ترجمات

لماذا تسعى روسيا إلى الحدّ من نفوذ إيران في سوريا؟

قبل أربعة أعوام، عندما قرّرت كل من إيران وروسيا إنهاء سلسلة الخسائر العسكرية لبشار الأسد ومواليه في الحرب الدائرة في سورية، كان أدنى مسؤول في الجمهورية الإسلامية يتوقّع  أن تتحوّل روسيا اليوم إلى عائقٍ كبير أمام طموحات إيران الجيوسياسية والاقتصادية في سورية.

بعد بدء العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سورية في شهر أكتوبر الماضي، تمّ التوصل إلى اتفاقات مصيرية بين الدولة السورية وكُرد سوريا من جهة، وبين أمريكا وتركيا وروسيا من جهة أخرى، حول الوضع الأمني-العسكري في شرق الفرات. وتمّ تجاهل إيران من قبل هؤلاء اللاعبين، وذلك على الرغم من مشاركة إيران الفعالة مع روسيا وتركيا في محادثات آستانا للسلام، وأيضاً صرفها تكاليف مالية ضخمة لأجل بقاء الأسد، وبسط نفوذها في هذا البلد.

مع الخروج البطيء لسورية عن سكّة الحرب، وسيرها التدريجي نحو إعادة الإعمار والحلّ السياسي، تشير الدلائل إلى أنّ روسيا قد اتخذت خطوات متسقة وبعيدة النظر، لإضعاف وتقليل نفوذ إيران في سورية، وفي ظلّ استمرار موجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العراق ولبنان، وبالنظر إلى الآثار المدمّرة نتيجة سياسة “الضغوطات القصوى” لترامب تجاه إيران، فإنّ هذه الخطوات من شأنها أن تكتب لإيران مصيراً مريراً، على غرار الاتحاد السوفييتي في حرب أفغانستان (1979-1989).

وبالنظر إلى التوضيح الوارد في المقدمة، تخطر الأسئلة التالية في أذهاننا: ماهي جملة الخطوات التي اتخذتها روسيا في سبيل الحدّ من نفوذ إيران في سورية؟

وبعد ثماني سنوات من الحرب في سوريا، ماهي الأهداف الجيوسياسية والجيواقتصادية  التي يسعى الكرملين إلى تحقيقها في هذا البلد وفي العمق الإقليمي؟ واستناداً إلى الفرضيات المطروحة، ولأجل تحقيق هذه الأهداف، لماذا على روسيا أن تسعى إلى تقليل نطاق الوجود الإيراني وعمق نفوذه، ولا سيّما في المجال العسكري- الأمني والاقتصادي، وإلى حدّ ما السياسي في سورية؟ وأخيراً، كيف يمكن تقييم مستقبل الوجود الإيراني في سورية، في ظلّ العودة المدهشة للروس إلى منطقة الشرق الأوسط؟

إيران وروسيا؛ من التعاون إلى التنافس في سوريا

قبل التلاشي المادي لداعش، والهيمنة العسكرية التدريجية للجيش السوري ومواليه على جميع المناطق الخالية من التوتر (باستثناء إدلب)، كانت سوريا مسرحاً لمشاركة مستمرّة بين روسيا وإيران وتركيا، وقد تحوّلت في الأشهر الأخيرة إلى ميدان منافسة شديدة بين هذه الدول الثلاث الضامنة للسلام في سوريا.

الآن، وبالنظر إلى الوضع الميداني في سوريا، يمكننا أن نستنتج أنّ الأفول المادّي لداعش، وبقاء الأسد في السلطة، والضعف النسبي لهيمنة الولايات المتحدة في المعادلات الجيوسياسية المعقدة في سورية، ولا سيّما بعد دخول روسيا والجيش السوري إلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات، يُعتبر، إلى حدّ كبير، من الأهداف الاستراتيجية الهامّة التي حققتها  روسيا، وذلك من خلال إيجاد تقارب تكتيكي مع إيران وتركيا.

لكنّ التطورات الأخيرة في الحرب السورية أدّت أيضاً إلى الاختلاف والصراع حول أولويات ونهج ومصالح هؤلاء اللاعبين الأساسيين الثلاثة.

فيما يتعلّق بالتعاون الإيراني- الروسي في سورية، فالحقيقة هي أنّه منذ سبتمبر 2015، وكلّما ساهم المستشارون العسكريون الإيرانيون والقوات الشيعية المدعومة من طهران في تقليص السيطرة العسكرية لداعش في سورية، وفي استعادة المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، فإنّ روسيا كانت تسعى إلى الاستفادة من ورقة إيران، لأجل تحقيق أهدافها في سورية، ولكن كلّما عرّض هذا التعاون التكتيكي مصالح الكرملين للخطر، على المستويين السياسي والأمني، وضعت روسيا عقبات لا حصر لها أمام طموحات الجمهورية الإسلامية.

وبينما تواجه إيران عقبات جدّية لتغطية تكاليف وجودها العسكري في سورية (بسبب الانخفاض الكبير في عائدات النفط) وذلك على إثر الانسحاب الأحادي من قبل ترامب، من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات شديدة عليها من قبل الولايات المتحدة، فإنّ روسيا تستفيد من ضعف إيران في أنسب الأوقات، حتى تدشّن مشروع الحدّ من نفوذها في سورية.

إضعاف إيران في سورية

لطالما سعت روسيا إلى حلّ الميليشيات الموالية لإيران، ووضع القوات، التي تدعمها إيران منذ سنوات، تحت حمايتها. وبموازاة هذه الجهود، فقد سعى الروس أيضاً، من وراء تشكيل قوات موالية للكرملين (قوات الفيلق الخامس والسادس)، إلى إحلال هذه القوات بشكلٍ تدريجيّ، محلّ القوات الموالية لإيران في سورية، والتي غالبيتها قوات شيعية.

وبالتالي، يمكننا استنتاج أنّه على الرغم من أنّ الجمهورية الإسلامية كانت تنظر إلى الحرب السورية كفرصةٍ لها لتوسيع “عمقها الاستراتيجي” في سورية وخارجها، وذلك تحت راية محاربة داعش، بضوء أخضر روسي، ومن خلال التعاون التكتيكي مع تركيا. لكنّ روسيا، ومن خلال تبنّيها استراتيجية براغماتية وانتهازية، لديها نهج تحليلي آلي تجاه الوجود الإيراني في سورية.

وبعبارةٍ أخرى، إذا كانت التحركات والتدخلات الإيرانية (على سبيل المثال، تكثيف المواجهة مع إسرائيل  قرب مرتفعات الجولان) تضرّ بالمصالح الجيوسياسية  والاستراتيجية لروسيا على المدى الطويل في سوريا، وتؤدي إلى مضاعفة حالة عدم الاستقرار في سوريا، فإنّ الكرملين يقوم على الفور بمنع طهران من أن تكون صاحبة اليد المنافسة العليا في مختلف المجالات، وذلك يكون إمّا من خلال روسيا نفسها، أو من خلال سلاح التوازن غير المباشر مع إيران؛ أي اللجوء إلى اللاعبين المنافسين الآخرين، وإشراكهم في العمل، حتى لو كان هذا الإشراك إشراكاً تكتيكياً.

إنّ الإجراءات التي تقوم بها روسيا؛ مثل الضوء الأخضر المتكرر لروسيا للهجمات الإسرائيلية على مواقع القوات الحليفة لإيران، وتشكيل مجموعة عمل مشتركة من قِبل روسيا وإسرائيل،  لإخراج القوات الأجنبية من سوريا وتحقيق الاستقرار فيها، وزيادة التعاون الروسي- التركي، في سبيل تحقيق الكرملين لأقصى استفادة من ورقة أنقرة، لأجل خلق توازن مع القوة الأمريكية ونفوذها في سورية، وتوجيه ضربة إلى حلف الناتو، كذلك الالتفاف على إيران، لتحقيق الاستفادة القصوى، وجني الأرباح الكبيرة من مشاريع إعادة الإعمار في سورية (في حقول النفط والغاز)، كلّ هذه الإجراءات ليست سوى جانب واحد من الجوانب العديدة للجهود الفعالة التي تبذلها روسيا لأجل تقليص النفوذ الإيراني في سورية.

من المهم ذكر هذه الملاحظة، وهي أنّ روسيا لن تزيح على الفور البيادق المدعومة من إيران عن الرقعة الجيوسياسية للشطرنج السوري.

لا شكّ أنّ الجمهورية الإسلامية تفتقر إلى القدرة الكافية على التنافس مع الجهات الفاعلة الأخرى، نظراً للأسباب الاقتصادية والسياسية في الداخل والخارج، لكنّها، من خلال مواردها المحدودة، وأيضاً من خلال علاقات طهران مع الأسد، ستستمرّ في الانخراط في المشهد السياسي والأمني في سورية.

لكن تكمن النقطة الهامة هنا؛ فمن خلال إلقاء نظرة على التاريخ سندرك أوّلاً: إنّ الروس أخذوا درساً من أنور السادات (رئيس جمهورية مصر الأسبق) الذي طرد المستشارين العسكريين السوفييت من مصر، وتعلّموا ألّا يثقوا بأصدقائهم وحلفائهم الإقليميين أكثر مما ينبغي. لذلك ليس من الواضح ما إذا كانت روسيا ستعطي  الضوء الأخضر لبقاء الأسد في السلطة، أو أنّ الرئيس السوري سيفوز بأغلبية في انتخابات 2021، هذا بعد أن نفترض نجاح عملية إعادة صياغة الدستور السوري.

ثانياً: يبدو أنّ إيران فقدت، على المدى الطويل، أهميتها ودورها بالنسبة للروس فيما يتعلّق بمعادلات القوة في سوريا، و أنّ روسيا تتماشى الآن مع اتجاه ونوع التطورات الجارية، وتنوي أن تلعب، على المدى القصير والمتوسط، بورقة تركيا، بدلاً من ورقة إيران المليئة بالمتاعب، وذلك للأسباب الرئيسية التالية:

1- لتتمكّن من إشراك تركيا بشكل أكثر فعالية، مقارنةً بإيران، في مشاريع إعادة الإعمار في سورية، لأنّها على اطّلاعٍ تامٍّ بقيود العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية.

2- إنّ إدخالها لتركيا بدور الضامن في الصراع الدائر في شمال سوريا، من شأنه أن يحيّد الولايات المتحدة بشكلٍ أكثر فعالية، ويخلق صدعاً في علاقات تركيا مع حلف الناتو.

الانتقال السياسي في سورية مرهونٌ بخروج إيران

يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيداً أنّه لن يكون من الممكن انتقال سوريا من المرحلة العسكرية إلى المرحلة السياسية، كذلك لن يتمّ تسريع عملية إعادة الإعمار، بدون تمويل أوربا ودول الخليج العربي. وقد صدر عن الأسد إشاراتٍ قوية وواضحة تشي بإعادة العلاقات مع دول الخليج العربي، واحتمال عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية مستقبلاً. بالإضافة إلى ذلك ترغب روسيا في تطبيع علاقات دمشق مع دول الخليج بشكلٍ تدريجيّ.

من جهةٍ أخرى، يبدو أنّ أوربا ودول الخليج العربي الغنية، ومن بينها السعودية والإمارات، قد ربطت مساعدتها في عملية إعادة الإعمار في سورية بخروج إيران منها. ولذلك، يبدو أنّ روسيا-اللاعب الواقعيّ- ستضطر أخيراً، في سبيل تحقيق أهدافها الاقتصادية والجيوسياسية بعيدة المدى في سوريا والشرق الأوسط، إلى لجم القوات التي تدعمها إيران في سورية، وستمهّد الطريق تدريجيّاً لإنهاء وجودها العسكري في سورية، وبذلك لن تضحّي بمكتسباتها الجيوسياسية التاريخية في سوريا من أجل التعاون المليء بالمتاعب مع إيران.

لا شكّ أنّ نتيجة الحرب السورية ما تزال غير واضحة، كما أنّه لا يمكن التنبؤ بمسار التغيير والتحولات في منطقة الشرق الأوسط المليئة بالاضطرابات، لكن ما يبدو واضحاً هو أنّه مع مضيّ ما يقارب ثماني سنوات على بداية الأزمة السورية، فإنّ روسيا هي الرابح الأكبر في صراع القوى في سوريا؛ الصراع الذي استفادت منه روسيا من أجل عودتها إلى الشرق الأوسط، بعدة فترة من الحضور القوي بين أعوام (1955-1980) خلال الحرب الباردة.

هذه المرّة أراد الروس، بدخولهم الحرب بشكلٍ مدروسٍ وحذر، أن يضعوا أنفسهم كقوّة أساسية إلى جانب الولايات المتحدة؛ حيث تنوي روسيا في البداية إقامة هيكل ثنائي القطب على مستوى المعادلات الأمنية-العسكرية والجيوسياسية لهذا البلد، ومن ثمّ إذا سارت التطورات لتأمين مصالح الكرملين، فإنّها ستوسّع هذا الهيكل وتعممه كمشروع لبناء نظام إقليمي أو حتى دولي.

إذا التزم ترامب بتنفيذ قراره، المتمثل بانسحاب أمريكا من الشرق الأوسط، بشكلٍ عملي وحقيقي، فحينها يمكننا القول إنّ الشرق الأوسط سيدخل، بشكلٍ تدريجيٍّ، مرحلة ما بعد أمريكا، وسيتمّ تعزيز النفوذ والهيمنة الروسية فيه، وهي المرحلة التي ستشجّع الروس، أكثر من ذي قبل، على تنفيذ مشروع بناء نظام إقليمي، لكي تحافظ دوماً على إيرانٍ ضعيفةٍ ومضطربة، لكن غير متورطة في الحرب مع أمريكا، وتلهيها بخططها المهيمنة، وأهدافها بعيدة المدى في المنطقة.

…………………………………………

الكاتب: حسين آغائي؛ باحث في العلاقات الدولية.

ترجمة عن الفارسية: مركز الفرات للدراسات – قسم الترجمة.

رابط المقال الأصلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى