قضايا راهنة

لَعـنـــــــةُ العــفَــارِنـَـة… مِن لَجَبِ الحَرب إلى جَلَبِ الضَّحايا

ليس خطأً لغوياً، بل مقاربة جديدة. يختلف الزمان والمكان، وتتوحد الظروف المحيطة والنتائج، مؤدية لنتيجة تتلخص بلعنة مسخت الملعونِين، وازداد معها هبوط أسهم مسلّماتهم، والفكرة المسببة لقدومهم، ضمن أرتال عسكرية برية وجوية، ولو كان البحر قريباً لما وفِّر، ليكون دعماً مضافاً لعملية شكلت إحدى أوتاد ثبات العثمانيين الجدد، المتمثلين بسلطة حزب العدالة والتنمية، الرامية إلى خلق مجتمع جديد طموح لفكرة تتلاقى مع البعث في جمودها واعتمادها الراسخ على المديح المتملق، وتتضافر مع فكرة العائلة الأسدية من حيث الأبدية

يوماً ما في اليمن السعيد ماضياً، التعيس حاضراً، والمتفسِّخ مستقبلاً، صرح عبد ربه منصور هادي، محذراً من ثورة جياع، ليعلن أن الثورة حتى لو بغت سيثار عليها، بجيش من شعب متهالك يترامى على فتات الخبز وما تلفظه موائد الشبعى، أعلنها على الملأ، أن القادم ليس بأفضل، وفي يوم ليس بالبعيد قبل 7 سنوات، قيل لرجل من مذهب إسلامي في عقر منابع النفط، وعلى رؤوس الأشهاد، بأن المقتربين من حصص المتجمهرين على شرب عائدات النفط، سيكون مصيرهم إغضاباً غير مألوف، وخصاماً ليس بعده وصال، رغم أن هدف رجل المذهب، كان تمويل “ثورة” خرجت بـ “أسس مبنية على بلاد عادلة”، لم تحقق فيها العدالة إلى اليوم، ولن تتحقق مع شطر السكين المجلوخة بعناية، لكعكة مساحتها 185 ألف كلم مربع، كعكة قاعها نفط يشبه الشوكولا المرّة، مغطاة بدم أحمر يشبه عصارة التوت، في وسطها شمعة كعمود المرجة الذي علقت عليه وحوله جثث شهداء قتلهم باشا السفاح، وجاء جيل بعد 100 عام يصفق لأناس وضعوهم في سياقات تناسوا معها جرائم كثيرة، أغرقت فيها الأرض السورية بدماء معارضي الهوية العثمانية، كعكة زينت بزيتون يشبه الفستق الذي تتقاسم معه المحافظة.

الزيتون ذلك الذي أقحم في الحرب، أقحم عنوة من قبل عدو لقى فيمن صفقوا له، أداةً يمكنها بهم أن يصعدوا إلى ذرى جبال مطلية بالخضار ومرشوشة أرضها بزيت ملون بخضار ثمارها، معصور منها، أتوا إلى الزيت بعد أن بيع الزعتر، وكان أول البيع في سوريا للقادمين الجدد، الجالسين على آخر المائدة، عند الباب الذي تدخل منه الموائد، ويذكرها جيداً من كان يقاتل في الشمال قبل 2013م، موائد كان اللحم يكسوها حين ينفذون أوامر ما بعد الأسلاك الشائكة، ويكتفى بالطماطم والخبز حين يعصونها.

بين يناير ونوفمبر الباردين…صقيع الصوت الدولي ولهيب الحرب

هو 20 يناير البارد من العام 2018، حين أعلنت أنقرة الحديثة، المستقبلة للرؤساء والملوك بزي الحرس العثماني، عن عمليتها لحماية أمنها القومي الذي أدى صبر القوة الكردية على الحدود، لنفاذ صبرها، لتعلنها حملة عسكرية انتهت بتاريخ مشابه من مارس بسيطرة عسكرية أطلقت أطراف القوة الآتية تحت حملة باسم “غصن الزيتون”، أيادي سراق الأمس ولصوص اليوم، ومتنفذي الغد، لتطال لقمة العيش في أرض لم يعرف فيها سكانها غير الأرض المنبتة وسمائين إحداها خضراء وثانيها زرقاء، ينتظرون الزيت من الأولى والماء من الثانية.

هو الزيتون مبارك في قرآن الله المنزل على رسول وجدت تعاليمه الكثير في جبال بنيت البيوت فيها على عجل، ما لبثت أن باتت اليوم لاعنة، مشكِّلة حالة ((لعنة العفارنة))، فلطالما وأصابعي تكتب هذه الكلمات، وتكتب اسم العفارنة، ترتكب خطأً بزيادة نقطة كيبوردية، عبر الانتقال من حرف إلى جاره، ليصبح العفارنة في الخطأ ((عفارتة))، والأخير يعرف التنقل جيداً في أحراش الزيتون، في محيط بحيرة ميدانكي، يعرفون كيف يصلون النبي هورو وكيف يخطفون الوقت إلى جنديرس وراجو وشيروا وشيه، وكيف يلغون الحدود الجديدة المرسومة بالرصاص، فالانقلاب الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والعسكري وحتى الاقتصادي، حوَّل عفرين لحاجز ظالم يشبه حواجز مخابرات النظام، يجري من خلالها دس الأوراق المعارضة في صناديق السيارات المارة على عجل، بعد ملاحقة بسيارات البيجو 504، والسيارات رباعية الصفع، فاليوم في نوفمبر من العام الثامن عشر بعد الـ 2000، تختتم العملية الشرسة في جبال الزيتون أسبوعها الخمسين، وتقبل على الأول من بعده، حملة ألقت بمئات آلاف العفرينيين وزائريهم إلى خيام أقيمت بسرعة لهاث النازحين عنوة، تحت قسوة الظروف، فالقادم ليس بالصديق، وللشيخ مقصود شراكة قريبة مسافة وزمناً.

الأرقام فرضت نفسها، أرقام موت للضحايا ممن سبقت القذيفة خطواتهم، ومن خرقت صواريخ الطائرات مآويهم، وأرقام لاحقة للقتل تحت سوط “المحررين الجدد”، وأخرى مختلفة عنها، وهي للأخير ذكراً الذين مستهم اللعنة المذكورة آنفاً ألا وهي لعنة العفارنة، فالأرقام الموثقة تتحدث عن سلسلة هجمات ينفذها مجهولون زرعوا أنفسهم تحت ظلال الزيتون، بلغت عشرات الهجمات موقعة في كل هجوم قتيلاً من آكلي الزيتون وشاربي زيته الجدد. يوماً ما رفعت سيدة في صورة مظلومة يدها على أعتاب النزوح في كوباني، داعية بما في نفسها، ودعا معها كل أولئك الذين شاهدوها وبكوا، وبالعودة لعفرين المسلوبة، كما جارتها لواء إسكندرون، التي تناساها السوريون كما صمتهم المقزز عن عفرين، فقد كان الأتراك يحرصون عبر إعلامهم الموجه عنوة، إلى تثبيت فكرة “السوريين اللصوص”، ليمسحوا جيداً غبار الغابرات من الأقذار عن صورتهم أمام العالم، الذي اجتمع في رباعية اسطنبول وثلاثيات الآستانة وثنائيات سوتشي.

زيتون عفرين اليوم وبيوتاتها ومزارعها وكل ما أنشئ لسنوات طويلة من أسس خدمية واقتصادية، تدل عليها حلقات جذوع الزيتون المنحورة، باتت في عهد المثل السائد “حاميها حراميها”، وباتت مجالس البلدات المحلية المشكَّلة على عجل، آمرة ناهية، فتأتي التعميمات لتضفي عصة القبر على الموت، وتنهب اللقمة من حلوق العفارنة، وليأتي جيش سلم غوطة دمشق الشرقية مقابل عفرين، وينهب آلاف أطنان الزيت والزيتون، ويغتصب بكراً عفرينية لأن البويضاني المتسلي في أدغال تركيا فرحاً ببيعته، أراد شراء الزيت بنصف قيمته، وليحاول صبيان جيش الإسلام تطبيق الحالة التركية بإجبار المغتصبة على الزواج من قاتلها، ويدفع بالأب إلى الرحيل دون عودة مرتقبة، فيما مدينة عفرين وقراها، تشهد تناهش الناهبين والسارقين واللصوص الذي أصرت كاميرات أنقرة على إظهارهم بحلتهم التي وصفهم بها أحد المصورين، أنه لم يشاهدها في كامل تغطياته للحروب، حرب جديدة في كل يوم، لا يوقفها أي من الاطراف، وتنتهي بتقبيل اللحى والشوارب التي يُحلف بها زوراً، ليمتد الفتيل في كل يوم، ويردي الوازرين تلو بعضهم دونما هوادة، ويثبت أن لكل مظلوم لعنة تلاحق ظالمها وأن لعفرين أيضاً لعنة باتت اليوم لعنة العفارنة.

بين المساومة والمقاومة جرح نازف وإحصاءات دامية

بدت عفرين عند سقوطها كمشهد المتفجرات، الخطأ الأول كان الخطأ الأخير، وفي مشهد آخر ظهرت كشركة نوكيا للأجهزة المحمولة، لم ترتكب أي خطأ لكنها بطريقة ما سقطت، وهذا الأخير فرض عليها أن تعج بسنابك عجلات القادمين الجديد، فـ “الفاتحون” ما كانوا إلا غزاة شهد عليهم يوم النهب الأكبر، والذي أظهرته بعناية العدسات التركية الرقمية، في أعقاب فرض السيطرة على عفرين في الـ 19 من مارس من العام 2018، وحتى لا نوقع القارئ في زلل التحليل غير الدقيق للعبارة، فإن المساومة بدأت مع بدء المسيطرين على المنطقة الواقعة في أقصى شمال غرب سوريا، والتي انضمت بشكل آني وفي الوقت المنظور إلى لواء إسكندرون المسلوب عنوة من الأرض السورية في الشمال، وواقع الحال فرض على من لم يقبل الخروج من عفرين، أن يعيش تحت رزح هذا النوع الجديد من الاحتلال، الذي انطلق من يوم النهب الأكبر وتتابع عبر تقسيم عفرين إلى مناطق سيطرة متوزعة، وفقاً لتبعية التشكيلات العاملة ضمن عملية “غصن الزيتون”، والتي تألفت من حوالي 37 فصيلاً عسكرياً ما بين كتيبة ولواء وفرقة وجيش وفقاً لتوجهات مختلفة وحّدهم العمل تحت راية عملية مقادة وممولة من السلطات التركية بشكل مباشر وبمشاركة عسكرية للجيش التركي، فيما بلغ تعداد عناصر التشكيلات هذه ما يقارب 26000 عنصر، إضافة لمئات الجنود في القوات التركية ومئات آخرين من تنظيم الذئاب الرمادية التركية التي تعمل بمثابة ميليشيا رديفة عاملة في الداخل التركي والمشكّلة منذ عشرات السنوات وتنشط في الداخل التركي إلى يومنا هذا، فكان النشاط الفصائلي السوري نشطاً في الواجهة، مع إطلاق يدها من قبل السلطات التركية، التي بدأت منذ أيام في عفرين حملة أمنية لضبط الفصائل، على الرغم من الفتاوى التي أطلقها مجلس الأخوان المسلمين الإسلامي الذي ساوم سابقاً على العمليات العسكرية تجاه عدة مناطق سورية، والتي لم تلتزم بها أي من الاطراف، بل على العكس بات الاستيلاء والنهب كما يقول المثل السوري “على قفا من يشيل”.

في الوقت الذي ظهرت فيه عمليات فرض أموال على الباقين والمارين والخارجين والداخلين والمتنقلين، لم تكن الاعتقالات بأفضل حال من مثيلاتها من الانتهاكات، إذ أن الاعتقال تحول لتجارة رائجة رابحة، ساوم فيها المختطفون ذوي المعتقلين، وباتت مكاتب الصيرفة في عفرين وريفها، بمثابة مكاتب تتلقى الأموال من الملوعة قلوبهم، في الوقت الذي تصاعدت فيه الفدى المالية يوماً بعد الآخر، فبدأت بعدة مئات من الدولارات لحين وصلت لمبالغ تجاوزت عتبة الـ 20 ألف دولار للمختطف الواحد، فالعفارنة سجنوا في بيوت أصحابهم وجيرانهم وأقاربهم، سجنوا في مطابخ وحمامات وغرفة كانوا يتسامرون فيها يوماً عن غلالهم ومزارعهم، عن أعمار أشجار الزيتون، عن القادم المبهم والماضي الجميل، تناقشوا فيها عن وحشية النظام السوري في قتل المدنيين في جارتيهم حلب وإدلب، ليتفاجأ اليوم سكانها الباقون باختطافهم على يد أولئك الذين ادعوا أن أجدادهم تاهوا في غبار الزمان، وتركوا عفرين ليصلوا إلى ضفاف الفرات، متناسين أن الجبال لا تساكن إلا من لا يهابون صعودها، وبلغت حصيلة المعتقلين وفقاً لتقارير حقوقية من منظمات محلية ودولية زهاء 2500 معتقل بين معتقل ينتظر دوره في القتل أو افتدائه بمبالغ مالية تجمع بأكبر قدر من الإذلال، وبين من أفرج عنه لاحقاً لأسباب متفاوتة.

ومع الاستيلاء على مزارع الزيتون، المفتاة بقرارات المجالس المحلية، التي أسست لإدارة ذاتية في المنطقة ببصمات تركية واضحة، كانت هذه المزارع والجرود المحيطة بها، تعج بخلايا نشطة عمدت لاستهداف عشوائي مخطط له، في الوقت ذاته الذي تيقنت تركيا أن فتحها المعابر لعودة النازحين هو بمثابة سحب البساط من تحتها شيئاً فشيئاً من قبل السكان الذي لا خيار لهم سوى المصابرة على كل هذا الكم من الانتهاكات، وعمدت الخلايا التابعة للقوات الكردية التي كانت مسيطرة على عفرين لبضع سنوات، والمشكلة من أبناء المنطقة، لاستهداف مقاتلين وقادة بعمليات اغتيال مختلفة، فباتت الطرق موحشة لدى التشكيلات العسكرية المسيطرة، والتي بدأت تتقوقع على نفسها في الداخل العفريني عبر إنشاء مقار عسكرية كبيرة وإحاطتها بحماية وعدسات مراقبة، في محاولة للحد من هذه الاغتيالات التي تجاوزت الـ 75 عملية اغتيال رسمية، فيما جرت عمليات اغتيال أخرى متفرقة في مناطق مختلفة من عفرين، وأوقعت أكثر من 280 قتيلاً وجريحاً من القوات التركية والقوى العسكرية المعارضة للنظام والمحاربة للتواجد الكردي والتابعة لأجهزة المخابرات التركية.

آلاف المنازل نهبت، وجرى الاستيلاء عليها بشكل اعتباطي، دون تخيُّر، ومئات المزارع باتت رهينة أطماع المسيطرين، إما عبر استيلاء كامل أو جزئي، أو من خلال فرض أتاوات على المزارعين، وشراء محاصيل كاملة بأثمان بخسة، فيما عززت تركيا هذا الانتهاك عبر اقتلاع المئات من أشجار الزيتون وتعبيد طريقها الجديد نحو المعبر الذي افتتحته قبل أسابيع نحو لواء إسكندرون، لتتحول أرزاق المسلوب الجديد، عبر المسلوب القديم إلى أجواف الدولة الآمرة المنفذة، ووسط كل هذا لم تساهم الوسائل الإعلامية من وكالات إخبارية وتلفزيونات وراديوهات وصحف ومجلات ومنصات التباغض الاجتماعي، في إضفاء هالة سوداء على حاضر ومستقبل العفارنة وأرضهم، فيما بقي الماضي متهماً بذات التهمة التي حُوِّرت من حفاظ على الأرض والهوية إلى الانتماء لقوى معادية للمحتلين الجدد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى