مقالات رأي

الجمرة السوداء

تغيرت الكثير من الرؤى والمفاهيم في العالم وبخاصة في الشرق الأوسط بعد عام 2000م، وبالتحديد بعد 20 آذار 2003م. مع بدء الحرب الأمريكية على العراق؛ حيث كان الهدف الصريح منها ضرب نظام صدام بعد أن اتخذت دول التحالف آنذاك قرارا بالهجوم العسكري على العراق لامتلاك صدام حسين لأسلحة نووية كما ادعت وقولها إن ذلك يهدد السلم الأهلي والعالمي.

وفي ظل القضاء شبه التام على الجيش العراقي والانفلات الأمني برزت العشرات من الجماعات المسلحة والتنظيمات المتطرفة التي اتخذ أغلبها أسماء وألقاب ذات صفة اسلامية ولكنها في مضمونها كانت ضد الفكر والعقيدة والدين الاسلامي بل انها تنافت مع الكثير من القيم والمثل الانسانية.

من أبرز وأولى الجماعات المتطرفة كانت “جماعة التوحيد والجهاد” بزعامة أبي مصعب الزرقاوي في عام 2004، التي بايعت تنظيم القاعدة ليصبح “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” ليغدو من أقوى التنظيمات في الساحة العراقية حتى عام 2006م، حيث أعلن أبو مصعب الزرقاوي, وفي نهاية العام تشكيل دولة العراق الاسلامية بزعامة أبي عمر البغدادي. بعد مقتل (أبو عمر البغدادي) و(أبو حمزة المهاجر) في 19/4/2010م. إثر عملية عسكرية عراقية أمريكية مشتركة في منطقة الثرثار، وبعد حوالي أسبوع تم اختيار أبو بكر البغدادي خليفة له والناصر لدين الله سليمان وزيراً للحرب، بعد اجتماع لما كان يعرف بـ “مجلس شورى الدولة”.

في أواخر عام 2011م. وبعد أن تكونت جبهة النصرة وتحولت الثورة السورية إلى صراعات متعددة الجوانب والغايات والاتجاهات ظهرت علاقة الجبهة الفكرية والتنظيمية مع “دولة العراق الاسلامية”، ما لبثت تلك الشكوك أن تحولت إلى حقيقة بعد إعلان البغدادي أن جبهة النصرة هي امتداد لدولة العراق الإسلامية، وأعلن عن اندماجهما تحت مسمى الدولة الإسلامية في دولة العراق والشام، وتضاربت بعض التصريحات تارة أخرى بين الجولاني ودولة العراق الإسلامية ولكن التعاون الوثيق كان سيد الموقف بين التنظيمين وكذلك بين النصرة والقاعدة.

بعد الإعلان عن ولادة التنظيم الإرهابي الذي ضم صنوفاً وأشتاتاً من المرتزقة والجناة والفارين من العدالة واقتحام “سجن التاجي المركزي” ببغداد في تموز2013 م. وانضمام أغلب السجناء المحكومين بالمؤبد والإعدام وزعماء العصابات والمرتزقة إلى صفوفه وكذلك من “سجن صيدنايا” المعرف كمركز لسجن كبار المجرمين والارهابيين وممن وقفوا في وجه طغيان النظام وجبروته في سوريا، وعبر شبكة إعلامية واسعة ودعاية متخفية وإغراءات مالية مادية ومعنوية ودينية وايديولوجيا متشددة متطرفة استطاع “تنظيم الدولة الاسلامية” وما عرف اختصارا باسم “داعش” أن يثبت تواجده ويوسع من شأنه وقوته ومناطق نفوذه.

منذ بدايات عام 2013م. بدأ داعش بالتوسع والتغلغل في كل من سوريا والعراق، وبات يستفيد من كل ثغرة يراها في الوضع الأمني في البلدين ليتوسع على الأرض ويحتل المزيد من العقول ويغسل الأدمغة عبر شبكة من الخبراء النفسيين والأطباء والمختصين في التربية، لزرع مفاهيمه المتطرفة وخاصة بين جيل الشباب وبطرق عديدة واقتناصهم من الجوامع ودور العبادة وحتى من الملاهي الليلية والشوارع ومن بين الراغبين في الهجرة من وإلى أوروبا وبأساليب شتى، حسب حاجة وميول من كان يصطادهم ليغريهم ويقدم لهم كل ما يحلمون به من المال والمتعة والجاه والخلود وكل ذلك تحت مسمى الدين وبذريعة الجهاد، زارعاً في عقيدة وفكر وذهن كل ضحاياه أن العمل والكفاح المسلح والدعوة للدين وحتى الجنس؛ إنما يكون في سبيل الدين وعلو شأنه.

تمدد داعش كالطاعون على مساحات واسعة من العراق وسوريا وخلال عامي 1013-2014م. سيطر على كل من الموصل ونينوى، ومن ثم شنكال، وكان سقوط الرقة بيد جماعاته الارهابية المرتزقة في صيف عام 2013م. ليتخذها عاصمة مزعومة لدولة الخلافة الخرافية، وفي أيلول من العام 2014م، كانت بداية حملاته على كوباني التي غدت أسطورة القرن بمقاومتها والتي غيرت المعادلات في الشرق الأوسط وفي العالم.

لم يقتصر الوباء “الداعشي” على الانتشار والتمدد على الأرض فقط بل إن ثقافة متطرفة عمياء، وفكراً أسود ضالاً بات يسود مناطق سيطرته وبات واضحاً للعيان معاداة داعش لكل الثقافات وكل الأديان والمذاهب، وأرجعت المجتمعات في المناطق التي سيطرت عليها إلى عهود القرون الوسطى وعهود الظلام.

مجتمع الرق والسبايا والتفكك الأسري في ظل داعش

كانت بداية التأثيرات الهدامة في مجتمع المناطق التي سيطرت عليها داعش تظهر بتسارع غير معقول لأعمالها الإجرامية بحق الإنسانية جمعاء، ولا أحد ينكر أن داعش حقق جلّ انتصاراته اعتماداً على التهويل في بث الرعب في صفوف المجتمع وتسخير الإعلام بطرق مدروسة، وعبر مختصين نفسيين جمعهم كما مرتزقته من شتى أنحاء العالم، وسخّر في سبيل ذلك شبكة إعلام واسعة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي ومواقع النت الإخبارية، والعشرات من وكالات الأنباء الوهمية التي بث خلالها مناظر الذبح والنحر للبشر وقتل المخطوفين والأسرى لدية بطرق بشعة بعد عرضهم على الإعلام واستنجادهم ليبث الرعب بين الناس، ومن ثم التفنن في قتلهم، ولم يسلم من رعبها الإعلاميون والنساء والأطفال وحتى الطيارون ومناظر قتل ونحر المختطفين وحرق الطيار الأردني “معاذ الكساسبة” لم يزل في ذاكرة الكثيرين، ولذلك كانت الكثير من المناطق تُخلى من سكانها قبل أن يصل لها داعش خوفاً من رعبها وإرهابها، وعندما احتلت شنكال مَثلت وقتلت واغتصبت ومن ثم افتتحت أسواق النخاسة والرق من جديد وباعت حرائر الإيزيديين في أسواق الموصل والرقة، وأجبرت الأطفال على الانخراط في العمليات العسكرية والقتل والذبح وغسلت أدمغتهم لتحولهم لوحوش ضارية، فيما عزلت المرأة وألقت عليها ثياب السواد كما ألقت بالسواد على كافة نواحي الحياة، فيما فرضت الزي والمظهر الواحد على الناس وفرضت الجزية والإتاوات على غير المسلمين ممن بقوا تحت قبضتها وأجبرت الكثيرين من المعتقلين كرهاً على الاسلام، وظهر العشرات من الناس ممن يعانون أمراضاً نفسية وتوتراً عصبياً وغيرها من الأمراض التي نتجت عن مناظر الرعب والخوف في المجتمعات التي تحررت من داعش، فيما أغلقت المدارس والمعاهد والجامعات، وافتتحت دورات دينية “الحسبة” كانت تدرس فيها تعاليم وفتاوى متطرفة لا تمت للإسلام وأخلاقه بصلة، ومنعت الهواتف الجوالة والتلفزيونات بحجة أنها بدع وابتعاد عن الدين، وفرضت الجباية وما أسمته بـ “الزكاة لبيت المال” لتسلب أموال الناس وتدعم خزينتها، وأغلقت المئات من المحلات التجارية والمعامل والمصانع، لينتشر الفقر بين الناس، ونشرت ثقافة الانتقام والقتل وشجعت عمليات ثقافة القتل عبر الدعاية للعمليات الانتحارية والإغراءات المادية والمعنوية للانتحاريين، فتفكك المجتمع وبات كل في واد، وعزلت المجتمعات الخاضعة لها عن العالم الخارجي وعن التواصل بين أبناء المجتمع الواحد للقيود المفروضة والشعارات والقوانين الظلامية التي وضعتها، وتفشت الأمية والجهل بين الناس لإغلاق المدارس والمعاهد، وانتشرت الأمراض وبخاصة بين النساء لأن المرأة لا يجوز أن ترى طبيباً وأن تخضع لمعاينة في شريعتهم السوداء. إضافة إلى عشرات المخيمات التي ضمت الفارين من ظلم وبطش داعش والتي ضمت مئات الآلاف والظروف المعيشية والاجتماعية القاسية التي كانوا وما زالوا يعيشونها رغم كل الجهود التي تبذل لهم، والتفكك الأسري والتشرد الذي طال المجتمعات جراء فقدان المعيل بسبب القتل أو الاعتقال أو العجز، مما ساهم في زيادة العبء على الحكومات والمحلية والمنظمات الدولية والإنسانية.

 

المعول الهدام لكل الثقافات ونفي الآخر:

 

كما هدم أسلاف داعش تماثيل بوذا في بنغلادش عام 2001م. قائلين إنها من قبيل الشرك بالله، كان الأحفاد أشد عداءً لكل ما خالف معتقداتهم الضلالية، ولم تتقبل ثقافتهم السوداء ومنهجهم الأعمى كل ما يمت للثقافة الإنسانية بصلة، وهدمت وأزالت وحطمت مدناً أثرية بأكملها كانت مثار فخر للموروث الإنساني وللبشرية جمعاء. وكان تجريف مدينة “نمرود” في نينوى بالعراق في منتصف حزيران 2014م. ويعود تاريخها للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكانت تعرف باسم “كلحو”، تعرضت المدينة لـ”تجريف” ممنهج واعتبرته اليونيسكو “جريمة حرب”. وكذلك تدمير “متحف الموصل” ومكتبتها وقلعة تلعفر، وكنيسة “آحو داما ” الكنيسة الخضراء”، والتي كانت مسرحاً لمجزرة تعرض لها المسيحيون على يد المغول خلال العام 1258م، كما دمر المرتزقة ثلاثة من الأبراج الجنائزية التي كانت تعتبر أبرز الآثار التدمرية وفي تموز 2015 دمروا تمثال “أسد أثينا” الذي يبلغ طوله ثلاثة أمتار أمام متحف تدمر، كما دمروا “معبدي بل وبلعشمين” القديمين اللذين يعودان إلى ألفي عام.

في الوقت الذي كانت فيه المرتزقة تُظهر أنها تهدم تلك الأوابد فإنها كانت تلجأ لأساليب قذرة لا تخطر ببال، فقد كانت داعش تصنع تماثيل ومجسمات للعديد من تلك الآثار والقطع  الأثرية النفيسة ومن ثم تقوم بتحطيمها وتظهر ذلك على الإعلام وهي تحطم في الحقيقة النماذج التقليدية وتبيع النسخ الأصلية منها لتجار الآثار ولصوص الحروب، وانتبه العديد من خبراء وعلماء الآثار لتلك الخدعة عندما لاحظوا عمليات التحطيم وطريقة ونتائج حطام تلك الآثار. بينما ظهرت عشرات الأدلة والوثائق التي دلت على سرقة ونهب المتاحف والمواقع الأثرية. زد على ذلك أن دمار داعش طال حتى القبور والمزارات والأضرحة وغيرها من الأمكنة المقدسة التي وقعت تحت سيطرتها.

داعش… شماعة الأنظمة

ما من شك أن داعش لم تُخلق من فراغ، وأن الكثير من الحكومات والأنظمة التي تدّعي محاربتها هي التي ابتدعتها وساهمت في تقويتها وسعة نفوذها، وسلطتها على شعوبها كسيف بتار، بل وإن تلك الأنظمة استفادت من خدمات داعش كما حدث في تدمر، وتدمير السجن المركزي ذائع الصيت الذي كان يرعب كل الشعب السوري، ومورست فيه أبشع الجرائم وأطلقت داعش سراح معتقليه ثم دمرته لتغطي جرائم النظام، وتعاونت مع آخرين في بيع وتسويق الآثار والبترول والسلاح كما كان حالها مع تركيا، والأهم ما كان من نتائج وخيمة على المجتمعات من قمع وذبح وسبي ونحر، وجهل وعزلة عن العالم لتتمكن من إمعان سيطرتها على كل الشرائح، وللأسف تحت مسمى الدين ولم تراعِ لا ديناً ولا مبادئ ولا أية قيم إنسانية، بل إنها أدخلت مبادئ وأخلاقيات غريبة عن المجتمعات كنكاح الجهاد والانتحار وإقامة الحد والرجم والسبي وغيرها، وكان شعارها الأسود سواداً وظلاماً وقهراً على كل منطقة تطالهاً، وكان ذلك اللباس الأسود سرعان ما يُخلع ويحرق في أول لحظة كانت تدحر فيها تلك الغيوم السوداء وكانت داعش “جمرة سوداء” وشر وباء، وكان كل من يساهم في الشفاء من جمرتها وإزاحة غيمتها جديراً بأن يوصف بالمخلص والمنقذ الجدير بالاحترام والتقدير.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى