قضايا راهنة

كيف عززت الأزمة السورية والتخبط الأمريكي النفوذ الروسي ومكاسبه

تقتضي الضرورة لأية قوة فاعلة عند تعاملها مع الواقع في مناطق تشهد اضطرابات أن يتم تدخلها بناءً على ما هو عليه؛ وليس كما تتمنى، كون العديد من الكوارث تأتي نتيجة تراكمات سابقة من صانعي القرار سابقاً، لذا لا بد من صانعي القرار الجدد مواجهة المشاكل التي ورثوها سواء كانت عسكرية أو جيوسياسية، كالتدخلات العسكرية السابقة، التي ورثها أوباما من جورج بوش، ومعركة “تنظيم الدولة” التي ورثها ترامب جزئياً من أوباما، فعندما يتم اتخاذ أي قرار بشكل صحيح، ربما يؤدي إلى نتائج عظيمة حتى في الظروف القاسية، لكن القرار  الخاطئ، يترتب عليه دفع التكاليف ومواجهة العديد من التساؤلات والتحديات، مما يضر بمصداقية صاحبه، وهو ما تجلى في سلوك الولايات المتحدة الأخير وسياستها في المنطقة ولا سيما في سوريا، والتي تجدها روسيا هبة من السماء، حيث سارعت بتعزيز دورها في المناطق التي كانت تنشط فيها الولايات المتحدة.

لذا يمكن اعتبار هذه الفترة بالكارثية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، ففي الوقت الذي يعاني فيه الشرق الأوسط من السياسة الغير متوازنة للرئيس الأمريكي، تستمتع روسيا بتأسيس مكانتها كقوة عالمية بديلة عن الولايات المتحدة، فانسحاب الولايات المتحدة الأخير أعطى لروسيا فرصة أخرى للعب دور صانع السلام، وتقديم نفسها كقيادة مستقرة أكثر من واشنطن؛ المنافس الرئيسي والقوي لها في الشرق الأوسط خلال حقبة التسعينات، إلا أنها استطاعت إعادة دورها بتعاونها مع دول ذات تأثير قوي كمصر والسعودية وإسرائيل وإيران وتركيا، واظهار دورها كوسيط مهم وقوي نظراً لتقاطع المصالح المتعددة بينها وبين هذه الدول لا سيما فيما يتعلق بالأزمة القائمة في سوريا التي جعلت من روسيا عنصراً هاماً وفعّالاً للتحالف معها في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة، وإبراز نفسها كطرف مهم وضروري لا غنى عنه لتقديم الحلول لبعض المشاكل. وشكّل هذا الأمر نقطة تحول كبيرة لروسيا في تثبيت دورها في الشرق الأوسط من خلال سورية التي أصبحت البوابة الرئيسية لإعادة بناء نفوذها ومقارعة الولايات المتحدة في المنطقة.

منذ بداية الأزمة السورية تحولت روسيا إلى وسيط صاعد لحل الأزمة، فدائماً ترى إنّ البديل عن الدبلوماسية أو المحادثات التي قد تؤذي حليفها (النظام السوري) يكمن في اللجوء إلى مفاوضات منفردة بعيدة عن مسارات الأمم المتحدة، لتحول بذلك مواقف القوى الأخرى في سورية، مثل (تركيا، وايران، واسرائيل، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية والعربية. إلخ)  إلى تواجدٍ بدون تأثير، وتصبح هي صاحبة النفوذ المؤثر، فلا يمكن لنا إنكار أنّ روسيا هي القوة الوحيدة التي خرجت بمكاسب حقيقية لها ولحليفها (النظام السوري)،  وبرز تأثير تلك القوة في الآونة الاخيرة من خلال:

1- مكاسب التقارب الروسي التركي

استطاعت روسيا  بانخراطها في سوريا من تثبيت هدف جيوسياسي أوسع: فالعطايا التركية لروسيا من خلال ما يسمى (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام)، قوضت نفوذ المعارضة السورية لصالح النظام السوري في مناطق الغوطة وحلب، وتقاربهما كان وسيلة لإبعاد تركيا عن الناتو، وتشكيل شرخ كبير بينها وبين والولايات المتحدة وباقي أعضاء الحلف، فكان التقارب التركي الروسي، مكسباً كبيراً لروسيا مقارنة بالآخرين، تحول لعقد صفقات أسلحة، واتفاقات وعمليات أحادية لا ترضي الحلف، لدرجة فرض عقوبات على تركيا نتيجة تصرفاتها؛ كان آخرها تعليق توريد الأسلحة لها أو ايقافها، بسبب عمليتها الأحادية الأخيرة (نبع السلام)، حيث بلغ عدد الدول الموقعة نحو 28 دولة، وهي المرة الأولى التي يصل فيها هذا العدد من الدول إلى اتخاذ قرار ضد حليف قوي ومهم للناتو. جميع هذه الخطوات وما سبقها انعكست نتائجها ايجابياً على روسيا التي وجدت نفسها كبديل لتصدير أسلحتها لتركيا. كصفقة الصواريخ الروسية S-400، وصفقات تجارية أخرى كمشروع السيل التركي، والذي ستنفذه شركة ” غازبروم ” الروسية من أنبوب السيل التركي حيث أبرم في عام 2016 ونفذ في 2017 على أن يتم الضخ عبره بنهاية 2019 والذي يعتبر الشريان الرئيسي لربط الاقتصاد الروسي والتركي عبر البحر الأسود لتوفيره للأتراك، وتوزيعه على بلدان جنوب وجنوب شرق أوروبا، بالإضافة إلى  حجم التجارة السنوية بينهما والتي ارتفعت من أقل من ملياري دولار عام 1992 إلى أكثر من 25 مليار دولار عام 2018، وإعلان الرئيسين التركي والروسي عن طموحهما لرفع الرقم إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2023، كما أنّ الرئيسان يحملان أجندات مماثلة في شؤون السياسة الداخلية المنغلقة والاستبدادية، وخاصة فيما يتعلق برفضهم انتقادات قادة المعارضة الداخلية، والتدخل الخارجي في شؤونهم الداخلية على كافة الصعد.

لكن ما يمكننا قوله أو تحليله هنا حول التقارب القوي والعميق بين تركيا وروسيا، وأهمية العلاقات الاقتصادية بينهما، والتي تحاول تركيا تجاهلها، هو أنّ روسيا ليست في مقدمة الدول التي تشكل أسواقاً لصادرات تركيا، حيث تسبقها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الأوروبية الأخرى، بالإضافة للهند والصين، حتى إسرائيل من الدول التي تستورد من تركيا أكثر بكثير من روسيا، مما يضع علاقات تركيا مع روسيا في مأزق، كونها لا تستطيع أن تنافس وتسد الفراغ الناجم عن إيقاف المعاملات التجارية مع باقي الدول. لذا فالعلاقة بين الطرفين لا ترتقي لمستوى التحالف القوي والاستراتيجي، وهي أشبه بعلاقة معاملات اقتصادية، تفتقر إلى القوة والثبات، التي تخولها لتصبح عامل استقرار.

2- استغلال الورقة الكردية

تستغل روسيا الفوبيا الكردية لدفع تركيا إلى العودة لاتفاقية أضنة 1998، بهدف إعادة  العلاقات بشكل رسمي مع الحكومة السورية. وهذا ما حققته جزئياً عملية “نبع السلام”  لروسيا والنظام السوري، فالاتفاق الأخير حول إعادة انتشار القوات الحكومية السورية على الحدود السورية التركية، هو بمثابة اعتراف علني من أنقرة بالحدود القائمة بين البلدين وسيادة الحكومة السورية على أراضيها، فمن ناحية أعادت الحكومة السورية سلطتها على الحدود الشمالية الشرقية للبلاد، ومن ناحية أخرى شكلت فرصة لمراقبة التحركات التركية بشكل أدق وأكثر بهدف الضغط عليها لمنع امدادها المسلحين المعارضين من الذخيرة. كما أنه بتسيير الدوريات المشتركة بين الجانبين التركي والروسي، تكون الأخيرة قد نفّذت مطالب تركيا بإبعاد الكرد عن الحدود، دون أي تكلفة من الجانب الروسي، وبالمقابل كسبت روسيا فرصة لتقدم حليفها، وتوقيت مناسب لها كي تطلب من تركيا التنازل عن ادلب مقابل ما ذُكر سابقاً. مما يمهد الأرضية لإعادة الشمال السوري كله أيضاً إلى السلطة السورية في الاتفاقيات اللاحقة.

كما سهّلت العملية الأخيرة لتركيا تفعيل المحادثات بين الكرد والحكومة السورية، فالخطوة الروسية في شرق الفرات بعد انسحاب الولايات المتحدة، هو التقارب تجاه الكرد بهدف إبعاده عن الولايات المتحدة، وميلهم نحوهم للاستفادة من قدراتهم العسكرية كقوات رديفة للنظام السوري. تعمل معه على ضبط الأمن ومواجهة الفصائل الموالية لتركيا، لذا فالتحالف مع الكرد والتفاهم معهم سيساهم في دعم القوات الحكومية السورية في صد الهجمات واستعادة المزيد من الأراضي كما فعلت من قبل مع تنظيم الدولة الاسلامية.

3- استغلال التدخل الأمريكي 

صحيح أن روسيا تدعو دائماً إلى خروج الولايات المتحدة والدول الغربية من سوريا، لكنها في واقع الأمر، كانت راضية ضمنياً عن وجود التحالف الدولي في سوريا، فمن المعروف أنّ لروسيا استثمارات استراتيجية طويلة الأمد في سوريا كونها شريك استراتيجي لموسكو منذ عام 1956، كمبيعات الاسلحة السوفيتية، وتدريب الجنود السوريين، والمعاهدات التي تمت بينهما مثل اتفاقية عام 1971 لاستخدام ميناء طرطوس للسفن الحربية والغواصات السوفيتية، ومعاهدة التعاون الاستراتيجي عام 1980، مما يعني أن سقوط النظام السوري سيهدد هذه الاستثمارات وأهدافها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، فبالرغم من تدخلها إلى جانب النظام السوري، باستخدام القوة الجوية، إلا أنها لم تستطع استعادة الأراضي التي خسرتها من المعارضة المسلحة، لذلك وجدت روسيا في تدخل الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية على الأرض فرصة للتخلص من الجماعات الإرهابية، وتوفير عناء محاربتها من قبل النظام السوري.

المكسب الآخر لروسيا من التدخل هو ما قامت به الولايات المتحدة من إعادة تموضع لقواتها في شمال شرق سورية، والذي نتج عنه تعديل على القوات الموجودة فيها وخاصة إبان التوغل التركي، حيث انعكست نتائجها لصالح روسيا، و تحولت المنطقة من محمية أمريكية إلى محمية روسية، وصبت هذه النتائج في نهاية الأمر في مصلحة النظام السوري الحليف لروسيا، والذي دخل إلى مناطق واسعة في شمال وشرق البلاد كانت خارجة عن سيطرته منذ بدايات الأزمة السورية، وهذا بدوره يمنح روسيا دور آخر كصديق أو وسيط في الشرق الأوسط، كون الولايات المتحدة وسعيها في خفض التزاماتها تجاه المنطقة، سهلت المهمة لروسيا لتكون بديلاً عنها، وهو ما سعى اليه الرئيس الروسي عند توجهه للإمارات العربية، في الوقت الذي كانت فيه القوات الأمريكية تنسحب من قواعدها بالقرب من منبج السورية، فأراد الرئيس الروسي بهذه الزيارة المتزامنة إيصال رسالة إلى حلفاء أمريكا كالإمارات والسعودية، للتشكيك بالتزام الولايات المتحدة في حمايتهم وأمنهم، وترى روسيا أن هذه الدول إذا لم تترك تحالفها مع الولايات المتحدة، فعلى أقل تقدير ربما ينوّعون شراكتهم أو تحالفهم مع قوة أخرى.

وبخصوص إفريقيا أيضاً توجهت روسيا لاستضافة قمة ضمت 43 دولة في سوتشي أواخر اكتوبر 2019، وعلى الرغم من الدعوة الرمزية لروسيا لهذه القمة إلا أنها تحاول جاهدة التسلق لتصبح لاعباً رئيسياً في إفريقيا بهدف زيادة الدعم العسكري لها، وعقد اتفاقات وعلاقات أمنية في ظل التراجع المستمر للنفوذ الأمريكي في المنطقة. وهذا ما يدل على لعب روسيا بالأوراق بشكل جيد، فبتدخلها في سوريا  سياسياً وعسكرياً، تحاول روسيا إرسال رسالة إلى الجميع، بأنها شريكٌ يمكن لحلفائها الوثوق به، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة وإفراغ قواعدها في شمال شرق سوريا والسماح بالتوغل التركي في تلك المناطق، اعتبرت روسيا تلك الخطوة فرصة للتدّخل، وإظهار الولايات المتحدة بدور الخائن والبديل المحبّ هو الروسي. مما يشكل علامة فارقة لانتشار عسكري رفيع في منطقة تحتكرها الولايات المتحدة، ومنعطفاً للسياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا على حساب الدور الأمريكي. ومُحاور وضامن لجميع أطراف النزاع في الشرق الأوسط وإفريقيا سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي.

الرؤية الأمريكية للانتشار الروسي

إن قدوم روسيا وتموضعها السريع في أماكن التواجد الأمريكي سابقاً في سوري أثار مخاوف الولايات المتحدة، خاصة بعد قرار ترامب عام 2019 بسحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا أمام التوغل التركي؛ الأمر الذي تسبب في تعالي العديد من الأصوات في الولايات المتحدة منددةً بالمكاسب التي ستكسبها روسيا في سوريا والشرق الأوسط نتيجة هذا القرار، مما يضع الموقف الأمريكي على المحك.

لكن على الرغم من اعتياد الولايات المتحدة على غياب الدور الروسي في هذه المناطق، فإن ما يجري على الأرض يشير إلى توافق ولو نسبي بين الطرفين على دخول روسيا إلى هذه المناطق؛ في خطوة تراها الولايات المتحدة أنها لا تتعارض مع مصالحها كما تدعي في:

– صد ومنع الإرهاب بما فيه تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، فكلاهما لديهما مصالح مشتركة في التصدي لهما وإنهائهما.

– ضمان أمن إسرائيل وهو ما تفعله روسيا بتجاهلها للضربات الإسرائيلية على سوريا أو الجماعات الإيرانية والموالية لها.

– حماية النفط وضمان تدفقه من تلك المناطق، والتي وضعت الولايات المتحدة يدها عليه لضمان عدم وصوله إلى النظام السوري أو إيران، وهو موقف لا يتعارض مع الانتشار الروسي في المنطقة.

– تقليص نفوذ إيران في سورية، بالإضافة إلى منعها من امتلاك الأسلحة النووية، وهي خطوة تجاوبت معها روسيا.

– وأخيراً ربما يكون أحد الأسباب هو ضمان أمن حلفائها من الكرد، من خلال مساعي روسيا لتمهيد الأرضية المناسبة للتفاوض بينهم والحكومة السورية، على أساس إيجاد حلول ترضي الطرفين.

لذا يبدو أن هذه الأسباب كفيلة ألا ترى الولايات المتحدة من الانتشار الروسي أي خطر عليها، وما يهمها هي المصالح فقط، أو ترى في الوجود الروسي تسخيراً لملئ مكانها في المنطقة تمهيداً لحماية مصالحها.

4- ازدواجية التوافق الروسي مع الجانبين الإيراني والإسرائيلي على أساس المصالح

بالنسبة للمثلث الروسي الإيراني الإسرائيلي، والذي تجلى بشكل أكبر في اجتماعي بوتين مع نتنياهو ومن ناحية أخرى مع حسن روحاني في سبتمبر 2019، أكد فيهما بوتين التزامه بالعلاقات الجيدة مع اسرائيل، والإشادة بالعلاقات الروسية الايرانية.

إلا أنّ علاقة موسكو مع إسرائيل أعمق علاقتها مع إيران، وهو ما كشفه رد فعل موسكو لكافة الضربات الإسرائيلية في سورية سواء لأهداف سورية أو إيرانية وتجاهلها لهذه الضربات، وما يؤكد ذلك رفض موسكو طلب ايران لبيعها منظومة S-400 عام 2016، كي لا تشكل تهديداً للطائرات الاسرائيلية، بيد أنها تتقاسم مع إسرائيل معلوماتٍ فنية حول نظام المنظومة.

إذاً على الرغم من العلاقة التي تربط روسيا بإيران وشراكتهما في الشرق الأوسط في العقود الثلاثة الماضية، وصمودها في وجه جميع العوائق وخاصة تهديدات الولايات المتحدة بفرض عقوبات على روسيا لردعها عن التعاون مع إيران وخاصة في المجال النووي، بالإضافة إلى المصالح المشتركة لكلا الطرفين في سوريا، تبقى لإسرائيل مكانة أكبر من إيران لدى روسيا، وهو مما يحفز روسيا للحد من النفوذ الإيراني في سوريا، لحماية علاقتها الخاصة مع إسرائيل، فمصالحها في سوريا متوافقة مع مصالحها في إسرائيل، كما أنّ روسيا ترى في إعادة الإعمار في سوريا فرصة تجارية، قد تنافسها المصالح الإيرانية التي تسعى للحصول على هدية مقابل تدخلها، فمصلحة موسكو هنا تقتضي بتقليص النفوذ الايراني في سوريا. لذا فالوجود الإيراني في سوريا تراه موسكو فرصة لدعم النظام السوري على حساب المعارضة، ولكن بالمقابل عقبة أمامها لترسيخ نفسها كطرف فعّال ورئيسي في سوريا.

5- استغلال الساحة السورية لاستعراض القوة الروسية

منذ تدخل روسيا في الأزمة السورية وهي تحاول جاهدة عرض قوتها العسكرية، والأسلحة المصنعة روسياً، سواءً باستخدام سلاح الطيران الجوي، أو وضع نفسها كالضامن الرئيسي بين أطراف الصراع في سورية.

وفي شرق الفرات سرعان ما تدخلت روسيا لتلعب دور الوسيط بين الكرد وتركيا، والتي نتج عنه تسيير دوريات مشتركة بين الطرفين، الهدف من ذلك استعراض قوة روسيا، وإبراز مظهرها كضامن قوي لتعزيز أي آلية أمنية بين أي قوتين مختلفتين، وبشكل خاص لإظهار مدى التفاهم بين شركاء آستانا في حل الأزمة في سورية.

كما أنّ ملء الروس للقواعد الأمريكية المنسحبة، تراها روسيا انتصاراً وفرصة للحصول على بعض المعلومات حول إنشاء هذه القواعد، فدخولها إلى هذه القواعد بدا كدخول المنتصر في الحرب، وخاصة عند اقتحامها قاعدة جوية أمريكية في منطقة متراس بريف مدينة كوباني، حيث نفذت روسيا عملية انزال جوي بمروحيات هجومية عند دخولها لهذه القاعدة تمهيداً للسيطرة عليها.

أخيراً لا بد من التنويه بأهمية روسيا، فبامتلاكها الرؤوس النووية، وكم هائل من الجنود، واحتياطي كبير من النفط والغاز ومقعد في مجلس الأمن، كل ذلك يعطيها أهمية تسمح لها بممارسة نشاطها الخارجي بما ينافس الولايات المتحدة والدول الغربية.

إلا أن النجاحات التي حققتها روسيا في سوريا، أو المفاوضات التي كانت تنطوي على مصالحها، لم تأتِ نتيجةً لجهودها، أي لم تكن وليدة مخطط روسي، بل كانت نتيجة سلوك خاطئ من الولايات المتحدة أو الدول الاوروبية أو تركيا، فيمكن اعتبار كل ما كان ينتج من انسحابات أو تجاوزات أو صراعات بين القوى المختلفة في سوريا بمثابة هبة لروسيا، والتي كانت تستغلها وتظهرها كمخطط روسي، أو كمجهود شخصي. لكن مع ذلك يبدو أنّ  روسيا هي القوة الوحيدة التي ستحدد مستقبل سوريا، مستفيدة من انسحاب الولايات المتحدة، وقرارات ترامب وسياسته الانعزالية، مما يمكنها من لعب أوراقها بشكل جيد.

لكن بالمقابل فإن استعادة روسيا كافة الأمور لصالح النظام السوري، لا يمكن اعتبارها جائزة أو فوز لروسيا، فكما ذُكر سابقاً إن تكلفة إعادة الإعمار للبلاد والتي تقدر بما يزيد عن 200 مليار دولار يفوق الناتج الإجمالي لسوريا بأضعاف ما كانت عليه قبل 2010، فتبقى هنا مسألة كيفية دفع المبالغ المترتبة على سورية تجاه روسيا، في ظل عدم استجابة أي طرف لتحمل مسؤولية المساهمة في إعادة الاعمار، كون روسيا تفتقر إلى القدرة الاقتصادية في العمق، وكما هو معلوم فإنّ موقع روسيا منذ بداية الربيع العربي لم يزدد إلا سوءاً، مما يصعب عليها تحقيق استراتيجية طويلة الأمد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى