قضايا راهنة

أردوغان والالتفاف على مواجهة الحقيقة

كانت الجهة التي نفذت الضربة ضد الجنود الأتراك هي روسيا على الأرجح، وكانت تحركاً جريئاً، فلم يكن قد بقي على انقضاء مهلة أردوغان سوى أقل من 48 ساعة، حيث استطاع الروس قراءة المشهد والحالة، فكان التحرك السريع والخاطف، الذي أحرج الرئيس التركي أمام الجميع (داخلياً وخارجياً)، وكانت رسالة بالغة الوضوح والصراحة لأنقرة؛ فحواها أن الروس لن يتهاونوا في الدفاع عن النظام السوري، وقد كانت الرسالة من القوة بحيث أنها أربكت أردوغان، الذي لم يترك خلفه حليفاً ولا صديقاً، فقد دق أردوغان باب حلفائه القدامى- الناتو بشكل عام، وواشنطن بشكل خاص- وطلب منهم العون والمساعدة، ولكنه لم يحصل منهم سوى على الإدانة ووعود بالمساندة والدعم، وهي على الأغلب ذات صبغة معنوية.

بات واضحاً الآن أن لقاءات أستانا ومساراتها كانت لذر الرماد في العيون، وكانت بمثابة هروب تركي من الواقع إلى الأمام فقط، حيث قام أردوغان بإخفاء حقيقة الصفقات مع روسيا وإيران اللتان تسايران المعارضة إلى وقت ومسافة محددة. أما “المعارضة السورية” التي تعامت عن خذلان أردوغان لها، ما زالت تعتقد بأن الأمور تسير على ما يرام، في الوقت الذي أدت فيه مسارات أستانا منذ البداية إلى تراجع واضح في مساحات السيطرة العسكرية لفصائلها، وبالمقابل ضعف موقفها السياسي في لقاءات جنيف. وتكمن المفارقة في أن هذه الدول تجتمع تحت سقف أستانا كدول ضامنة، ولكنها عملياً تقاتل إلى جانب أطراف النزاع السوري، وتقترب يوماً بعد يوم من لحظة المواجهة المباشرة، وهي لحظة مواجهة الحقيقة.

كل ما سبق كان بسبب مخاوف حزب العدالة والتنمية من التقدم الذي أحرزه الكرد في مناطقهم ضد قوى الإرهاب والتطرف، ففي كل صفقة تسليم لمناطق المعارضة كانت أنقرة تحصل بالمقابل على قبول روسي- إيراني لتوغل القوات التركية إلى المناطق الكردية، فقد تم تسليم داريا والمعضمية والزبداني مقابل فتح الطريق أمام عملية “درع الفرات” التي كانت تهدف إلى منع التقاء القوات الكردية في منطقتي كوباني وعفرين، كما تم تسليم الغوطة مقابل القضاء على الإدارة الكردية في عفرين، ولم يكن للمعارضة أي مكسب من هذه الصفقات سوى الحصول على بيوت وأرزاق الكرد من أهل عفرين، ورأس العين، وتل أبيض، وجرابلس، والباب.

كان أردوغان يأمل أن يقتنع الروس والإيرانيون، وكذلك الداخل التركي والمعارضة السورية، بأن لقاءات أستانا كانت مفاوضات حقيقية، واعتقَدَ بأن شراء أنقرة لمنظومة S400 سيكفي لأن يبيع الروس النظام السوري لصالح إرضاء تركيا (الزبون الدسم)، وبأن تسليم مناطق المعارضة ستشفع لتركيا عند روسيا، وستطلب على إثرها كل ما ترغب فيه.

تركيا والنظام السوري وجهاً لوجه في إدلب

يسعى النظام السوري للوصول إلى الحدود الدولية، وليس فقط إدلب، وهو مطلبه المعلن، في حين أن المنطقة الآمنة ذات العمق 32 كم بالنسبة لتركيا لم تعد تقتصر على المناطق الكردية وحسب، بل إنها تمتد إلى منطقة إدلب والمناطق المرتبطة بها إدارياً، وربما إلى المناطق المتاخمة للساحل؛ بدءاً من كسب وما حولها.

جاء الاتفاق الروسي- التركي الأخير على غرار أستانا، فقد رسم ملامح حلول وسطية وهمية  بين غايتين معلنتين لا يمكن التراجع عنهما، فتوقف النظام السوري سيعني القبول بالواقع، والواقع يعكس مشكلة مركبة؛ أولاً تثبيت الفصائل الإرهابية لمناطق تواجدها، وثانياً القبول بالاحتلال التركي، الذي بات واضحاً جداً من خلال إرسال أنقرة لمعدات، وعتاد، وعدة لا تنذر إلا بالرغبة في تثبيت نقاط المراقبة كقواعد عسكرية لاحتلال دائم. وهذه العدة والعتاد تعكس الرغبة التركية الحقيقية لمحاربة قوات النظام، وما يعيق تنفيذ ذلك هو وجود القوات الروسية التي تدعم القوات السورية في حربها مع الفصائل المسلحة، وهو ما دفع  أردوغان إلى مطالبته لبوتين بالابتعاد عن طريقه لمواجهة النظام السوري.

في حين أن انسحاب الجيش التركي، والتخلي عن المعارضة، واختيار مسار “سياسة الأمان والسلامة” سيعني كسر هيبة الجيش التركي، وسقوط أردوغان سياسياً، فهو إما أن يمضي إلى ما عقد العزم عليه، وأن يتحمل كافة النتائج أو أن ينسحب ويقرّ بفشل سياسته، ما يعني سقوطه سياسياً وإلى الأبد، حيث ستستفيد المعارضة الداخلية وخصومه من هذا الفشل واستثماره سياسياً للإيقاع به وبنظامه؛ لا سيما أنه صنع لنفسه الكثير من الخصوم السياسيين.

بعد مقتل جنوده، طرق أردوعان  أبواب الحلفاء ولم يصغ إليه أحد، فخَفُت صوته، وهدأت نبرته، حتى أنه توارى عن الإعلام لفترة طويلة، إلى أن خرج مهدّداً النظام السوري بدفع الثمن، وطالباً من الروس بعدم التدخل لحماية هذا النظام. كما طالب أردوغان بانسحاب الجيش السوري إلى حدود اتفاقية سوتشي؛ أي إلى ما قبل نقاط المراقبة التي أنشأتها تركيا بحسب هذه الاتفاقية.

تحرك أردوغان عسكرياً تنفيذاً لتهديداته التي جعل نهاية شهر شباط آخر مهلة لانسحاب قوات النظام، وقام بمساندة الفصائل المسلحة التي أحرزت تقدماً بسيطاً، وبدا واضحاً أن هذا التحرك كان لحفظ ماء الوجه فقط، وكان عبارة عن جعجعة عسكرية فقط؛ إذ لم يحقق هذا التحرك أية نتائج تُذكر، حيث تم استعادة سراقب لفترة وجيزة، وسرعان ما استطاع جيش النظام السوري بدعم من الطيران الروسي استرجاعها مجدداً.

سعى أردوغان، الذي أيقن بخسارته لكل حلفائه، إلى الحفاظ على ما بناه من ارتباطات مع روسيا، بتقدير أن الحفاظ على هذه العلاقات أهون الشرور، ولأجل ترجمة هذه المواقف أعلن أن منظومة S400 سيتم تفعيلها في نيسان/ أبريل القادم بشكل كامل، وبالمقابل لم يوقف عملية تدفق اللاجئين إلى أوروبا.

كيف يمكن قراءة اتفاق بوتين- أردوغان؟

فشل أردوغان في تحقيق أي مكسب في الاتفاق الأخير مع بوتين، فمن خلال تفاصيل هذا الاتفاق يبدو أن هدفه لم يكن تحقيق المكاسب أصلاً، إنما كان فقط الجلوس مع بوتين، وذلك لتجنّب الانزلاق أكثر فأكثر في متاهة اندلاع الحرب مع سوريا ومن خلفها روسيا، بعد أن أوقعه اندفاعه المتهور أو زلة لسانه إلى وضع مهلة لانسحاب الجيش السوري إلى ما خلف نقاط المراقبة التركية، وبعد أن لم ينسحب جيش النظام السوري، بل وتعرّض قواته إلى استهداف مهين خلّف عشرات القتلى من جنوده، سعى إلى وضع حد لما يجري بأي ثمن، وكانت المعارضة السورية هي من تدفع  الثمن على الدوام ، إلا أن أردوغان دفع قسطاً لا بأس به هذه المرة على حساب سمعته السياسية، مع ظهور اعتراض داخلي متشنّج على سياسة أردوغان في سوريا، وصل إلى حد العراك داخل قبة البرلمان التركي، ويمكن تحديد فشل الاتفاق وفق النقاط التالية:

  • لم يتضمن الاتفاق أي تنازل روسي أو سوري حسب مطالبات أردوغان وتصريحاته السابقة.
  • لم يقر الاتفاق بضرورة انسحاب الجيش السوري إلى حدود اتفاقية سوتشي أو إلى خلف اتفاقية نقاط المراقبة التركية (12 نقطة)، وهذه النقاط لم تعد مجدية الآن، لأن الاتفاق الجديد جبَّ ما سبقه من اتفاقات، وثبّت الأوضاع الميدانية الحالية على ما هي عليه.
  • لم يتضمن الاتفاق أية إشارة إلى طريق M5 الذي خرج تواً من يد مواليه، وهو بحد ذاته خسارة بائنة لأردوغان.
  • يشير الاتفاق صراحة إلى فقدان أردوغان ومواليه زمام المبادرة، بعد أن تم الاتفاق على تسيير دوريات روسية- تركية مشتركة على طريق M4 وبطول 6 كم؛ أي أنها ستمر بقلب منطقة سيطرة الفصائل المسلحة، بعد أن كان الهدف هو العودة إلى ما خلف نقاط المراقبة.
  • لم يشر الاتفاق إلى مصير المنطقة الجنوبية من طريق M4، والنظر في ما ستؤول إليه الأوضاع هناك.
  • كان إعلان وقف إطلاق النار في خطوط التماس في ريف إدلب فقط، ولم يكن عاماً وشاملاً.

وبذلك لم يحفظ الاتفاق ماء وجه أردوغان، لأنه لم يتسق أبداً مع مطالباته قبل عقد هذا الاتفاق، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه لا يُستبعد أن يوجه أردوغان سبطاناته وإرهابييه نحو المناطق الكردية (كوباني مثلاً) أو منطقة منبج في السعي لحصد انتصار يواجه به هزيمته، علّه يخفف من سخط الشارع التركي على سياساته.

إن الاتفاق كان من الهشاشة لدرجة أن أغلب المراقبين نعتوه بالفاشل، لأنه لم يرتقِ إلى حجم المشكلة، وكان تهرباً من مواجهة الحقيقة، ولكن هل هذا يعني أن أردوغان تجاوز لحظة مواجهة هذه الحقيقة؟

إن حتمية المواجهة لا تزال قائمة، إلا في استثناءات لن تكون سهلة وبسيطة، بل ستكون عسيرة وعصيبة، وهذه الاستثناءات ترتبط باستسلام أردوغان أو بتسليمه بقية ما تبقى للمعارضة السورية من نفوذ في سوريا بعد “التيقّن” بعدم حصول الكرد على أية مكاسب.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى