قضايا راهنة

المِنطَقة العَازِلة مَنزوعَة السِّلاح بِين خُطوةٍ لكبحِ الجِّماح وأُسلوبِ تَقسِيم

يكاد الشمال السوري يأكل بعضه البعض، فحلب وإدلب نهشت في وقت سابق عفرين، التي بقيت هادئة طوال السنوات التي سبقت سقوطها المريع، والنظام والروس نهشا حلب في أولى مزادات البيع السري بين الروس والأتراك، وكان الطريق أمام الأتراك إلى عفرين والباب قبلها، معبَّداً بجثث الحلبيين، وقوافل الخارجين من مدينة الزعتر والصابون والأشلاء، كانت تشبه قوافل الداخلين إلى عفرين، وحملت القافلتان الكثير من ذات الوجوه.

تتسارع عجلة الأحداث على أرضية مطواعة كالجغرافية السورية، فتعج الأرض بالفرق والتشكيلات العسكرية، وتعمل دوائر المخابرات كخلايا النحل لتطويع الأرض أكثر، وتطويع العاملين عليها، بغية تنفيذ مخططات ذوي الرؤوس البيضاء، فيحاول كل طرف أن يشد اللِّحاف على طرفه أكثر من الطرف الآخر، وأن يمد بساطه ليمد قدميه ببعد أكبر، وهذا ما يحدث في الأنموذج الجديد على الأرض، فاليوم باتت السيارات تنطلق من حلب إلى معبر نصيب الحدودي مع الأردن دونما شيء يعكر صفوها، سوى حواجز قد فتحت جيوبها أمام الأتاوات التي تفرض بشكل متفاوت وكيفي، هذا الأنموذج المندرج تحت مسمى “منطقة منزوعة السلاح”، فالـ 17 من سبتمبر في العام 2018 شهد ولادة اتفاق جديد بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تمثل بمنطقة تستريح على مسافة نحو 15 كلم عرضاً من جبلي الأكراد والتركمان في الريف الشمالي لمحافظة اللاذقية، مروراً بريف مدينة جسر الشغور في الريف الغربي لمحافظة إدلب مع سهل الغاب في شمال غرب محافظة حماة مع ريف الأخيرة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، مستمرة إلى ريفي إدلب الجنوبي الشرقي والشرقي، وآخذة معها ضمن هذا السير ريف حلب الجنوبي مع القسم الغربي لمدينة حلب وصولاً لأجزاء من شمال حلب وشمال غربها إلى حدود عفرين المرسومة بالنار والبارود.

الطمع التركي في الرضا الروسي بغية تحقيق مشاريع مستقبلية، دفع بتركيا للقبول بالتعديل الجذري في الاتفاق، وقابله طمع روسي برضا تركي عن أمر مماثل، وينبغي إيضاح هذه الجزئية، فالاتفاق كان الصيغة الأولية المتفق عليها والخارجة للتطبيق، ينص على إنشاء منطقة منزوعة السلاح بشكل كامل، يسحب فيها النظام آلياته الثقيلة لمسافة ما يقارب 8 كلم على أن تسحب الفصائل بشكل مماثل آلياتها للمسافة ذاتها تقريباً، وتكون المنطقة خالية من السلاح الثقيل بشكل نهائي، ويجري بعدها البدء بتسيير دوريات روسية – تركية، كل في مناطق سيطرة المنفذين لأوامره، لتشهد الأيام التي تلت منتصف أيلول المنصرم تخبطاً بين المنظمين للاتفاق وبين التابعين لهم، فعمد النظام السوري لرفض الاتفاق بصيغته، وتعنَّت معها النظام في سحب آلياته، وهذه النغمة كانت ترقص كلاً من حزب الله والقوات الإيرانية المتواجدة بأعداد متفاوتة في منطقة نزع السلاح المتفق عليها، ما استدعى في هذه الخانة تدخلاً تركياً سرياً عبر أجهزة مخابراتها، لإقناع التشكيلات العسكرية المعارضة من معارضة “معتدلة” وأخرى إسلامية والتشكيلات “الجهادية” بوجوب تنفيذ التعديل غير المعلن في الاتفاق الرئاسي التركي – الروسي، وهذا كان أول محاولة تركية لإحقاق أمرين رئيسيين أولهما عدم الخروج بمظهر غير القادر على ضبط القوى العسكرية في مناطق سيطرته وانتشاره ورعايته، وثانيها عدم دفع الغضب الروسي للطفو على سطح العلاقات التركية – الروسية المؤسِّسة لمستقبل اقتصادي عميق وسياسي ثابت بين العدوين السابقين، ليأتي جيش العزة الذي يعد أول تشكيل عسكري مستهدف من الروس عند مشاركتها بشكل مباشر في الحرب السورية الدائرة في نهاية أيلول من العام 2015، ويفجر مفاجأة عبر فضح كواليس التعديل الجاري في الاتفاق، ما دفع تركيا مرة جديدة لمحاولة لملمة ما تحدثت عنه الفصيل الذي رفض الانحلال في بوتقة فصيل آخر أمدته تركيا بنحو 200 عربة سلاح وذخيرة أثناء تنفيذ اتفاق أردوغان مع بوتين حول المنطقة العازلة، وجاءت مفاجأة جيش العزة عبر التأكيد على أن تعديل الاتفاق ينص على سحب القوى المعارضة من “معتدلة” وإسلامية وراديكالية متطرفة، لسلاحها دون سحب النظام لسلاحه الثقيل، وأن الروس المقاتلون لهم طوال سنوات سيكونون ضامنين لعدم إتيان النظام بأي تحرك عسكري تجاه إدلب أو بقية المناطق المشمولة باتفاق المنطقة العازلة.

تشكيلات المعارضة السورية من جانبها دفعت الروس للسكوت عن العجز التركي في إقناع المنفذين لأوامرها ضمن مناطق رعايتها وضمانتها، وتجسد ذلك عبر التفاف على الاتفاق، دفعهم إليه ادعاءات عدم الثقة بالخصم الروسي، والتي تمثلت بما أعلنته تقارير إعلامية متتابعة لمنظمات سورية عديدة، عن قيام فصائل عسكرية مثل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وتنظيم حراس الدين وفرق عاملة في الساحل السوري وفصائل أخرى مثل التركستان والقوقازيين والأوزبك والـ “مجاهدين الإيرانيين السنة”، بعملية إخفاء ودفن السلاح الثقيل ضمن خنادق أقيمت لهذا الغرض، تحت ذريعة عدم الثقة بالروس والنظام، وهذا ما أجبر روسيا على الصمت حيال ما جرى من تقصير وعجز تركي، عن إجبار هذه الفصائل على سحب سلاحها الثقيل، وفي الوقت الذي حاولت موسكو وأنقرة إظهار انتصارهما في إرساء أنموذج جديد للحل “السلمي” في سوريا، كانت القوات الإيرانية تعمل مع القوى التابعة لها والنظام السوري على تقويض ما أسسته كل من روسيا وتركيا المتحالفتين بعد مصالحة بين رأسي هرميهما، فعمدت القوات المدعومة من إيران لتنفيذ هجوم بمساعدة عناصر من قوات النظام تمثلت بتسلل إلى مقر لجيش العزة المستهدف الأول من قبل روسيا، عند أول قصف طال الأراضي السورية الخاضعة للمعارضة المسلحة في نهاية أيلول من العام 2015، وجرى التسلل قبيل بداية يوم الـ 9 من نوفمبر وأفضى لقتل وجرح العشرات من جيش العزة في شمال حماة، بكمائن متتالية استعملت فيها مكائد عسكرية غابت عن ساحة القتال لأشهر طويلة، لتنتفض على الفور مجموعات الجهادي المصري أبو اليقظان، المعروفة باسم أصحاب العصائب الحمراء، وتشن هجوماً معاكساً على مواقع قوات النظام والميليشيات الممولة والمؤسسة روسياً، ولتعاود فصائل راديكالية عاملة في المنطقة العازلة لضرب قوات النظام وحلفائها بقوة في سهل الغاب بشمال غرب محافظة حماة وعلى الحدود مع محافظة إدلب وتوقع فيهم مقتلة كبيرة، جعلت من المؤسستين العسكريتين التركية والروسية تجتمعان على هامش اللقاء البوتيني – الأردوغاني في سوتشي مؤخراً لبحث المستجدات.

أنموذج المنطقة العازلة نحو التعميم

لا شيء عابر أو آني في سوريا، فالمستجدات التي تطرحها تطورات الأوضاع الميدانية من سياسية وعسكرية وأمنية، تفرض على الساحة السورية تعقيدات، يحاول فيها كل طرف الخروج بانتصار جديد ومكاسب مستحدثة، يكون فيها رأس الحربة، والأشهر الأخيرة أثبتت بدء الأطماع الإقليمية للدول المجاورة، فكان معبر نصيب الحدودي في الجنوب السوري، إسكات لأول الجوعى ألا وهو الأردن الغارق في أزمة الضرائب، التي زادت السيول الحاصلة في البلاد، من بلة الموقف الحكومي، فكان الإسراع في فتح نافذة خارجية أمام البلاد أولى الحلول التي يمكن كبح جماح الأردنيين تجاه حكومة بلادهم، فيما لا يزال الروس والأتراك يخططون لطريق آمن يصل غازي عنتاب بها، ويفتح لتركيا من جديد نافذة برية افتقدتها طوال السنوات الماضية بفعل الموقف المتناقض بين نظامي البلدين، إلا أن العمليات العسكرية وسيطرة أطراف مختلفة على الطريق عرقل إلى الآن عملية فتح هذا الطريق الاستراتيجي جداً، والشريان الاقتصادي للعديد من الدول، وحتى لا تنجرف تركيا نحو خُرج المال خاصتها، كان لا بد من ضرب عصافير عدة بحجر التقارب الروسي – التركي، إذ أن روسيا أنفقت كل محاولاتها لمنع عملية إدلب، بغية الحفاظ على ماء وجه أنقرة.

حجر أنقرة كان هذه المرة نحو شرق الفرات، والذي معه ضمنت منبج المراهن عليها من قبل التحالف الدولي، والضمان كان عبر إعادة تفعيل الدوريات المشتركة بين القوات الأمريكية المتجولة في منبج، والجالسة على مائدة واحدة مع قوات مجلس منبج العسكري، وبين أنقرة التي تسعى عبر ضغوطاتها وزيارات وزرائها العسكريين والسياسيين إلى واشنطن، لإرساء حل مشترك في منبج، فكان للولايات المتحدة الأمريكية أن تفعِّل الحل التركي لتبعد خطر الأخيرة عن هذه المنطقة، إلا أن عدم ثقة الأروقة السياسية والعسكرية للتحالف الدولي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية بردة فعل رئاسة الهرم التركي -الذي حاول استرضاء ترامب بمزيد من الصفقات- جعل ما بعد النهر إلى الشرق منه وحتى الحدود العراقية، في خطر جديد فعلته أنقرة عبر توجيه بنادق آلياتها إلى طول الشريط الحدودي من مثلث الحدود السورية – العراقية – التركية وحتى الريف الغربي لكوباني، ومعه دفعت أنقرة بصبيانها لعدم توفير ريف منبج من الاستهدافات المتلاحقة التي تصبو من خلالها، إلى تشتيت القرار ومحاولة الدفع بلقمة انتصار إعلامي للرئاسة التركية.

هذه اللقمة المدفوعة ظهرت في الابتعاد الأمريكي عن إظهار الموقف تجاه شرق الفرات، رغم استمرارها في تعزيز تواجدها عبر القواعد العسكرية البالغة نحو 20 قاعدة مختلفة من مطارات ومنشآت عسكرية يتواجد فيها التحالف الدولي بكثرة، في الوقت الذي كانت الدوريات الأمريكية تجوب طول الشريط الحدودي، وكأنما فيها فتح مساحة لاتفاق على شاكلة المنطقة العازلة، وهي اللقمة التي غصَّ بها سكان شرق الفرات، فأنقرة اليوم في أضعف الإيمان ستتفاوض مع قيادة التحالف الدولي على صيغة مشتركة ستكون على شاكلة المنطقة العازلة في إدلب، ويتمثل القرار المخمَّن بمحاولة إبعاد القوات العسكرية الكردية ونقلها إلى داخل شرق الفرات، وإفراغ كامل المنطقة الحدودية، ومن ثم إنشاء نقاط مراقبة مشتركة كل على طرفه بين أنقرة والقوات الأمريكية -بعد أن تنصلت فرنسا في اجتماعها الرباعي الذي ضم ماكرون وميركل وبوتين وأردوغان في اسطنبول من جوهر تواجدها فيما يشير إلى حل للخلاف الذي نشأ في أفريقيا بين باريس وأنقرة- فيما ستكون نقاط المراقبة فقط لمتابعة التطورات، ومن المرجح أن يجري نشر قوات مرضي عنها من الطرفين -باستثناء القوات الكردية- ونشرها على طول الشريط الحدودي كقوات حرس حدود تحمي هذه الحدود وتؤكد على سير الاتفاق المخمَّن الذي يحول دون عملية عسكرية برية تركية ضد شرق الفرات.

أنموذج المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، لا يكاد يليق بأية منطقة أخرى، فهذا الأنموذج لم يثبت فاعليته سوى في تقليل الموت بحق المدنيين، إلا أن الفصائل الراديكالية التي أوكلت مهمة نزعها من روسيا، إلى تركيا في وقت سابق، لا تزال تصول وتجول ضمن منطقة اتفاق الدب الروسي والذئب التركي، إلا أن درء المفاسد قد يكون مقدماً على جلب المصالح، فكواليس التحالف الدولي على ثقة كاملة بأن الاستعانة بقوات حرس حدود من الهجانة التابعة للنظام لن يكون مصيرها من تركيا إلا كمصير نحو 100 عنصر من قوات الدفاع الشعبي التي قتلت دونما رد من النظام في عفرين، لذا فإن المطلوب من القائمين على شرق الفرات خطوات محسوبة بعناية حتى لا يكون الأنموذج العفريني بديلاً عن أنموذج إدلب والشمال مع التحضيرات العسكرية التركية الترهيبية على الجانب الآخر من الحدود والتي بدأتها منذ أقل من شهر باستهدافات على شكل رسائل تطالب بالحل قبل غرق أنقرة فيما أخذته على نفسها أمام الرأي العام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى