ترجمات

لماذا مصير أكراد سورية مهمٌّ لإيران؟

بدأ الخريف هذا العام بالجولة الثالثة من الهجمات الكبيرة للجيش التركي على شمال سورية. “شبح العنف” يحوم فوق الشرق الأوسط، وهذه المرّة حتى الجبال ليسوا أصدقاء للأكراد؛ الأرض المستوية في مناطق شمال سورية – مثل خيانة أمريكا والقوة العسكرية التركية- وضعت حلم نظامٍ متعدد الثقافات، تحت مظلة الوحدة الديمقراطية للشمال، أمام خطرٍ كبير.
هذا الهجوم هو مقدمة مفعمة بأزمة إنسانية جديدة في “جنوب غرب آسيا” الذي يشبه الغابة على الدوام، والذي سيحرق كل المنطقة بنيران الحرب والعنف. ما الذي يجعلنا نثور في هذه المنطقة؟ لدينا إجابتان عن هذا السؤال وهما؛ إما رغبتنا في شيءٍ ما، أو حرصنا على عدم امتلاك الآخر للرغبة والقدرة.
إنّ هذه الازدواجية وهذا الحرص على إيجاد هويتنا على حساب تجاهل الآخر، هي مسألةٌ يكررها تاريخُ هذه المنطقة على الدوام، وهي تمثّل كل القيم التي نحارب لأجلها ونبذل الدماء في سبيلها.
في الشرق الأوسط الذي نعرفه، تكونُ الدولُ القومية هي اللاعب الرئيسي في المشهد، وهي تعتمد – على الأرض – إلى حدٍّ كبير على المجموعات شبه الحکومیة أو الفعاليات المدنية- الاجتماعية، أو أنها تقضي عليهم أحياناً. ولهذا فإنّه لأجل “الاستقلال” يتحتّم الحصول على موافقة القوى الإقليمية ودعم من القوى الدولية. الدول القومية تتخلّى بسهولةٍ عن دماء شعبها لكنها لا تتخلّى عن شبرٍ من الأرض. وفي ظروفٍ كهذه؛ “القوة” وحدها تتكلّم؛ القوة والعنف الصريحان والعاريان، وشبكات التواصل الاجتماعي تظهر الوجه الصافي والعنيف لهذا الاستعراض للقوة، لكنه وجهٌ مكررٌ وجامدٌ في الوقت ذاته.
إنّ أحد مقاطع الفيديو المصورة لإطلاق الرصاص على رأس مقاتلتين كرديتين في شمال سورية، يثيرُ الغضب من جانب، والشعور بالقوة والذكورية من جانبٍ آخر.
إنّ كلّ المخاوف والآمال بشأن منطقة الإدارة الذاتية في كردستان سوريا باتت تتجه نحو أسوأ وضع ممكن للأكراد.
في السنوات الأخيرة أظهر أردوغان أنّه كلّما حصل على امتيازاتٍ محددة طالب بالمزيد منها، ولا يتوقف عن تحصيل الامتيازات إلا عندما يتمّ الوقوف في وجهه.
لقد هاجم أردوغان شمال سورية بسبب هوسه باستعادة الأمجاد العثمانية في القرن الواحد والعشرين، أو لترميم انكساراته الحزبية والشخصية الداخلية، ولا شيء آخر، حيث قال “مايكل روبين” في جامعة (American enterpriser) “إنّ عداء تركيا للأكراد في السنوات الأخيرة كان في غالبه عداءً من طرفٍ واحد، وما يثير السخط هو أنّ الأكراد، أثناء فترة إدارتهم لشمال سورية، حموا الحدود التركية أكثر من الحكومة السورية أو من الجماعات الموالية لأنقرة”.
خلافاٌ لهذا الاتجاه المتزايد الذي يسعى للتركيز على النتائج الزمانية والمكانية المحدودة للأزمات، سيكون لعملية “نبع السلام” تأثيراتٍ خارج تركيا وسوريا، وهي ستشمل المنطقة بأكملها، وستحطّم هذه الحرب توازن المنطقة مرّة أخرى. كما أنّ تغيير الحدود الأيديولوجية والجغرافية يزيد من احتمال بروز تحديات جديدة في منطقة ما زالت مليئة بتحدياتٍ قبلية.
قد لا تصحّ المقارنة المباشرة بين أطماع أردوغان التوسعية وبين أطماع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، لكن بدون أدنى شك من الممكن المقارنة بينهما من حيث التحديات التي تصنعها للدول والفئات الاجتماعية الأخرى.
ليس بالضرورة أن يكون ترامب رجُل سلام، لكن بإمكاننا تخيّل مقارنة جيدة بينه وبين (تشامبرلين) من وجهة نظر الأكراد، إذ قال تشامبرلين ذات مرّة بخصوص تشيكوسلوفاكيا: ” إنها بلاد بعيدة جداً ولا نعرف عنها سوى القليل”، ثم قام بعد ذلك بتقديمها للألمان في اتفاقية ميونيخ. الأكراد أيضاً هم أناسٌ في مناطق بعيدة بالنسبة لترامب، وليس لديه سبب لأن يدفع تكلفة الدفاع عنهم من أرواح وأموال الشعب الأمريكي.
ربما بالإمكان أن نكون مثل بريطانيا ونغضّ النظر بشكلٍ مؤقت عن تحركات الألمان في البلاد البعيدة، لكن لا يمكننا أن نكون مثل فرنسا ونرى هجوم الألمان على جيراننا ولا نحرّك ساكناً، لأنّه من غير الواضح أين سيوقف الألمان آلتهم الهجومية، وأين ستكفّ عن إخماد “النيران الكردية” في “الدول المجاورة لها”. تركية ليست أول دولة تتخذ من دينٍ أو قومية ذريعةً لها للتدخل خارج حدودها، لكن بحكم أنّ لدينا عدداً كبيراً من السكان الكرد، ألن يدفعنا ذلك إلى التفكير في حدود هذا التدخّل؟
إنّ تركيا، مثل أيّ بلد آخر بطبيعة الحال، لديها الحق في أن يساورها القلق بشأن عمقها الاستراتيجي، ولعلّ ما جعل المجتمع الدولي اليوم يقف ضد تركيا هو شكل المساعي التركية، وتاريخ سلوك حزب العدالة والتنمية في الهيمنة الإقليمية، وتدخلاتها غير المبرّرة وسعيها لاستخدام الخيار الأخير عوضاً عن استخدام الخيار الأول.
كان بإمكان تركيا أن تتبنّى حلولاً أخرى، حلولاً أقلّ تكلفة وأقلّ صخباً من هجومٍ عسكريٍّ شامل، فالاتفاق الشامل مع حزب الاتحاد الديمقراطي استناداً إلى الحياد التام وفكّ الارتباط التنظيمي مع حزب العمال الكردستاني، كان أمراً مقبولاً أكثر بكلّ تأكيد في ظرفٍ كهذا، وفي حال لم تلتزم المجموعات الكردية بهذا الاتفاق، حينها كان بإمكان تركيا أن تمنح نفسها هذا الحقّ بالتدخل. الحلّ الآخر، كان يكمن في إنشاء تحصينات بين المناطق الكردية في تركيا وسورية، وقد رأينا إجراءاتٍ مماثلة من قِبل الدولة التركية في المناطق الحدودية مع إيران أيضاً، تحت ذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني.
لكنّ تركيا اتجهت على الفور نحو الخيار الأخير، ليس لأنّ التدخل خارج حدودها سيخفف من وطأة المشاكل الداخلية لحزب العدالة والتنمية والأصوات القليلة التي حصل عليها أردوغان مؤخراً، وإنّما لإخفاء فشل تركية في معالجة القضية الكردية داخل حدودها أيضاً.
لو كانت تركيا قادرة على حلّ المشكلة الكردية خلال ما يقارب قرنٍ من الزمن، لما كان ثمة اليوم داعٍ لأن تكون قلقة لظهور “أشواك عين” أردوغان أو أي قوّة كردية أخرى خارج حدودها.
وبسبب هذه الاعتبارات أصبحت تركية في الوقت الحالي، بسبب هجومها العسكري، عُرضةً لإحدى أشدّ هجمات المجتمع المدني العالمي، والظاهر أنها تجاوزت في هذا المجال، السعوديين الذي شنّوا الهجوم على اليمن. وربما خلق ذلك راحةً للسعودية التي خرجت من عناوين الأخبار في هذه الفترة. لقد دفعت تركيا تكلفة مكاسبها العسكرية من مكانتها الدولية. الفائز الكبير في هذه اللعبة المُريعة، أي روسيا، تصنع لها أيضاً موطئ قدمٍ راسخٍ في شمال سورية، فمن المؤكد أنّ روسيا تلعب دوراً رئيسياً في صياغة الدستور المستقبلي لسورية والذي سيتمّ بموجبه تحديد رئيس سوريا المستقبلي، ولا يوجد سيناريو أفضل من هذا بالنسبة لموسكو؛ أمريكا أصبحت سيئة السمعة، وتركيا أيديها ملطخة بالدماء، سوريّة موحّدة وخاضعة، ميناء طرطوس جاهزٌ للخدمة، ولكن ماذا عن إيران…؟ إنّ دور إيران في أزمة شمال سورية يشوبه الغموض أكثر من الآخرين.
إذا تجاوزنا الفرضية المألوفة والمبسّطة بعض الشيء، القائلة بأنّ “عودة كردستان إلى حضن سورية تصبّ في مصلحة إيران”، فإنّ إيران ستشهد عواقب وخيمة، ولكن غير مباشرة، لهذه الحرب، فتركيا، بوصفها منافساً إقليمياً، بدأت في توسيع طموحاتها في أراضي “امبراطوريتها السابقة” وتسعى إلى الهيمنة على “بوّابة الشام”. وكون تركيا سادس أكبر جيشٍ في العالم، فإنّه من الوارد عدم خروجها من مناطق شمال سورية، مثلما لم تخرج من قبرص منذ سنين.
إنّ تركيا تنحدر بسرعةٍ نحو الهيمنة الأيديولوجية، وإذا كانت تركيا قد سعت ذات يومٍ إلى فرض الهيمنة “التركياتية” على آسيا الوسطى بعد الحرب الباردة، فإنّها تتطلّع الآن إلى الهيمنة على مناطق ما يسمّى بالهلال الخصيب في الشرق الأوسط وبوّابتها، أي سوريا، لتقوم بتوطين تركيبةٍ جديدة من العثمانية الجديدة الطورانية والإخوانية الجديدة.
إنّ دعم وتسليح جماعات تركيا بالوكالة، بما فيهم الجيش الحرّ، واستعادة تنظيم داعش لقدراته القتالية في المنطقة بشكلٍ غير مباشر، وربما بدون الترتيب لذلك، كلّ ذلك يمهّد الطريق أمام التدخل السياسي والعسكري التركي في سوريا، وبالتالي يفتح المجال أمام هذا التدخّل الأيديولوجي طويل الأمد.
أمام كلّ ما يجري، قد ينتاب إيران شعورٌ بالراحة لوحدة الأراضي السورية، لكن سليحقها الضرر من التشدد التكفيري، وهذه المرّة من جماعات الإخوانيين الجدد، وكذلك من التصاعد المحتمل للتركياتية والكردايتية، ففي كلّ مرّة وبعد كلّ معركةٍ بين الجانبين، تعودُ إلى السطح موجاتٌ جديدة منها في عموم الشرق الأوسط.
إنّ القومية الكردية التي كانت تسعى، من خلال اتباع أيديولوجية الاشتراكية البيئية، إلى إضفاء حالة من التشاركية والتعددية الفكرية، على القضية الكردية، ستصبح الآن، دافعاً للعواطف القومية الكردية المُتعصبة في كلّ المنطقة، ويمكننا القول إنّ أهم نتائج عملية “نبع السلام”، على المدى الطويل، بالنسبة لإيران سيكون صعود الهويّاتية، وعودة هذه العبارة المُرّة إلى المنطقة: “الآن، كلّ ما يحدث هو بسبب القومية!”.

الكاتب: فائزة قاسمي – دكتوراه في العلاقات الدولية
ترجمة عن الفارسية: مركز الفرات للدراسات – قسم الترجمة.
رابط المقال الأصلي

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى