قضايا راهنة

راهن الأزمة السورية والخطر التركي

سوريا التي شهدت حراكاً سلمياً، خالياً من رائحة البارود والقتل، تغدو الآن -وبعد مضيّ ما يقارب ثمان سنوات- ساحةً للنزاعات الدولية والإقليمية، عبر حرب أهلية، سماؤها يعجّ بالطائرات الحربية  لعشرات الدول التي تدعي صداقتها للشعب السوري، لم يبق مكان في أراضيها إلا وتجد فيه مخلّفات لمعدات عسكرية أو أشلاء متفسّخة ومشوّهة ،كتلك المشاهد التي يتم عرضها في الأفلام الوثائقية عن الحروب العالمية.

مؤتمرٌ تلو المؤتمر، تحالفات تلو الأخرى، اتفاقات، اختلافات، ويبقى السوري -ليس سواه- من يذوق مرارة الحرمان من الأمان والعيش الكريم.

حلقات متفرقة من الاجتماعات الدولية والإقليمية تعقد في مسارات عدة، جنيف، فيينا، القاهرة، أستانا، سوتشي، استنبول …. دون أن يكون للسوري تمثيل حقيقي فيها، سبعون دولة ادعت صداقة الشعب السوري، جلّها تلاشت وتراجعت؛ إلا واحدة منها، لعبت على حبل الصداقة فترة من الزمن، ثم استغلت ذلك لاحتلال أراضيها واستعباد شعبها، لتكون الأكثر خطورة من بين الفاعلين المشاركين في الأزمة على مصير سوريا وشعبها، خطر الدولة التركية…خطر المعتقد بأمومة الذئبة له.

لماذا تركيا هي الأخطر؟

لا غرابة في التركيز على الدولة التركية تحديداً كمصدر خطر دون سواه، ففي حقيقة الأمر يبقى الوجود التركي هو الأكثر خطورة من غيره، فالأمريكيين دخلوا سوريا لتثبيت نفوذهم السياسي والاقتصادي والحفاظ على هيمنتهم العالمية من خلال سوريا والشرق الأوسط، والروس كذلك الأمر، فضلاً عن سعيهم لكسر نظام القطبية الأحادية التي تمتلكها الولايات المتحدة منذ انهيار المعسكر السوفييتي، أما أهداف إيران فليست بخافية؛ فهي تطمح للحفاظ على مكتسباتها التي حققتها تحت مسمى الثورة الإسلامية، عبر المسار المذهبي (الشيعي) والذي يقوي من نفوذها في المنطقة من خلال سعيها لتشكيل الهلال الممتد بينها وبين لبنان، وبالتالي هذا ما يضعها في مواجهة اسرائيل ودول الخليج بالدرجة الاولى.

أما بالنسبة للخطر التركي، فله أبعاد عدة، سياسية، اقتصادية، عسكرية، توسعية.

فمنذ بداية الأزمة وهي تعمل على تجنيد المعارضة السورية لتحقيق أهدافها الآنفة الذكر، إلى أن تمكنت من فرض وصايتها على القرارين السياسي والعسكري للمعارضة، حيث احتلت ونهبت الثروات وابتزت دول الجوار طيلة الأزمة السورية بدعوى حماية الشعب السوري، فضلاً عن دعمها وإيوائها للجماعات الراديكالية الإرهابية، والتسهيلات التي قدمتها لتلك الجماعات عبر أراضيها، جميعها كانت للغايات نفسها.

لقد وضعت تركيا جميع إمكاناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية في سوريا لهدفين رئيسيين، الأول هو وأد المشروع الديمقراطي الذي يقوده الكرد في شمال شرق سوريا “روجآفا”، والثاني توسّعي يهدف إلى ضم الأراضي السورية التي احتلتها إلى جغرافيتها السياسية.

تركيا والتوازنات الدولية:

الأوراق التي امتلكتها تركيا خلال فترة الأزمة السورية كانت كفيلة بزعزعة التوازنات الدولية والإقليمية، فنتيجة دعمها لفصائل المعارضة أعطت بذلك ذريعة لروسيا والولايات المتحدة وإيران للتدخل المباشر في سوريا، إلى جانب استخدامها لتلك الفصائل وعوائلهم كورقة ضغط على الاتحاد الأوربي بما فيهم اللاجئين السوريين، وفي هذا الاتجاه أيضاً استطاعت تركيا تجنيد اولئك اللاجئين إضافة الى الفصائل العسكرية، لتشكّل منهم جيشاً تحت مسمى (الجيش الوطني السوري) لتتخذهم كمرتزقةً لها لتمرير سياساتها التوسعية.

وبهذا تكون تركيا -العضوة التقليدية في حلف شمال الأطلسي- قد تعاملت مع الأزمة السورية وفق توجهات سياسية خارجة عن الثوابت المتفق عليها مع حلفائها في الحلف الغربي عبر اتباعها لسياسة البلطجة والابتزاز السياسي، فضلاً عن أسلوب الضغط بالرهينة، على الأطراف الدولية كمسألة اللاجئين السوريين ضد أوروبا ومساندتها لإيران ضد العقوبات الامريكية وإبرامها لعقود اقتصادية وعسكرية عدة مع روسيا الاتحادية على حساب حلفائها في الناتو، وفي الجانب المعاكس تعمل على استخدام إدلب كمنطقة نفوذ لها للمقايضة عليها مع الروس والأمريكيين، فضلاً عن دعمها ومساندتها لدولة قطر في وجه المملكة العربية السعودية خلال الأزمة الخليجية وإثارتها لملف الصحفي السعودي جمال خاشقجي ضدها.

وما التحالفات والمجموعات الدولية التي نشهدها اليوم؛ إلا نتيجة لضبابية السياسة التركية في سوريا والمنطقة، حيث نجدها إقليمياً تتحالف مع روسيا وايران ضد الغرب في “مسار استانا” تعمل دولياً على خلط المحاور، كالقمة الرباعية الأخيرة في إستنبول التي جمعت بينها وبين كلاً من روسيا وألمانيا وفرنسا في أواخر الشهر العاشر الماضي بغياب أمريكي بريطاني ملحوظ، والذي سعى أردوغان من ورائها الى تشكيل حلف (غربي – شرقي) مبني على مصالح اقتصادية متعلقة بالطاقة الروسية، وأخرى سياسية تتعلق ببعض التناقضات في الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، إلى جانب سعيه لإضعاف دور المجموعة الدولية المصغرة في سوريا والمنطقة، والتي تضم كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن وبالتالي افشال مشروعهم الأكثر فاعلية بشأن الحل السوري .

ولكن يبدو أن القمة فشلت قبل البدء بها، ذلك نتيجة الرعونة السياسية من الجانب التركي، وهو إصرار أردوغان على متابعة ارتباط حكومته بالفصائل الإرهابية في ادلب، وبالتالي الفشل الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن اتفاقية إدلب، فضلاً عن مطالبته كلاً من فرنسا وألمانيا بإعطائه الضوء الاخضر لاجتياح مناطق شرق الفرات، الشيء الذي بدا إنه قوبل بالرفض، مما دفعه لاستخدام الرعونة والتصعيد من لهجته ضد إدارة شمال وشرق سوريا وتنفيذ ضربات عسكرية في مناطق غرب كوباني وأخرى متفرقة عقب اجتماع القمة الرباعية، وهذا ما دعت الولايات المتحدة إلى الإيضاح أكثر بشأن سياستها  في سوريا وشكلية علاقتها بقوات سوريا الديمقراطية، عبر خطوتها الأولى من نوعها الخاصة بزيارة بعض مسؤوليها العسكريين للمناطق الكردية، إسوة بالرقة وديرالزور، ومن ثم اعلانها على لسان وزير دفاعها “جيمس ماتيس”، على نيتهم في إنشاء خمس نقاط مراقبة على طول الشريط الحدودي الفاصل بين الدولة التركية ومناطق الإدارة الذاتية، والتي تعتبر بمثابة رد على التهديدات التركية وجيشها، ولكن تلك الخطوة ليست بكافية لردع الخطر التركي على سوريا وشمالها.

خاتمة:

تبعاً لحجم خطورة السياسة التركية ومخططاتها التوسعية تجاه سوريا والمنطقة؛ فإن الخيار الوحيد أمام الشعب السوري بكافة أطيافه وقواه السياسية هو الحوار السوري السوري الذي يهدف إلى إيجاد حل سياسي ينتج عنه دستورٌ يحفظ فيه جميع الحقوق السياسية للشعب السوري بما فيها القضية الكردية في سوريا.

وبالتالي هذه النتيجة ستشكل سداً منيعاً أمام التهديدات التركية في شمال شرق سوريا أيضاً بعيداً عن التعويل على القوى الدولية التي لم تظهر شيئاً ايجابياً يذكر طيلة فترة الأزمة السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى