قضايا راهنة

رُغم خيبات الأمل لا يزال الكُرد ينقذون العالم

عادةً ما تظهر الطبيعة البراغماتية لأية قوة عظمى في تعاملها مع قوة أخرى، سواءً كانت حليفة أو صديقة عندما يتعلق الأمر بضرر ما قد يلحق بها فتنقلب عليها، وهذا ما ينطبق على الولايات المتحدة واستراتيجيتها الأخيرة تجاه قوات سورية الديمقراطية والتي يشكل الكرد عمودها الفقري. ولكن هنا دون أن يلحق أي ضرر بالولايات المتحدة، فقد اتجهت الولايات المتحدة صوب مصلحة فردية دون الأخذ بعين الاعتبار الضرر الذي سيلحق بالحليف. الأمر الذي أشعر حلفاء الولايات المتحدة، أينما كانوا ومن كانوا، بخيبة أمل نتيجة سياساتها المتقلبة. في إشارة الى تهربها من الالتزامات، فالتحالف هنا بنظر الولايات المتحدة يعني الالتزام، ونظراً لانتهاء مصالحها في مكان ما فهي تجد بأنه لا حاجة للحليف بعدها، مما يضر بالتزاماته تجاهه. لكن يبقى السؤال حول سلوكها الأخير تجاه قوات سوريا الديمقراطية، ما إذا كان استراتيجية جديدة في المنطقة..؟ هل يتطلب الأمر مرحلة جديدة في سوريا، أي توجه عام للولايات المتحدة، أم هي سياسة منفردة لرئيسها اتجهت لحرق باقي المراحل..؟ لكن مهما كان الأمر، فالواقع يشير إلى أنّ الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية والعربية بحاجة مستمرة لهذا الحليف، كونه التزم، وما يزال، بتعهده بسحق الإرهاب وحماية السكان، ولا بديل عنه كقوة متماسكة منذ بداية تشكله حتى أصبح يُعرف بقوات سورية الديمقراطية، وتاريخ هذه القوات منذ تأسيسها حتى الآن يبرهن على ذلك.

منذ أكثر من خمس سنوات، عندما كانت الولايات المتحدة تبحث عن مقاتلين على الأرض في سورية، لتشكيل قوة برية وفعالة مع غطاء جوي من طرفها، وجدت ضالتها في الكرد السوريين حيث بدأت بتسليحهم وتدريبهم، وتحويلهم إلى قوة لها من الأهمية والأولوية لصالح الولايات المتحدة والتحالف الدولي. فقبل تشكّل تنظيم الدولة الإسلامية، عند بداية الأزمة السورية عام 2011، حاولت الولايات المتحدة دعم مجموعة من المقاتلين ضمن صفوف المعارضة، ضد الحكومة السورية، ثم تنظيم الدولة الاسلامية لاحقاً، إلا أن فساد تلك المجموعات والاقتتال الداخلي فيما بينها والانشقاقات التي حصلت في صفوفها ودعمها للمجموعات المتطرفة، كلّ ذلك دفع الولايات المتحدة إلى إيقاف هذا الدعم والبحث عن بديل آخر.

فكانت البداية عند هجوم تنظيم الدولة الاسلامية على مدينة كوباني والسيطرة عليها مع باقي القرى المحيطة بها في اكتوبر 2014، عندها بدأت الولايات المتحدة بتقديم بعض الدعم للعناصر المحلية من القوات الكردية لمواجهة التنظيم. والتي استطاعت تحرير المدينة في يناير 2015. وكانت النقطة الفاصلة لإبراز دور الكرد، تحت مسمى ” وحدات حماية الشعب “، كقوة منضبطة ومتماسكة، بعيدة عن الإيديولوجية الإسلامية المتطرفة. فكانوا مصدر ثقة سواءً في الخطوط الخلفية أو الأمامية، بما يجعل الجنود الأمريكيين والغربيين في مأمن، ليتحول دورهم، لاحقاً، من قوة محلية صغيرة إلى حليف قوي ورئيسي للولايات المتحدة وشركائها في التحالف الدولي تحت مسمى قوات سوريا الديمقراطية التي تضم كافة المكونات في المنطقة وعمادها المكون الكردي.

وأصبحت الولايات المتحدة تعتمد عليهم بشكل رئيسي في مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) حتى خارج مكانهم التقليدي، وهو ما كلف هذه القوات، وخاصةً الكرد، الكثير من الأرواح. بعد انتصارات قوات سوريا الديمقراطية في مناطقها شمال شرقي البلاد، اتجهت صوب الجنوب، إلى مناطق ذات غالبية عربية، والتي كانت فيها المعارك على أشدّها، كونها كانت مركز هذا التنظيم. وهنا تعالت بعض الأصوات في المجتمع الكردي، عن سبب موت شبابهم في تلك المناطق وبدأ التشكيك بالتزام الولايات المتحدة ونواياها. ولكن كان الرد: إنّ تركهم للتنظيم في أي مكان من سوريا من شأنه أن يعرضّ مناطق الكرد لهذا الخطر بشكل دائم، فوجدوا في مشاركة التحالف الدولي فرصة للقضاء على هذا التنظيم نهائياً.

ولكن بالرغم من انهائهم لتنظيم الدولة الاسلامية على الأرض. إلا انهم تعرضوا لهجوم من تنظيم آخر مدعوم من تركيا وبضوءٍ أخضر من الولايات المتحدة، فظهرت بوادر لتعرض الكرد وباقي المكونات في قوات سورية الديمقراطية لخيانة من الحليف الرئيسي، ولو بشكل جزئي، كون بعض الدبلوماسيين الأمريكيين استمروا في تقديم مشورات للدعم، وهي علامات لا تدل على الانسحاب الدائم. وبالمقابل لم يمنع سلوك الولايات المتحدة تجاه قوات سورية الديمقراطية في حفاظ الأخيرة على روح التحالف مع الشركاء، وتحمّل مسؤولية سلامة المواطنين في سوريا والعالم، حيث استمروا في تعقب زعيم تنظيم الدولة الاسلامية (أبو بكر البغدادي) ومساعديه مع نظرائهم الأمريكيين، كما لم تمنع فوضى الغزو التركي، وحدة مكافحة الإرهاب ضمن قوات سوريا الديمقراطية من الاستمرار في جمع وتحليل المعلومات حول موقع البغدادي من خلال عناصر زرعتها في القرى التي يقيم فيها البغدادي منذ أشهر، ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، فإنّ المعلومات الأولية حول موقع البغدادي تمّ الوصول إليها في الصيف الماضي، عقب اعتقال إحدى زوجاته.

إذاً فالعملية الأخيرة لملاحقة زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (أبو بكر البغدادي)، تؤكد أنه لم يكن أمام الولايات المتحدة سوى اللجوء لحلفائها المحليين في سوريا لتعقب أهم المطلوبين في العالم، والذين أرسلوا قوات خاصة شاركت الولايات المتحدة في جمع معلومات عن البغدادي. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على إيمانهم وثقتهم بدور هذا الحليف وروح الأخلاق لديه بالرغم من تعرضه لخيبة أمل من قبلهم. لدرجة عدم التصريح علناً في البداية عن الدور الكبير والعميق لهم في هذه العملية، إلا أنّ التصريحات المتلاحقة أكدت أنّ دورهم في العثور على البغدادي كان الأقوى، أكثر من باقي الدول الأخرى، مما يناقض تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنّ المساعدة التي حصلوا عليها كانت محدودة.

ولم تقف العملية عند مقتل زعيم تنظيم الدولة بل نفذت قوات سوريا الديمقراطية بالتعاون مع الولايات المتحدة عملية هامّة أخرى، أسفرت عن مقتل أحد مساعديه وخلفائه وهو أبو حسن المهاجر، الذي كان متواجداً في قرية قرب جرابلس، وكان يسعى لتأمين الطريق لخروج البغدادي نحو تركيا، إلا أنه قتل هناك. وتمّ التخطيط لقتله بناءً على المعلومات الاستخباراتية من قبل قوات سوريا الديمقراطية. وكانت هذه العملية ضربة قوية أخرى لداعش على يد هذه القوات والحلفاء وإشارة على إصرارهم في القضاء عليه بشكل نهائي.

وهنا تظهر مسألة أخلاقية تمسّ قيم ومبادئ الولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمى في العالم، تجعلنا نتساءل هل يكون من الإنصاف أن يكون الكرد وشركاؤهم من المكونات الأخرى في قوات سوريا الديمقراطية يخاطرون بحياتهم في البحث وجمع المعلومات عن قائد أحد أخطر التنظيمات الإرهابية في العالم، ويأتي الرئيس ترامب ليتخذ قراراً غير مدروسٍ يشكّل قلقاً بالغاً ويتسبب بحدوث كارثة إنسانية كبرى بحقّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهو قرار الانسحاب المفاجئ من شرق الفرات؟.

يرى الكثيرون أنّ هذا القرار هو قرارٌ عشوائيٌ صادر عن رئيس غير متوازن في قراراته من شأنه إضعاف هذا التحالف الذي استمر أكثر من خمس سنوات، ويظهر للعالم انتهاء دور هذا الحليف بعد استعادة السيطرة على المواقع التي استولى عليها التنظيم، وتأمين باقي عناصره. لكن بعد مقتل البغدادي، بدا واضحاً للجميع أنّ الولايات المتحدة وجميع دول العالم لم تستطع الاستغناء عن شراكتها مع الكرد وشركائهم المحليين، فسعي الولايات المتحدة للحصول على الدعم من هؤلاء الحلفاء، في أكثر المهام خطورة وحساسية، والتي تتعلق بزعيم تنظيم الدولة، لدرجة إخفائها عن الدول الإقليمية، نابعة عن ثقة قوية، حيث اثبتت قوات سوريا الديمقراطية دورها كموضع ثقة، على الرغم من خطورة هذه الخطة، و استطاعوا جمع أدق المعلومات لدرجة تحديد الغرف التي كانت بالمنزل، والنفق الموجود تحته، وعدد الأشخاص الموجودين في الغرف، وتأكيدهم لفرار البغدادي وأطفاله ثم تفجير نفسه. هذه المعلومات تؤكد على أنّ قوات سوريا الديمقراطية لديها من القدرة والتنظيم ما يعادل القوات الخاصة لأي دولة عظمى. واستكمال مهامهم بإنهاء أخطر المطلوبين على وجه الأرض بسرية تامة وثقة موزونة هو دليلٌ على ذلك. وتأتي هذه المهمة كدلالة على استمرار تعاون هذه القوات مع الولايات المتحدة بالرغم من سلوك الأخيرة، والذي وصل إلى مستوى الخيانة. إلا إن هناك بعض الأصوات في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية والعربية ما تزال تثق بقوات سوريا الديمقراطية بمكوناتها المختلفة، ويؤمنون بدورها، في مرحلة ما بعد البغدادي. فالتخوف الرئيسي لدى الجميع سواءً من حكومات أو دول أو شعوب، كان بخصوص مرحلة ما بعد مقتل البغدادي ومعاونيه، مثل ردود الفعل التي قد تصدر عن مواليه كإحداث اضطرابات في المخيمات التي تضم عشرات الآلاف من مؤيدي التنظيم، أو المناطق التي كانت تضم خلاياه النائمة، بالإضافة الى السجون التي تضم عناصره من المقاتلين الذين تم أسرهم، لأنّ التنظيم لم ينتهِ بطبيعة الحال، فأيديولوجيته العنيفة، ما تزال مستمرة في إلهام العديد من الناس الموالين له لتنفيذ الهجمات في مختلف مناطق العالم. كل هذه الأمور جعلت القوات الكردية وغيرها من المجالس المنضوية تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية ترفع حالة التأهب إلى أقصى الدرجات خشية تصاعد الفوضى، وخاصة مع الغزو التركي وتحول خط الهجوم نحو مقاومته، إلا أنها تمكنت من تأمين الوضع، بما فيها السجون والمخيمات والمناطق.

لذا يمكن القول إنّ مقتل البغدادي شكّل علامة فارقة لدى الكرد وشركائهم، في كفاحهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي تسبب بمقتل الآلاف من الناس في سوريا والعراق، وسيطر على مناطق واسعة من أراضي الدولتين بإعلان خلافتها عليها، حيث استعادت قوات سوريا الديمقراطية بمشاركة التحالف كل تلك المناطق وساهمت في إنهائه و إزالة الخطر عن العالم بأسره.

واللافت في الأمر هو أنه حتى الحكومة المركزية في سورية وحليفتها الأساسية روسيا تنظران، ولو بشكل مُبطّن، إلى هذه القوات كقوة متماسكة ومنضبطة وموثوقة، لدرجة انخراط الجيش السوري مع قوات سوريا الديمقراطية على بعض خطوط التماس مع العدو التركي في الأراضي السورية. وحتى بعد انسحاب بعض عناصر من الجيش السوري من بعض القرى ومنها السريانية والآشورية في ريفي تل تمر ورأس العين نتيجة تعرضها لهجمات من ما يسمى بــ (الجيش الوطني السوري) بدعم من الجيش التركي، عادت قوات سوريا الديمقراطية الى المواجهة لإبعاد شبح الإبادة بحق سكان هذه القرى وتحريرها، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تحرير هذه المنطقة، حيث سبق أن تعرضت هذه القرى لحملة كبيرة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، استخدم فيها كافة أنواع الأسلحة الثقيلة في آذار/مارس 2015، إلى أن تدخلت وحدات حماية الشعب بالتنسيق مع التحالف الدولي، وتمّ تحرير مدينة تل تمر وقرى الخابور الآشورية. كل هذه المعطيات من شأنها أن تُعرّض إدارة ترامب لانتقادات واسعة حتى داخل الحزب الحاكم، بما في ذلك تصريحات لدول أوروبية وعربية ترى أنّ تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها في سوريا، سيساهم في الإبادة ونشر الفوضى والتسبب بموجة نزوح واسعة بالمنطقة، كما سيساعد داعش على استعادة قوته، حتى بعد خسائره، وهم يرون أنّ الكرد وشركاءهم المحليون هم القوة الوحيدة التي تمكنت من تقويض دور هذا التنظيم، وما تزال مستمرة في ذلك.

 إنّ تخلّي الولايات المتحدة عن حليفتها قوات سوريا الديمقراطية لم يلحق الضرر بهذه القوات وحسب، بل ألحقت ضرراً بالأمريكيين أنفسهم وشركائهم في التحالف الدولي، ويمكن القول إنّ المعارك التي خاضتها قوات سورية الديمقراطية قد خدمت العالم بأكمله، فهي من قدّمت الشهداء وهزمت التنظيم بشكل فعلي، وهي من استطاعت  إرساء الأمن في المنطقة وضبط السيطرة على أسرى داعش، والبحث عن خلاياه النائمة ضمن المدن. كما حافظت على تعهدها بمساعدة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولذلك فإنّ أقلّ ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي لرد ولو جزء بسيط من الجميل، هو استخدام نفوذها لردع تركيا، والسعي لإقامة منطقة تتمتع بنوع من الحكم الذاتي في شمال شرق سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى