قضايا راهنة

الضغط الروسي على دمشق.. تغيير لقواعد اللعبة أم بداية النهاية لعهد الشراكة؟!

مقدمــــة

على وقع الأحداث الدولية والإقليمية، وفي ظل دراماتيكية التحولات السياسية التي تعصف بالشرق الأوسط، تتصاعد نبرة التهديدات الواردة من صالونات كرملين السياسية (المجلس الروسي للشؤون الدولية) تجاه سياسات الرئيس السوري بشار الاسد والدائرة المقربة  منه -متهمة بالفساد والارتهان لإيران-، ويمكننا الاستدلال من هذا التصعيد بفرضية مفادها أن الروس وبعد مراجعتهم التاريخية استفادوا من تجربة السوفييت المريرة في افغانستان عندما خرجوا مغلوبين على أمرهم وخاليي الوفاض، فالزعيم الروسي فلاديمير بوتين لا يريد أن تتكرر ذات “الحماقة السياسية” في سوريا وتترك الساحة الغنية (جيوبوليتيكاً واقتصادياً..) لأمريكا وحلفائها دون حصولها على امتيازات استراتيجية، إذ رغم سير الرئيس السوري باتجاه سيناريوهات تثير مخاوف موسكو؛ إلا أن تدخل روسيا في سوريا لم يحمل فقط طابع التأييد لحكومة حزب البعث ورموزه كما يظن البعض، فالأمر أعمق من ذلك ويستند لأهداف استراتيجية (عسكرية واقتصادية وسياسية) تطمح موسكو من ورائها أن تكون ركيزة محورية في خلق التوازنات الإقليمية والدولية.

مقاربة روسيا للأزمة السورية

  • أهداف التدخل الروسي في سوريا

هنالك جملة من الدوافع والخلفيات مهدت لتغوص روسيا في الأزمة السورية أبرزها:

  • تأكيد دور روسيا على الساحة الدولية كشريك في محاربة الإرهاب ومعالجة الأزمات الإقليمية.
  • توظيف الأزمة السورية كورقة ضغط تفاوضية في علاقاتها مع أمريكا والغرب بخصوص ملفات لازالت عالقة كأزمة أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية.
  • توظيف الموقع السوري للتأثير في معادلات الطاقة إقليمياً وعالمياً، بما يضعف محاولات استهداف قطاع الطاقة الحيوي للاقتصاد الروسي .
  • تعزيز صادرات روسيا من السلاح انطلاقاً من البوابة السورية.
  • زيادة التبادلات التجارية بين روسيا وسوريا والتي تجاوزت لاحقاً مليار ومئة مليون ليرة.
  • تعزيز التحكم الروسي بمنطقة الهلال الخصيب، بما يقلص قدرة الغرب في المناورة الاستراتيجية فيها، وهذا ما يفسر الوجود العسكري الروسي شرق المتوسط لخلق ترتيبات اقليمية أمنية وسياسية.
  • دبلوماسية الصبر الاستراتيجي

أياً كان حجم التكهن والتنبؤ بما ستؤول إليه المنطقة من تغييرات جذرية أو إصلاحات سطحية لبنية الحكومات ومفاصلها، إلا أن الثابت في المعادلة السياسية والعسكرية  هو تمسك الأقطاب الدولية بأدوارها الثابتة وفقاً لمقتضيات سياسة “الصبر الاستراتيجي والنهايات المفتوحة”، وهذا التكتيك تستعين به واشنطن في مقاربتها النووية الخلافية مع كوريا الشمالية، إذ حتى وإن تقلصت أو تمددت جغرافيا النفوذ والاستقطاب الميداني، إلا أن تكريس دبلوماسية “ترتيب الأوراق المبعثرة ” وإعادة التموضع على الأرض تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، وهذا ما ظهر جلياً مع تقوية القوات الأمريكية نقاط تمركزه شرق الفرات بعد انسحابها إثر التوغل التركي الأخير، وإحدى أهم أسباب الانتشار مجدداً منع حكومة بشار الاسد – مع قرب تطبيق عقوبات القيصر- من التمدد بدعم إيراني ومحاولة كسب النفط والغاز بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي في شمال وشرق سوريا (80% من البترول السوري).

  • أزمات روسيا الداخلية

استدراك التوجه الروسي الجديد في سوريا يتضح أكثر من خلال الإعلام الروسي الذي تحول من مدح العائلة الحاكمة في سوريا إلى ذمها وأحياناً إلى التشهير بها، وهذا التغيير في النهج لا يأتي من باب المهنية الإعلامية في بلد يحمل صبغة سلطوية في التعاطي الإعلامي، حيث تخضع فيه شروط النشر والتدوين لضوابط صارمة من السدة الحاكمة، بل علامة فارقة لمعطيات لا تخلق من العدم وتعدّ جزء من خلفيات استثنائية تؤرق بال الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، حيث تلاحق الكرملين أزمات اقتصادية توسع من دائرة الضغط الداخلي بدءاً بأزمة انهيار أسعار النفط ومروراً بمصاريف التدخل العسكري في سوريا إلى جانب تداعيات تفشي وباء كورونا المستجد، كل هذا في ظرف واقع يعاني فيه 80% من الروس صعوبة في تغطية مصاريفهم الشهرية وفقاً لتقرير وكالة الإحصاءات الحكومية الروسية نشر في العام الفائت .

إصلاح الجيش السوري

تدخل الروس في سوريا عام 2015 وحسمهم لكثير من المعارك العسكرية لصالح الحكومة السورية بني على استراتيجية “حزم النفوذ” التي تخدم استراتيجياً خطوط تأمين الطاقة والتجارة لموسكو ، فروسيا  التي تمتلك خبرة في بناء وإصلاح الجيوش من الصفر – إعادة بناء الجيوش العربية- كما في حقبة الاتحاد السوفيتي سعت ولاتزال لإعادة هيكلية الجيش السوري وإصلاح بنيته الداخلية، والهدف هو كسب ولاء قطعاتها العسكرية المؤثرة بما في ذلك الفيلق الخامس والسادس وقوات النمر؛ ومؤخراً وحدات متنقلة فعالة لخدمة النفوذ الروسي في إطار الحرب بالوكالة، إذ تحاول موسكو منذ أن وطأت قدمها الأراضي السورية أن تزيل مفهوم الجيش العقائدي القائم على الاحتكار الطائفي في الجسد العسكري السوري، حيث يكون الجيش السوري المستحدث قادراً على أداء واجباته المهنية ومنتميًا لعقيدة  أقرب إلى الروس من غيرهم، لكن رغم نجاح مشروعها في بعض المحافظات السورية إلا أنها تصطدم  بالتيار “العقائدي”  في الفرقة الرابعة ويقودها شقيق الرئيس السوري ماهر الاسد ويدعمه في هذا الإطار إيران والكتائب اللبنانية والعراقية الموالية لها، إذ تعدّ هذه القوى محافظة  في عرفها العام على الولاء المذهبي ، ويوازيها في الأمر فشل محاولات روسيا إنشاء فصائل عسكرية كردية موالية لها تدربها وحدات الشعب الكردية ويشرف عليها ضباط روس تقتصر مهامها في حراسة منشآت القوات الروسية ومرافقة دورياتها العسكرية، وتكون هذه القوى مقبولة شعبياً لتنافس الود الأمريكي في شمال وشرق سوريا.

التزاحم الروسي- الإيراني

هو ائتلاف مزدوج أكثر من كونه تحالف استراتيجي هكذا يمكن أن نصف العلاقة “المؤقتة” بين الروس والإيرانيين في سوريا، فالظروف وتعدد الخصوم المشتركين وكثرة التعقيدات في الميدان فرض على الطرفين أن ينسقا ويتعاونا بالإكراه رغم تضاد المصالح، وبناءً عليه تتوقف ديمومة المصلحة الآنية حتى زوال أسباب العلاقة القائمة على معاداة أمريكا وتخفيف تأثيرها على المنطقة.

أصول التزاحم على النفوذ والصراع بين القوتين يتجاوز حدود الاستياء الإيراني من صمت موسكو لاستهداف إسرائيل المتكرر لنقاطها الحيوية في سوريا، فإيران التي دعمت الجيش السوري بالعدة والعتاد وفتحت جسور لوجستية برأ وجواً منذ أيام الحرب الأولى تجد في الوجود الروسي حجرة عثرة أمام خططها المستقبلية  في سوريا، وهنا يكمن رأس جبل جليد الصراع الروسي الإيراني في جملة من الأسباب لا تقبل بعضها القسمة على اثنين:

  • الاستيلاء على الثروات

حصلت روسيا عام 2018 على حقوق حصرية لإنتاج النفط والتنقيب عن الغاز الطبيعي السوري، وأبرمت عقوداً لاستخدام ميناء طرطوس ومطار القامشلي الدولي لمدة 49 عاماً، في حين تقدمت إيران لاستلام ميناء اللاذقية، وهذه الامتيازات قدمت لكلا الطرفين لدعمهما حكومة بشار الاسد بقروضٍ كبيرة طوال سنوات حربه الداخلية، رغم ذلك إلا أن العلاقة المعقدة بين الطرفين الروسي والإيراني تعتريها حالة فقدان الثقة وسوء النية من التسابق على فتح منافذ بحرية دائمة على حوض البحر الأبيض المتوسط، الحوض الذي يطوف على بحر من الغاز الطبيعي يقدر منه احتياطي القطع البحري السوري حسب وزير النفط السوري علي غانم 250 مليار متر مكعب- يدخل سوريا نادي الكبار في مجال انتاج الغاز- ، ويمكن استثمار عوائده المالية مستقبلاً في كثير من الملفات أهمها إعادة اعمار البلاد وإنعاش الاقتصاد السوري مجدداً.

في الحقيقة زاد مؤشر القلق الروسي الذي لا يقبل بقوة إضافية تنافسه على ثروات شرق المتوسط  حينما أعلنت طهران وبمباركة سورية عن مشروع سكة الحديد الواصل بين إيران وسوريا عبر العراق وانتهاءً بميناء اللاذقية المطل على البترول، وهذا ما يشكل  بدوره خطراً حقيقياً على حصرية موسكو في التنقيب والاستثمار عن الغاز الطبيعي ويوازيها سباق التفرد بعقود (إعادة الاعمار والتعليم والاتصالات والصحة والطاقة والكهرباء) وكثير من مسارات الاستثمار التي من الصعب أن  تحل إلا بالتفاهم والتقاسم التوافقي للامتيازات.

  • التحكم بمفاصل الأمن والعسكر

رغم أن الخلاف في نظر البعض يبدو سطحياً ومناورة عسكرية لا تتجاوز حيثياتها “كسر العظم” فكلاهما لن يجد عن الأخر بديلاً يحافظ على توازن مصالحهما الاستراتيجية في مناطق سيطرة الحكومة السورية، إلا أن قراءة عميقة للمشهد الميداني يظهر بوضوح صعوبة التعايش والتكيف بين قوتين نافذتين على الأرض تحمل كل منها توجهات متضاربة، والدلالة تصاعد الاحتكاكات والمصادمات العسكرية الجانبية  في حلب ودير الزور وحماه ودرعا.

من المعلوم أن إيران وبناء على تجربة دمج حشدها الشعبي في الجيش العراقي تطمح لتطبيع ذات الصبغة على مفاصل الجيش السوري والقوة الأمنية بعد أن تلحق بالأخيرة فصائل إيرانية وكتائب عراقية ولبنانية تمتلك نفساً مذهبياً طويلاً لتمرير سياسات إيران وأجندتها في الشرق الأوسط وتحاصر في ذات الوقت التمدد التركي عسكرياً وعقائدياً.

في المقابل يصطدم مشروع إيران العقائدي بطموحات روسيا المستقبلية في منطقة المياه الدافئة، فموسكو لديها  أيضاً مشروعها الخاص لبناء جيش سوري جديد يكون بعيداً في توجهاته وولائه عن توغل العناصر الإيرانية، ويضم أطراف الصراع السوري بحيث تجني روسيا بالفائدة على ثقلها ووجودها على الأرض السورية، من ناحية فهي تظهر للجميع التزامها بتوصل الفرقاء السوريين إلى حل سلمي مقدمته جيش يأوي الجميع، ومن ناحية أخرى تمنح لها امتيازات داخل الجيش السوري .

المصلحة الروسية – الأمريكية

في لعبة قضم المساحات والثروات وتمديد النفوذ تعدّ إيران خصماً للكرملين وندّ لها في سوريا، وأيضاً “عدوة سرطانية” لأمريكا وحلفائها في الشرق الاوسط حينما يتعلق الأمر بخطط “مكافحة الإرهاب” وإشكالية التوزع الاستراتيجي، ولأن الحكومة السورية الحالية تحولت من مؤسسة دولة تتبع لجهاز مركزي إلى منظمة مرتبطة بأطراف إقليمية وخاصة إيرانية، فإن الروس يعانون من موقف محرج أمام اجماع عالمي على رحيل الرئيس السوري بشار الاسد والانتقال السلمي للسلطة في ظل دعمها اللامتناهي لدمشق.

لذا وانطلاقاً من نظرية “المصالح تجمع الأضداد”، فإن ما يجمع القطبين الأمريكي والروسي اليوم من مصالح متبادلة أكثر من تلك التي تفرقها مناوشات جنود البلدين على الأرض، خاصةً أن الهدف الأسمى مرحلياً هو أبعاد إيران عن سوريا وإقصاءها من الكعكة الاقتصادية وامتيازات إعادة الاعمار إلى جانب تقليص حدود تعويم ممثليها في لبنان والعراق والخليج العربي بما تقضيه المرحلة والتوقيت السياسي  المناسبين .

ملامح الاحتقان بين موسكو ودمشق

  • الهجمة الإعلامية الروسية

على الرغم من أن “الغايات تقزم الخلافات” إلا أن الخلافات بين قيادة الكرملين وأصحاب القرار في دمشق تصاعدت وأحدثت حالة من الشرخ بين رؤية أبناء النادي الاشتراكي لما يتعلق برسم ملامح سوريا المستقبلية، والمسبب الرئيسي في هذا الاحتقان الفاضح إعلامياً إيران وعقود الشراكة الاقتصادية، فطهران تنافس روسيا وتزاحمها في كثير من الملفات الهامة مثل جغرافية التوزع العسكري وإعادة الاعمار وملفات  أخرى ذات صلة بجدية والتزام المسؤولين السوريين بعقود اقتصادية وتعهدات مجدولة زمنياً وقعت في وقت سابق مع الجانب الروسي.

  • الاتهامات الروسية

حمل الإعلام الروسي المقرب من دائرة صنع القرار نفساً طويلاً من التحريض والنقد اللاذع ضد أركان السلطة السورية، فعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية شهدت الساحة الإعلامية  تدفق حزم إخبارية من وكالة “الانباء الفيدرالية” الروسية التابعة لـ يفغيني بريغوجين -ممول مجموعة فاغنر العسكرية النشطة في سوريا وليبيا – أطلقت معظمها  اتهامات وأوصاف على الرئيس السوري بشار الأسد لم تكن متداولة سابقاً في قاموس الإعلام الروسي، ونوجزها في عدة عناوين  :

  • الرئيس السوري “ضعيف” على الأرض ولا يملك الإرادة السياسية لمواجهة الفساد.
  • لن يحصل الرئيس السوري بشار الاسد إلا على 32% من السوريين في انتخابات عام 2021.
  • استغلال المسؤولين السوريين مساعدات روسيا لأغراض شخصية.
  • تعقد المشكلات الاقتصادية وغياب المناخ المهيأ للاستثمار بسبب الفساد والمحسوبية، وعدم إيفاء دمشق بوعودها فيما يخص بالاتفاقات الموقعة مع روسيا.
  • اختلاق الأكاذيب لتصدير الكهرباء تحت ذرائع شتى منها قصة سيطرة داعش على حقول الغاز في السخنة بريف حمص.
  • استثمار تناقضات العائلة الحاكمة

في السياسة ليس هناك عدو أو صديق دائمين؛ هناك فقط مصالح دائمة، وهذه الحكمة تنطبق اليوم على المشهد السوري، تزامناً مع الهجمة الإعلامية الأخيرة التي شنتها وسائل إعلام مقربة من دائرة القرار الضيقة في الكرملين، حيث استهدفت الحكومة السورية ورموزها – شريكة  الحرب والسلم –  .

استطاع الإعلام الروسي بصريح العبارة أن يستفيد من جو المشاحنة الأسرية، إذ لعب على وتر التناقضات التي ازدادت “سخونة” داخل عائلة الأسد في معركة “رد الصفعات وتصفية الحسابات” بين أسماء الأخرس عقيلة الرئيس السوري ورامي مخلوف ابن خال بشار الأسد ورجل اقتصاد سوريا الأول ، فأسماء الأسد (حاصلة على الجنسية البريطانية) تتمتع اليوم ببعد دولي وشعبية مبهرة ومؤثرة في وسط الصف المؤيد لحكومة الاسد وتستثمر خلافات أفراد العائلة الحاكمة لتمارس دور الوصاية على كثير من أملاك رامي مخلوف المصادرة من قبل السلطات السورية كـ(جمعية البستان وشركة سيريتل..) وغيرها من استثمارات تقدر بمليارات الدولارات وهي في ذات الوقت تعدّ أبناءها مستقبلاً لقيادة سوريا خلفاً لوالدهم.

أمّا الجناح المضاد لأسماء يتمثل برامي مخلوف والمتهم بمسألة فضح الرئيس السوري بعد إهدائه لعقيلته لوحة الفنان البريطاني ديفيد هونكي (30 مليون دولار) ، إضافة إلى تقارير تثبت احتكار شركة تكامل المملوكة لابن خالة أسماء “مهند الدباغ” للبطاقة الذكية برأسمال صفري، هنا توقيت تحرك ابن خال الرئيس السوري ضد أل الاخرس جاء ليؤلب أكثر الداخل السوري المتشنج من ممارسات حكومة عماد خميس غير الواقعية والمتهمة بقضايا فساد واختلاس  وغسيل الأموال، وهذه الخطوة -غير المسبوقة- حيكت برعاية روسية بعد الخشية من ازدياد نفوذ أسماء الأسد وتمدد سطوتها على حصص الروس الاقتصادية، وخاصة في الجانب المتعلق بحقول الغاز واستخراج البترول من المياه الدافئة، وهذا ما يعدّه الروس في مقاربتهم للمشهد العام خطاً احمراً يخلّ بتوازنات العلاقة بين موسكو ودمشق ويسقط تعهداتهما.

قانون قيصـــر

  • مستقبل العلاقات الروسية – السورية

كلما اقترب موعد تنفيذ عقوبات قيصر “سيزر” القانونية والاقتصادية والتي ستطال معظم أجهزة الحكومة السورية وداعميها من شخصيات ومؤسسات ودول، يزداد حدة الخلاف بين موقفي موسكو ودمشق خاصة أن تلك العقوبات “القاسية والصارمة” ستشمل روسيا والصين وإيران في حال التواءهم على القرار الأمريكي؛ والمضي في دعم الأسد عسكرياً واقتصادياً .

الفقرة (أ) من قانون قيصر تنص على العقوبات التي ستشمل أي شخص أجنبي يتورط في الالتفاف على العقوبات الأمريكية «كل من يوفر عن علم، دعماً مالياً أو مادياً أو تقنياً كبيراً، أو يشارك عن قصد في صفقة كبيرة مع إحدى الجهات التالية، أولاً الحكومة السورية (بما في ذلك أي كيان تملكه أو تسيطر عليه حكومة سورية أو شخصية سياسية بارزة في الحكومة السورية).

وأي شخص أجنبي مثل متعاقد عسكري أو شركة للمرتزقة أو قوة شبه عسكرية تعمل عن عمد بنشاط عسكري داخل سوريا لصالح أو نيابة عن حكومة سورية أو حكومة الاتحاد الروسي أو حكومة إيران، أو أي شخص أجنبي يخضع لعقوبات وفقاً لقانون القوى الاقتصادية الدولية الطارئة (..)

بكل الأحوال من شأن قانون قيصر أن يعيد خلط الأوراق مجدداً ويعيد لواشنطن والغرب حاكميتهما ودورهما في الملف السوري بعد تقلصها، ويحصر في المقابل نفوذ الخصوم على الأرض ويفاقم من أزمة حكومة الأسد وداعميه في الحصول على السيولة والمضي قدماً لإعادة الاعمار، أضف على ذلك توقف مسارات التطبيع الدبلوماسي التي نشطت مؤخراً من قبل دول غربية وعربية مع حكومة الرئيس السوري.

كل هذه الأوراق الضاغطة على الموقف الروسي تضعها أمام امتحان صعب لمراجعة سلوكها في سوريا، وتبني خيار أكثر مرونة مع الإصرار الأمريكي لتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 القاضي بوقف إطلاق النار وتحقيق انتقال سياسي للسلطة بعد اجراء انتخابات حرة نزيهة برعاية الأمم المتحدة، وهذا ما يثير بطبيعة الحال كثيراً من علامات الاستفهام حول شكل وطبيعة العلاقة الروسية السورية مع قرب تنفيذ عقوبات قيصر، فأمّا اختيار بديل عن شخص بشار الأسد والاستعاضة بشخصيات مقبولة من سلطته لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، أو تغييراً جدياً في بنية السلطة من شأنها تضم (النظام والمعارضة وقوات سوريا الديمقراطية) وسط توافق روسي أمريكي وغربي.

  • خيارات الحكومة السورية

على العموم استراتيجية الدول العظمى أكبر وأعمق من ربط ديمومة البقاء في الميدان بمصير أية قوى أو حزب يتم توكيله لفترة مؤقتة كشرطي أو وكيل يخدم مصالحها، لذا يتوجه الروس ومع قرب تطبيق عقوبات قيصر الشاملة- خلال أقل من شهر- إلى استثمار أية ثغرة في جسد الحكومة السورية  لإخضاعها بعصا بوتين الغليظة.

والروس يقبلون على التخلص من أي قوة تشكل لها عبئاً عسكرياً وإحراجاً سياسياً في المستقبل، فصبرها تجاه حليفتها المرحلية – حكومة بشار الأسد–  بدأ ينفذ رويداً رويداً، ويمكننا أن نستنبط  ذلك بتغيير نبرة الخطاب الروسي الصلب الذي طالما تشبث بالإبقاء على شكل السلطة السورية الحالية ومنع سقوطها المفاجئ إلى حين إعداد البديل الضامن لمصالح روسيا المستقبلية على حوض المتوسط.

لأول مرة بعد مضي 9 سنوات من الحرب السورية تنحسر خيارات الرئيس السوري  وتتقلص أمام تجاوز المرحلة العصيبة، وإن كانت تلك الخيارات متاحة في السابق بمناخ وظروف سياسية وعسكرية كانت تصب لصالحه، فلو أبدى الرئيس السوري دبلوماسية مرنة وتوازن في الطرح والحوار لأنقذ موقفه الحالي المتأزم والمربك وأراح الروس من الضغوطات الأمريكية والغربية ولجم “حججهم ومسوغاتهم” – وفقاً للرؤية الروسية – في تبرير دعمها للأسد عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

إذا أجملنا المسألة بخيارين فإن الأول كان بتقديم الرئيس السوري تنازلات إدارية ودستورية في مباحثات استانة  وسوتشي  والاستغناء عن بعض الصلاحيات، أمّا الثاني فيتمثل بمراجعة دمشق اصطفافها واحتمائها خلف الخط الإيراني والفصائل الموالية لها.

في الحصيلة النهائية

بناءً على ما ذكر سابقاً، يمكننا القول أن روسيا تواجه مأزقاً وإرباكاً في موقفها العام فهي مضطرة لترتيب أوراق سياستها في سوريا، فعلى رغم حجم العلاقات بين موسكو وحكومة الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن التعقيدات القائمة بين روسيا وأمريكا والدول الأوربية يمكن أن تضع موسكو في نهاية المطاف وسط عزلة دولية في حال استمرارها بدعم الأسد، لذا فليس من المستبعد أن نشهد في الأسابيع القليلة المقبلة تحولات مفاجئة في الموقف الروسي تجاه حكومة الأسد عبر انتهاج دبلوماسية أكثر مرونة في تعاطيها للمشهد السياسي السوري، وتلافياً للوقوع تحت خطر عقوبات القيصر الأمريكية.

المراجع:

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى