قضايا راهنة

بعد التعافي،،، الكُل مُعرَّض للتغيير ما عدا الشرق الأوسط

كثيراً ما تم الحديث عن التغيير بعد التعافي من فيروس كورونا (COVID 19)، فالعديد من الباحثين بدأوا برسم صورة العالم بعد تعافيه، كالتغيير الذي سيطرأ على القيادة والتحكم والأنظمة الدفاعية، وهو أمر وارد حدوثه في أي مكان ما عدا الشرق الأوسط، ما نقصده هنا هو أن فكرة التغيير بعد الجائحة مرتبطة باتجاهين؛ اتجاه يدفع بعضهم للإصرار في تجديد أنفسهم، وينجحون به عند قبولهم التحدي لمواجهة الجائحة، ومعالجة نقاط الضعف في إدارتهم للارتقاء لمستوى أفضل، وإعادة التفكير في نظرياتهم السابقة، وهنا إما أنهم سينجحون ويتابعون، أو سيتعثرون ويتركوا الإدارة لأشخاص آخرين. وهذا ربما يحدث عند الغرب كحدث مهم يفرض عليهم مراجعة أنفسهم والتجديد للأفضل، كما حصل معهم سابقاً بعد الحروب أو أية كوارث أخرى.

أما الاتجاه الآخر هو ما يرتبط بالشرق الأوسط، أي المنحى الأسوأ، فبالعودة إلى الوراء قليلاً، نجد أنّ الربيع العربي شكّل الحدث السياسي الأكثر تأثيراً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث اندلعت احتجاجات وحروب أهلية، وقلبت موازين بعض الحكومات بين المعارضة والحكومة، وطردت بعض الزعماء من مناصبهم. لكن كل ذلك لم يساهم في إعادة بناء مجتمع بشروط إنسانية، بل أصبحت الأمور أسوأ مما كانت عليه. ومع انتشار الفيروس التاجي، أصبح هناك تحديات جديدة ستواجهها الحكومات على حد سواء، من تدمير للاقتصاد، وانهيار للقطاع الصحي؛ أي لن يتغير أي شيء في الشرق الاوسط، بل ستضاف إليه تحديات جديدة وقاسية. ولن تطيح هذه الأزمات أو غيرها بالإدارات الفاشلة أو تُصلحها.

فالواقع يشير إلى أنّ الفيروس التاجي لا يكفي لوقف الحروب المحلية أو تحقيق أي وحدة. وحتى بعد التعافي ربما يتوقف الصراع للحظات فقط ولكن لن يؤدي إلى تراجع أية عداوة أو مواجهة. ففي الشرق الاوسط دلائل قليلة على أن أنظمتها تتعلم دروساً نتيجة هذا الفيروس. لكن الغالبية منها، ترى أن ظهور الفيروس التاجي فرصة، لسد الغطاء على وعاء الغليان ومنعه من الانفجار مرة اخرى. وهنا نحاول تقديم بعض الأمثلة لنماذج تؤكد على ثبات الشرق الأوسط على نفسه أو تغييره  نحو الأسوأ.

قوى خارجية متحكمة

إنّ المشكلة الرئيسية في عدم انضباط الشرق الأوسط، هو تدخل قوى إقليمية ودولية، بناءً على مصالحها الخاصة، وليس لحل النزاعات وبناء السلام.

فكل قوة إقليمية أو دولية دخيلة في الشرق الاوسط، تصبح هي صاحبة القرار، وليس الحليف، وتنحصر مهمتها الرئيسية في تأمين وثبيت نفوذها في المنطقة، بدلاً من حل أي أزمة أو إنهاء صراع. فمصالح هذه القوى تدفعهم أحياناً للتوافق على وسيلة واحدة لتبرير تدخلهم دون معالجة الوضع، فمثلاً الجميع يرى في داعش تهديداً عالمياً، لكن لا أحد يحاول محاربته بجدية وإخراجه من سورية أو العراق أو من أي مكان آخر ينشط فيه في الشرق الاوسط، كذلك الأمر بالنسبة لجبهة النصرة؛  فالخطط لم تنتهِ ومصالحهم لم تتحقق بعد.

لذا فمصدر القلق المؤثر هو القوى الخارجية المتحكمة في الشرق الأوسط، ودورها لا ينتهي بتفشي الوباء أو أي كارثة اخرى، إنما تستمر هذه القوى بنهجها في المكان الذي استقرت فيه بالمنطقة، وفق الخطة التي ترسمها، وليس كما يتطلبه الوضع أو يرغبه الشعب، وأقصد هنا (الشرق الأوسط)، وهذه الاستراتيجية لن تغيرها أية أزمة.

وما يحدث الآن في ظل انتشار الفيروس التاجي، هو اتجاه الأنظار نحو الدول التي تنشر قواتها في أماكن بعيدة عن موطنها الأصلي، فاحتمالية إصابة الجنود قوية جداً، وأصبح التساؤل يدور حول خيار الجيش؛ ما إذا كان الخصم هو التهديد الرئيسي أم المرض، وهل سيتراجع أو يخفف من وجوده في هذه المناطق البعيدة؟ لكن الواقع يشير إلى أنّ انتشار الفايروس لم يثنهم عن متابعة أنشطتهم العسكرية، وهو أمر ليس بجديد، فأمراض مثل حمى كيو والسل والتي تسببت بمشاكل للجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان لم تؤثر بشكل كبير على المجهود الحربي، بل قامت بعزل الجنود المرضى ومعالجتهم واستبدالهم بجنودٍ آخرين. لذا فكورونا لن يثني أية قوة خارجية عن متابعة سياستها الخارجية أو استرتيجيتها العسكرية.

في سورية

لقد حوّلت الأزمة السورية القوى الفاعلة فيها إلى نظام متعدد الأقطاب، وقلّلت من امكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة المستمرة حتى الآن.

ولم يوقف تفشي كورونا القتال في الداخل السوري، فالدعم ما يزال مستمراً لمختلف القوى المتصارعة، كالدعم الروسي للنظام السوري، والدعم الأمريكي لقوات سورية الديمقراطية، وكذلك الدعم التركي للفصائل المعارضة والاسلامية. وقد زادت هذه الدول من دعمها العسكري واللوجستي لحلفائها، بغية تثبيت نفوذها أكثر في المنطقة، بدلاً من التفكير في الانسحاب أو الخروج خوفاً على جنودها. 

فبالرغم من الدعوات التي أطلقتها روسيا مؤخراً، لإخراج نصف قواتها من سوريا عند انتشار الفيروس في سوريا. إلا انها لم تغير من استراتيجيتها ولم تسحب أي جندي لها.

أما الولايات المتحدة، فقد بدأت بالعمل على إعادة تثبيت نفوذها بشكل أكبر ضمن منطقة شرق الفرات، وزادت من دعمها اللوجستي والعسكري لحلفائها على الأرض.

ولم توقف تركيا إمداداتها إلى سوريا، المتمثلة بإدخال آلاف الآليات من دبابات وناقلات جند ومدرعات ورادارات، بالإضافة لآلاف الجنود.

في ايران

من المتوقع أن تؤثر أزمة تفشي الفيروس على إيران، ولكن في الواقع التأثير ربما يكون مقتصراً على بعض الاشخاص، إلا أن الحرس الثوري لن يتأثر بذلك، بل إن فرصة سيطرته ستتوسع بشكل أكبر.

أما الخسائر الفادحة في إيران بسبب كورونا، قد تجلب لها فائدة من جانب آخر، وذلك من خلال سعيها لتخفيف العقوبات الاقتصادية التي أضرت باقتصادها، وهو ما يعمل عليه الساسة الإيرانيون في المجال الدبلوماسي لتخفيف العقوبات، ويكثفون الضغوط على الولايات المتحدة لتخفيف عقوباتها، وطلب قرض طارىء بقيمة 5 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لمكافحة الفيروس. 

لكن التغيير لن يحدث وهو ما أشار اليه “روبرت مالي” المدير التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية في واشنطن، عندما قال: ” في ظل الازمة الحالية، المتشددون اليائسون قد يتخذون مغامرات أو تهور أكثر خطورة”. كما حذر الجنرال “كينيث ماكنزي” القائد الرابع عشر للقيادة المركزية للولايات المتحدة، أخبر الكونغرس أن تفشي الفيروس، ربما يجعلهم، في صنع القرار، أكثر خطورة وليس أقل”.

فأزمة الفيروس، ساعدت الحكومة الإيرانية، في إطلاق تصريحات هجومية جديدة ضد الولايات المتحدة، ودورها في سرعة تفشي الفيروس لديها، بسبب عقوباتها، إلا ان هيومن رايتس ووتش كتبت في تقريرها” صحيح ان العقوبات قيّدت قدرة البلاد على تمويل الواردات الانسانية، بما فيها الادوية. لكن الحكومة الايرانية تتحمل المسؤولية الاساسية عن الوباء عبر انكارها تفشي المرض في البداية ثم بدأت تتفاعل ببطء شديد، خشية من تفاقم الوضع أكثر وخلق فوضى خارجة عن السيطرة. فالوباء لم يؤثر على سياستها، بل ستزيد من نهجها بالضغط الداخلي والتدخل الخارجي. 

في العراق

العراق من أكثر المناطق في الشرق الأوسط التي تشهد احتجاجات وتعاني من قضايا فساد، وفي أزمة تقشي الفيروس، بدأ الهدوء يعم أرجاء هذا البلد، لكن احتمال اندلاع الفوضى في هذه الدولة ما زال قائماً نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، وانخفاض أسعار النفط عالمياً، فالمأزق السياسي للعراق لم ينتهِ بعد، وهو في انتظار جولة مقبلة. 

فالحكومة العراقية ضعيفة، ومتعَبة، ولا تمتلك أية حلول للأزمات، أو البطالة، وهذا ما يسبب مشكلة لديها منذ عقود ولن تنتهي بانتهاء الفيروس، فالحكومة العراقية تسيطر على الاقتصاد العراقي منذ ما يقارب الستة عقود، وغالبية شركاتها هي شركات نفطية ومصانع ودعم لبعض الشركات الخاصة، لذلك أصبحت الوظيفة الحكومية هي الهاجس الوحيد للمواطن العراقي، والجديرة بالاهتمام.

لكن أي تغيير سيحدثه النظام العراقي وأي آمال سيحققها للشعب؟ والبلاد تشهد شللاً كاملاً في الحياة الاقتصادية، وأزمة النفط الحالية الذي انخفض إلى مستويات حادة، وهي الضربة الأقوى للاقتصاد العراقي، كونها من الدول التي لا تمتلك احتياطات مالية، فـــ 90 % من عائداته تأتي من النفط، وكل هذه الظروف ستندمج في بيئة سياسية متوترة بشدة، ستتأزم بشكل أكبر بعد كورونا.

في ليبيا

وهي من الدول التي مزقتها الحرب بين طرفي صراع، في شرقها (حفتر) المدعوم من الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا، وفي غربها (السراج) المدعوم من تركيا.

ومع بداية أزمة الفيروس التاجي، أعلنت إدارة البلاد في الجهتين حظر التجول، واقتنع الجانبان بوقف القتال، بعد تدخل من الأمم المتحدة، واقناعهم بفكرة “التوقف الإنساني” في 21 مارس. بسبب كورونا، علّها تكون خطوة لهدنة دائمة. لكن بعد مرور أربعة أيام، وبالتزامن مع تسجيل البلاد لأول إصابة بالفيروس، عاد القصف بهجوم لقوات الوفاق (السراج)، على إحدى قواعد (حفتر) الجوية (قاعدة الوطية)، وتطور الأمر برد حفتر بضرب طرابلس بعنف، حيث شهدت البلاد هجمات أشد مما كانت عليه قبل كورونا.

لذا تفشي الوباء في ليبيا ودعوة الوسطاء لوقف إطلاق النار غير كافٍ لمنع التصعيد أو إيقافه، فالجانبان بدأا يستغلان الفيروس التاجي لاستكمال سيطرتهما. ومن الصعب اقناعهما بإيقاف الحرب أو التهدئة وهو ما صرح به السراج منذ أيام بعد تقدم قواته على حساب قوات حفتر في عدد من النقاط. لذا فالاستراتيجية السياسية والعسكرية ما قبل كورونا اشتدت ازمتها في ظل ازمة تفشي الفيروس، ولا توجد أي ملامح على تغييرها بعد انتهاء الوباء، فالملامح تشير إلى اتباع النهج نفسه، مع زيادة وتيرة العنف.

في تركيا

لا تزال الحكومة التركية الحالية، تعمل على تقوية الاقتصاد المحلي بالرغم من تفشي الفيروس في البلاد، حيث ركز الرئيس التركي في خطابه الأول حول أزمة الفايروس، على اقتصاد البلاد بدلاً من معالجة التدابير الطبية والاجتماعية، للحد من انتشار الفيروس، فحزمة التحفيز الاقتصادي  والضرائب والضمان، لا تقدم أي دعم مالي للمواطنين. فسياسة تركيا تجاه حركاتها القديمة لا تزال كما كانت عليه، ويجد الأطباء والاقتصاديون أن رد فعل الحكومة هش، كون تركيا هي من الدول الأكثر تضرراً من الفيروس التاجي، في حين أنّ البلديات التي تديرها أحزاب المعارضة تتخذ تدابير وقائية أفضل من تلك التي طرحتها الحكومة.

كما لم يمنع الفيروس تركيا من تدخلاتها العسكرية في الخارج، فما زالت تدعم السراج في ليبيا، وفصائل المعارضة والاسلامية في سورية، بالإضافة لقصفها المتقطع للعديد من القرى والمواقع في شمال وشرق سوريا، والمتزامن مع قطع المياه عنها في ظل تفشي الفيروس.

في لبنان 

انتشار الفيروس في لبنان جاء في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية وقضايا فساد واحتجاجات. وفي ظل تفشي هذا الفيروس، حشد حزب الله كافة امكانياته وموارده لمواجهة الفيروس في مقابل الحكومة، لإثبات دوره أمام الشعب اللبناني ككل، وهي فرصة ينتهزها الحزب لتجميل صورته، بعد تدخله في سورية.

أما الحكومة فيرى العديد من الناشطين اللبنانيين أن دعوات الحكومة اللبنانية لإلغاء الاحتجاجات ليست بدافع المخاوف الصحية، كما هي الحال عليه في بعض الدول (الأوروبية أو الولايات المتحدة أو بعض الدول الأخرى)، فأزمة تفشي الفيروس بحسب الناشطين ماهي إلا فرصة تراها الحكومة اللبنانية لخنق الحراك وقتله. وهو أمر ينطبق على دول أخرى مثل الجزائر التي كانت تشهد احتجاجات قبل الفيروس.

داعش يبقي نشاطه فقط في الشرق الأوسط

بالرغم من تبني تنظيم الدولة نهج شن هجمات على الغرب، في ظل أزمة الفيروس التاجي، فقد بدأ بنصح أعضائه بعدم السفر إلى أوروبا، تحت شعار نهج “السلامة اولاً”، وقد صوروا في صفحاتهم الإخبارية الوباء على أنه مشكلة تؤثر على العالم الخارجي، لذا سيبقى التنظيم ينشط  في الشرق الأوسط، ويعمل على تدمير المنطقة.

ومن ناحية أخرى عدم قدرة الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والقوى الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط، على التوصل لاتفاق واستراتيجية موحدة لمحاربة داعش، يعتبر فشلاً كبيراً وتهديداً خطيراً للاستقرار في الشرق الاوسط.

خلاصة القولأنه مع شق هذا الفيروس لطريقه في الشرق الأوسط، فهو يصيب مناطق أغلبها تتأرجح تحت وطأة الصراعات المسلحة والاضطرابات الاجتماعية، والاقتصادية، إلا ان استجابة العديد من هذه الدول لأزمة انتشاره كفيل بثبات الشرق الأوسط على وضعه أو التغيير للأسوأ يمكن تحليله كالتالي: 

– سعي العديد منها لإخفاء البيانات الحقيقية المتعلقة بالفيروس، الغاية منها تخفيف عواقبه؛ لأن فقدان السيطرة عليه، سيتسبب في حدوث كارثة، ويؤدي في بعض الحالات إلى مستوى من الفوضى يخرج عن السيطرة. وخاصة في الدول التي شهدت أو تشهد نزاع مسلح، فهي الأقل شفافية في معلومات تسجيل الاصابات بالبلاد، فتدابير الاحتواء له يشكل تحدٍ جديد لها، لذا النتائج ستكون كارثية على أنظمتها.

– أما البلدان التي كانت تشهد حركات احتجاجية، فقد شكّل الفيروس معضلة للمتظاهرين، فتجمعاتهم تبددت، كما أُلزموا بتتبع سياسات حكوماتهم على أنها ضرورية، وهي فرصة تجدها هذه الحكومات لتظهر بوضع أقوى، من خلال تحويل الانتباه عن سلوكها المُدان وتجسيد نفسها كإدارة جديرة لرعاية مصالح مواطنيها.

– في بعض البلدان المستقرة نسبياً، فرضت عليها سياستها التردد في اجراءات احتواء الفيروس او التغيير من نهجها، فالهدف التركي للاندماج في الاقتصاد العالمي، بدا واضحاً أنه أهم من اجراءات التقييد والعزلة، أو أي تغيير اضطراري لسلوكها. رغم تحذير العديد الاكاديميين والناشطين الاتراك، بخروج الوضع عن السيطرة، نتيجة التقليل من شأن الوضع كما فعلت ايران.

– يبدو أن تفشي الفيروس في الشرق الأوسط سيصبح بمثابة نعمة لبعض انظمتها فهو الوسيلة التي ستساهم في تحصين مراكزهم على المدى الطويل، عبر إلهاء الشعوب، ونسيان مشاكلهم الرئيسية، والخروج بمظهر الخادم والمدافع الأول عن الشعب بعد التعافي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى