لصراعٍ في ظاهره بين قوميات وأثنيات مختلفة، وفي باطنه صراع استراتيجيات إقليمية ودولية.

صراع روسي تركي للهيمنة على خطوط إمدادات الطاقة

إن أكثر ما يثير مخاوف المراقبين الدوليين، وربما المجتمع الدولي برمته، أن تشعل ساحة الصراع اليوم فتيل حرب إقليمية في المنطقة؛ قد تجد بعض الأطراف نفسها تنساق إليها بطريقة دراماتيكية وعلى وجه الخصوص روسيا التي تشترك مع أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، ففي حال تحول النزاع إلى حرب مفتوحة بين البلدين أرمينيا وأذربيجان قد لا تفلح الوسائل الدبلوماسية في إخمادها، فتجد روسيا نفسها في مواجهة تركيا التي أعلنت صراحة على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان في تغريدة له على تويتر بتاريخ 27 سبتمبر أيلول الجاري ” إن الأمة التركية تقف، كما كانت دوماً، بكل الوسائل إلى جانب الإخوة والأخوات الأذربيجانيين” ، والآن المقاتلات التركية إف 16 هي سيدة الموقف في المعركة هناك.

وإذ تعلن تركيا موقفها بهذا الزخم الكبير إلى جانب أذربيجان، فهي تنطلق من الروابط التاريخية والثقافية والدينية التي تربط بينها وأذربيجان، هذا ظاهراً، ولكن حقيقة الأمر أن تركيا تريد تقويض النفوذ الروسي في جنوب القوقاز، التي تعتبر منطقة أنابيب نفطية وغازية بامتياز، تمتد من بحر قزوين ومن خلفه دول آسيا الوسطى، حيث تسعى تركيا لأن تكون مركز تجميع رئيسي لها، فتنقل موارد الطاقة منها إلى الدول الأوربية، لذلك تسعى للسيطرة على إقليم ناغورني قره باغ لربط خطوط إمداد الطاقة عبر الأراضي الأذربيجانية دون عوائق، خاصة وأن الإقليم يفصل شرق أذربيجان عن غربها، ويخضع لهيمنة أرمينية، ومن خلفها هيمنة روسية، حيث تحاول روسيا من خلاله الحؤول دون تنفيذ المخططات التركية، لتبقى خيوط الإمدادات النفطية والغازية من بحر قزوين ودول أسيا الوسطى إلى أوربا بيدها هذا من جهة، ومن جهة ثانية تشكل أذربيجان محطة رئيسية لعدة مشاريع طاقية استراتيجية لتركيا فمنطقة توفوز الأذربيجانية؛ والتي تقع شمال إقليم ناغورني قره باغ؛ تتمتع بأهمية جيوسياسية واقتصادية كبيرة لتركيا؛ حيث تضم ثلاثة مشاريع استراتيجية هامة، اثنان منهما يتعلقان بإمدادات الطاقة من النفط والغاز، الأول هو مشروع “تاناب” لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوربا عبر تركيا، بهدف تأمين جزء من الإمدادات الكافية لهما، والخروج من تحت عباءة موسكو الغازية، والثاني هو مشروع لنقل النفط (باكو – تبليسي – جيهان) لإيصاله إلى أوربا، أما الثالث فهو مشروع خط السكك الحديدية (باكو – تبليسي – قارص) الذي تم تدشينه أواخر عام 2017 ويمتد لمسافة 845 كم، يمر بالدول الثلاث ويربط بين الصين وأوروبا، في إطار خط الحرير الجديد، الأمر الذي يثير حفيظة موسكو، كونها ترعى الخط الذي يشكل ممر النقل الدولي الواصل بين الشمال والجنوب. وروسيا التي تدرك تماماً ما تقوم به تركيا في المنطقة، وتقرأ أهدافها القريبة المدى، التي قد تتمثل بمحاولة أنقرة كسب المزيد من أوراق الضغط على روسيا، وعلى الدول الأوربية؛ للتفاوض حول ملفي إدلب السورية وسرت الليبية. وتدرك أيضاً أهدافها ذات المدى البعيد؛ في محاولتها استغلال موقعها الجغرافي الاستراتيجي؛ لتصبح مركزاً رئيسياً لتجميع وتصدير الطاقة إلى الدول الأوربية وخاصة الغاز بعيداً عن روسيا، مما سيقوض من المصالح الاستراتيجية الروسية واحتكارها إلى حد ما لسوق الغاز التركية والأوربية. لذلك فإنه من المستبعد تماماً أن تتخلى موسكو عن مساندة أرمينيا حتى ولو ذهبت الأمور إلى منحى أبعد مما هي عليه الآن، وقد تصل هذه المساندة لحدود تقديم الدعم العسكري المباشر من روسيا ليريفان.

مخاوف إيران قد تكون جدية

ليس ببعيد عن تركيا وروسيا، هناك إيران التي لا تغيب عن المشهد السياسي والاستراتيجي في تلك المنطقة، وعلى الرغم من أن غالبية الأذريين مسلمون شيعة، إلا أن الخلافات السياسية بين إيران وأذربيجان تتصدر المشهد في العلاقات بين البلدين، وتعود هذه الخلافات لأسباب متعددة، أهمها التعاون الاقتصادي والعسكري الأذربيجاني الاسرائيلي. فعلى الصعيد الاقتصادي، تعد اسرائيل أحد أهم شركاء باكو التجاريين، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى ٥.٧ مليار عام ٢٠١٨ وفق ما صرّح به حكمت حجاب المتحدث باسم الخارجية الأذربيجانية. كما تعد أذربيجان المورد الرئيسي للنفط إلى تل أبيب. وازدادت هذه العلاقات موثوقية، بعد استراتيجية اسرائيل في توثيق علاقاتها السياسية، مع الدول التي تعتمد عليها في تأمين موارها الطاقية. وتعتبر أذربيجان إلى جانب روسيا، واحدة من الدول الرئيسية التي تحصل اسرائيل منها على جل حاجاتها النفطية.

أما على الصعيد العسكري، فمنذ عام 2011 تطورت هذه العلاقات كثيراً. حيث تمد اسرائيل أذربيجان بالأسلحة النوعية بملايين الدولارات، ولكن أكثر ما يثير مخاوف طهران؛ هو سعي اسرائيل لإيجاد موقع جغرافي قريب لعسكرها على الحدود الإيرانية، وإن العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية قد تتطور لدرجة أن تأخذ منحىً باتجاه ذلك. من هنا كان الموقف الإيراني إلى جانب الأرمينيين في حروبهم السابقة وحربهم الحالية مع أذربيجان، التي تريدها إيران دولة ضعيفة حتى لا يفكر الأذريون المتواجدون في اقليم أذربيجان الإيراني بالانضمام لباكو.

الاصطفافات الإقليمية قد تقود لاصطفافات دولية

على الصعيد الدولي ما تزال المواقف معتدلة نوعاً ما، والتي يمكن إذا ما استمر الصراع القائم، أو تحول إلى حرب مفتوحة بين البلدين، قد تقود إلى اصطفافات ليست إقليمية فقط وإنما دولية. فالاتحاد الأوربي يدرك تماماً نوايا تركيا في كسب أوراق ضغط جديدة قد تستخدمها في مناوراتها معهم للانضمام إلى الاتحاد الأوربي؛ ومساومتهم في ملفات أخرى عالقة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، كملف قبرص واليونان. فعلى وجه الخصوص قد يذهب الموقف الفرنسي الداعم لأرمينيا الآن إلى مديات أبعد من التصريحات الإعلامية، وقد تجد نفسها طرفاً في الدفاع عن أرمينيا إن مالت كفة الحرب لصالح أذربيجان المدعومة عسكرياً من تركيا، أو في حال وجدت أن تركيا باتت تقاتل في الميدان علانية، وذلك حتى لا تسمح لتركيا بأن تصبح قوة إقليمية؛ تسيطر على خطوط إمداد الطاقة إلى أوروبا؛ وعلى خط الحرير الجديد الذي يمر عبر المنطقة ذاتها ويربط بين الصين والدول الأوربية.

أما الدولة الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تقف الآن كمتفرج مستمتع بما يحدث ولم تزد دعواتها عن ضرورة التزام جميع الأطراف بالتهدئة، وإيقاف إطلاق النار للدخول في مفاوضات جدية دون شروط مسبقة حول الخلاف على إقليم ناغورني قره باغ، حيث تتمنى الولايات المتحدة أن تسوء الأمور وتتطور لحرب بين روسيا وتركيا، الأمر الذي سيقوض من قوة وهيمنة موسكو على بحر قزوين الغني بالثورات النفطية والغازية من جهة، ويضعف من الإمكانات العسكرية والاستراتيجية التركية من جهة ثانية، ويسمح لها بالتدخل وإيجاد موطئ قدم لها في واحدة من أغنى مناطق العالم بالنفط والغاز.

وأخيراً، وعلى الرغم من الجذور القومية للصراع في إقليم ناغورني قره باغ، إلا إنه يمكننا القول بأن المسألة باتت إحدى الأوراق الرئيسية؛ التي تحاول القوى الإقليمية والدولية التحكم بها، والسيطرة من خلالها، على إحدى أهم مناطق إمدادات الطاقة في العالم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى