ترجمات

تركيا: الانتقام من الكرد

بعد 18 عاماً من قوة ونجاحٍ بلا منازع، يجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه فجأة في خضم العديد من الأزمات المحلية والأجنبية دون مخرج واضح. ويعتبر هذا وضعاً غير مألوفاً بالنسبة لسياسي بارز انتقل بسرعة من هامش السلطة إلى زعيم بلا منازع لأكبر اقتصاد في الشرق الأوسط.

تعد مشاكل أردوغان إلى حد كبير من صنع يده: اقتصاد مبنيّ على الفساد؛ وتدّخل كارثي في ​​سوريا؛ وإعلان الحرب على الكرد في تركيا. كل هذه المبادرات عادت عليه بنتائج عكسية. في الانتخابات المحلية التي جرت في 31 مارس/آذار، فقد حزب العدالة والتنمية (AKP) الذي يتزعمه أردوغان السيطرة على جميع المدن الرئيسية في تركيا، بما في ذلك أنقرة، المركز السياسي في تركيا واسطنبول المحرك الاقتصادي للدولة، وتساهم الأخيرة بأكثر من 30 في المائة من الناتج القومي الإجمالي لتركيا.

هذا لا يعني أن الرجل يتراجع، لا زال حزب العدالة والتنمية يطالب بإعادة الانتخابات في اسطنبول ويمنع رؤساء البلديات الناجحين في العديد من المدن الكردية في جنوب شرق تركيا من تولي مهامهم. أردوغان ليس بذاك الرجل الذي يخجل من استخدام القوة الوحشية والتخويف للوصول إلى هدفه، هناك ما يقرب من 10,000 من خصومه السياسيين في السجون، وتم طرد مئات الآلاف من وظائفهم وتم القضاء على وسائل الإعلام المعارضة إلى حد كبير. أي أن النتيجة النهائية للانتخابات لم تحسم بأي حال من الأحوال.

لكن استخدام القوة لن يؤدي إلا إلى تفاقم مشاكل أردوغان.

الكرد مثالٌ على ذلك، عندما حقق حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الذي يشكل الكرد غالبيته، نجاحاً انتخابياً عظيماً عام 2015 – حصلوا فيها على 81 مقعداً في البرلمان وحُرِم حزب العدالة والتنمية من الأغلبية – كان رد أردوغان على ذلك بإنهاء محادثات السلام مع الكرد واحتلال البلدات والمدن الكردية.

وبدلاً من كسب الكرد إلى جانبه، حصد حزب العدالة والتنمية الرياح والأعاصير في انتخابات مارس/آذار ولم يكسب شيئاً. يظهر تحليل حول سباق انتخابات ولاية اسطنبول أن تحالف حزب العدالة والتنمية (AKP) مع حزب الحركة القومية اليميني (MHP) فاز بحوالي نفس النسبة من الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، وينطبق الشيء نفسه على معارضي حزب العدالة والتنمية – حزب الشعب الجمهوري العلماني (CHP) وحليفه حزب الخير اليميني.

الفرق هو عدم ترشح حزب الشعوب الديمقراطي. وكان زعيمه المسجون، صلاح الدين دميرتاش، قد حث الكرد ومؤيديهم على التصويت ضد مرشح أردوغان. لقد فعلوا ذلك إلى نحو كبير وزادوا من رصيد مرشح حزب الشعب الجمهوري. اعتبر هذا نمطاً محبباً إلى حد كبير بالنسبة لبقية البلاد والذي تسبب بخسارة حزب العدالة والتنمية لمدن أخرى مثل إزمير وأنطاليا ومرسين وأضنة.

عندما شنت الدولة التركية حرباً ضد الكرد في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، نزح العديد منهم من المناطق الريفية للعيش في المدن. يبلغ نسبة الكرد في اسطنبول حالياً حوالي 11%. أي أنها أكبر تجمع للكرد في العالم. لذلك إذا كانت هناك عبارة تلخص الانتخابات، فهي “الانتقام من الكرد”.

لكن فقدان حزب العدالة والتنمية لمراكز المدن الرئيسية ليس أكثر من نكسة سياسية. تعتبر المدن المحرك الرئيس للاقتصاد التركي، وعلى مدى السنوات الـ 18 الماضية، قام أردوغان بتوزيع مشاريع بناء ضخمة على الشركات الصديقة لحزب العدالة والتنمية والتي بدورها تعيد الأموال إلى الحزب. لقد حقق الرئيس نمواً على مر السنين، لكنه كان يعتمد على مثلث الائتمان والفساد والمحسوبية.

عندما عاد أردوغان للمكوث، وجد أن احتياطيات العملات الأجنبية قد انخفضت وانخفضت معها قيمة الليرة التركية، خرجت الديون عن السيطرة، ارتفعت البطالة – وخاصة ضمن فئة الشباب والمتعلمين. في حالة نادرة من السكون السياسي، ركز أردوغان في حملته الأخيرة على قضايا الإرهاب والكرد متجاهلاً استطلاعات الرأي التي أظهرت أن معظم الأتراك قلقون من ارتفاع الأسعار والبطالة أكثر من أي شيء آخر.

أردوغان والمصير الغامض

تجري تركيا محادثات مع صندوق النقد الدولي (IMF) حول خطة إنقاذ محتملة، لكن الرئيس يعرف أن ذلك يعني زيادة في الضرائب والتقشف، وليس بالضبط نوع البرنامج الذي يقدم الأصوات. لن تكون هناك انتخابات حتى عام 2023 حيث الانتخابات الرئاسية، لذلك لا زال هناك وقت لمحاولة تغيير بعض الأمور، لكن كيف؟ يشعر المستثمرون الأجانب بالقلق من التقلبات السياسية في تركيا، بالإضافة إلى أن الأوروبيون والأمريكيون غير راضين عن سياسة أردوغان الخارجية غير المنتظمة.

كان آخر التداعيات قرار تركيا الكارثي لعام 2011 بدعم الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد. لقد نجا الأسد – إلى حد كبير نتيجة الدعم الروسي والإيراني – والآن تستضيف تركيا ملايين اللاجئين وتنفق مليارات الدولارات نتيجة احتلالها لأجزاء من شمال سوريا.

حاولت تركيا في البداية أن تخلق تحدياً بين حلف الناتو وموسكو في سوريا – وقد أسقطت طائرة حربية روسية – لكن لم يرغب الناتو أن يكون طرفاً في أي جزء من ذلك الصراع. لذا تحول أردوغان عن خطته وأبرم صفقة مع موسكو شمل شراء منظومة صواريخ S-400 الدفاعية من روسيا مقابل 2.5 مليار دولار.

إن فكرة دعم المتطرفين من أجل الإطاحة بالأسد لم تكن جيدة، لكن ورغم ذلك لعبها أردوغان بشكل سيء.

كان صفقة S-400 مصدر غضب حلف شمال الأطلسي-الناتو (NATO) الذي لا يريد للتكنولوجيا العسكرية الروسية ذات التقنية العالية أن تتنصت على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي وخاصة على الطائرات الحربية الأمريكية المتمركزة في قاعدة إنجرليك الجوية التركية.

وقد هدد الكونغرس الأمريكي بمنع بيع تركيا مقاتلات من طراز F-35 من الجيل الخامس، على الرغم من أن تركيا مستثمر في المشروع. كما حذرت إدارة ترامب أنقرة من أنها ستطبق قانون “مواجهة خصوم أمريكا من خلال العقوبات” لعام 2017 فيما إذا قامت تركيا بشراء معدات عسكرية روسية، وهي عقوبات قد تلحق الضرر باقتصاد أنقرة المتأزم بالفعل. أي أن تركيا دخلت حالة الركود بشكل رسمي.

بدا الأمريكيون غاضبون جداً من صفقة S-400 هذه، حيث اقترح مجلس الشيوخ مؤخراً رفع حظر الأسلحة عن قبرص وتوقيع اتفاقيات الطاقة مع اليونان ومصر – الخصمين الإقليميين الرئيسيين لتركيا.

مع عدم قدرة تركيا على شراء طراز F-35، يتوقع بعض مستشاري أردوغان بلجوء أنقرة إلى روسيا من أجل شراء طائرات حربية من الجيل الخامس.

هناك بعض الأحاديث التي تدور حول طرد تركيا من الناتو، لكن هذا في الغالب مجرد خداع لمجرد حقيقة بسيطة هي أن الناتو يحتاج إلى تركيا أكثر مما تحتاج تركيا إلى الناتو. تتحكم أنقرة بممرات الوصول إلى البحر الأسود حيث ترسو العديد من السفن التابعة للناتو لإطلاق الصواريخ وتقع أكبر قاعدة بحرية روسية في شبه جزيرة القرم، وكما هو معروف للجميع أن العلاقات بين موسكو وحلف الناتو متوترة.

يبدو أن التحول الاستراتيجي التركي نحو موسكو غير مرجح. حيث يعارض الروس عداء تركيا تجاه الكرد في سوريا ولا يشاركون خصام أردوغان تجاه مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، هذا ولديهم خلافات مع أنقرة بشأن قبرص والقوقاز أيضاً. وعلى الرغم من مجمل الحديث المتعلق بزيادة التجارة بين البلدين، فإن الاقتصاد الروسي ليس أكبر بكثير من الاقتصاد التركي، وهو يجهد حالياً تحت وطأة العقوبات التي فرضها الناتو.

من ناحية، تبدي أنقرة غضبها اتجاه واشنطن لرفضها تسليم فتح الله غولن، الزعيم المسلم الذي يزعم أردوغان أنه يقف خلف انقلاب 2016 الفاشل. من ناحية أخرى، يعرف الرئيس التركي أيضاً أن الولايات المتحدة تتحكم إلى حد كبير بصندوق النقد الدولي وأنه سيحتاج إلى دعم أمريكي من أجل خطة الإنقاذ.

كيفية معالجة أردوغان لمشاكله الداخلية والتدخل الأجنبي بات الشغل الشاغل لأي شخص. عقد أردوغان، الرجل السياسي اتفاقية سلام مع الكرد وتبنى سياسة حسن الجوار على المستوى الإقليمي وأنقذ عشرات الملايين من الأتراك من براثن الفقر.

لكن أردوغان الآن قاد بلاده إلى حرب لا معنى لها مع الكرد وسوريا وقام بهدم الاقتصاد من أجل بناء الطاغوت الانتخابي وسجن المعارضين السياسيين وحول الديمقراطية التركية إلى حكم فردي.

إذا كانت الانتخابات المحلية درساً واقعياً لأردوغان، فيجب أن تكون أيضاً دعوة تحذير للمعارضة التركية السائدة. السبب الوحيد الذي سمح لحزب الشعب الجمهوري بأن يدير الآن المدن الكبرى في تركيا هو أن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي قد تنفس الصعداء وصوّت لصالح مرشحي حزب الشعب الجمهوري. يجب أن لا يكون ذلك سهلاً، لقد كان حزب الشعب الجمهوري صامتاً إلى حد كبير عندما شن أردوغان حربه على الكرد عام 2015 وصوّت مع حزب العدالة والتنمية لرفع الحصانة البرلمانية عن أعضاء الحزب. وقد مهد ذلك للرئيس التركي باعتقال 16 برلمانياً من حزب الشعوب الديمقراطي وزجهم في السجون وإقالة رؤساء بلديات حزب الشعوب الديمقراطي وسحق المدن الكردية.

أظهر الكرد تطوراً سياسياً هائلاً في الاقتراع التركي الأخير، لكنهم لن يتحلوا بالصبر إلى الأبد. يمكنهم تحدي أردوغان، لكن – وكما أظهرت الانتخابات – يمكن ذلك فقط من خلال جبهة موحدة مؤلفة من أحزاب اليسار. سيتطلب من حزب الشعب الجمهوري إيجاد حل سياسي لمطالب الكرد المتعلقة بالحقوق والحكم الذاتي.

ترجمة عن الانكليزية: جوان شكاكي

26 أبريل/نيسان 2019

إنترناشيونال بوليسي دايجست

https://intpolicydigest.org/2019/04/26/turkey-revenge-of-the-kurds/

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى